• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الفقر المعنوي

الفقر المعنوي
◄في حديث للإمام الحسن (ع): "عجبت لمن يتدبّر أمر دنياه ولا يتدبّر أمر دينه".

إنّ الإنسان ليهرب من الفقر والعوز، فإذا شعر أنّ هناك نقصاً أو عوزاً في زاوية من زوايا حياته سارع إلى رفع ذلك العوز وسدّ ذلك النقص، فالفقر والعوز المادي واضح ملموس سهل الإدراك ولكن العوز الروحي والفقر الفكري على العكس من ذلك تماماً.

فالافتقار إلى المال مثلاً أمر يدركه ويلمسه الجميع ولهذا يحاول المرء ويسعى لمواجهة الفقر وقد يصل الأمر بالإنسان إلى الإسراف والإفراط في ذلك فيصاب بالحرص والطمع مما يترك آثاراً سلبية على المجتمع. كما أنّ الفقر يؤثر بشكل أو بآخر على مركز الإنسان الاجتماعي ولهذا فهو يسارع إلى تعزيز وضعه من خلال ذلك، وهذا الأمر ينسحب على مظهر الإنسان الخارجي أيضاً..

ولكن الإحساس بالفقر الروحي والافتقار إلى الأدب في المعاشرة والتربية في السلوك أدنى بكثير، فالإنسان الذي يعاني من فقدان الأدب والأخلاق الإنسانية والتربية الاجتماعية الصحيحة لا يدرك ذلك خاصة إذا كان ذلك مترسّخاً في أعماق روحه، وبعبارة أخرى إذا كان ذلك قد أصبح لديه ملكة من الملكات. وإن كان ذلك الطراز من الأخلاق شائعاً في المجتمع فإنّ الأمر هنا ينقلب إلى استحسان ودفاع.

كذلك الإنسان الفقير علمياً وفكرياً فإنّه لا يدرك جهله أبداً، والسبب كما قلنا يعود إلى أنّ الإنسان يهتم بطعامه وشرابه في حين يهمل جانب الفكر والعلم وهذا منتهى الجهل.

إنّ أوّل العلم هو الإحساس والشعور بالفقر في هذه الناحية أي أن يحس الإنسان بالعوز العلمي فيسارع إلى رفع ذلك العوز، وكلما تقدم في العلم شعر بالجهل أكثر، حتى إذا أصبح حكيماً أو فيلسوفاً إذا به يقول: لقد أنفقت عمري في طلب العلم ليل نهار فعلمت أخيراً بأني لا أعلم أبداً.

ولعل من أعظم الأشياء المؤثرة في حياة الإنسان والتي تعود عليه بالنفع الكبير هو الإحساس بالفقر العلمي والشعور بالجهل لأنّ ذلك يؤجّج في روح الإنسان حالة التعطش في طلب العلم، كما يؤجّج الحرص جذوة الاندفاع في طلب المال والثراء.

لقد سجل التأريخ حكايات عجيبة عن بعض النّاس الذين اشتهروا بالحرص والطمع وكانت مواقفهم تبعث على الحيرة في ذلك، ونظير هذه الحكايات نجد أعجب منها لدى أولئك الذين تأجّجت في نفوسهم جذوة طلب العلم، فهذا أبو ريحان البيروني العالم الرياضي والفيلسوف الكبير نراه وهو على فراش الموت يعيش لحظات عمره الأخيرة إذا به ينتهز وجود أحد الفقهاء الذين حضروا لعيادته فيثير مسألة فقهية بالرغم من وضعه الصحي المتدهور. وإذا بالفقيه يقول متعجباً: وهل هذا وقت للسؤال والبحث العلمي؟! ولكن البيروني يجيبه قائلاً: أن أعرف جواب هذه المسألة ثمّ أموت أفضل من أن أموت وأنا جاهل بها.

إنّ العلم والفكر هما غذاء الروح وإنّ على الإنسان الذي يفكر بتأمين طعامه وشرابه أن يفكر أيضاً بغذاء يشبع روحه، فهذا الاهتمام في جانب الجسم ينبغي أن يقابله اهتمام في جانب الروح حتى أنّ أحدهم يتساءل: لماذا لا يمد الناس أيديهم إلى الطعام في الظلام حتى يحضروا سراجاً يعينهم على تمييز ما يدخل إلى جوفهم، ولكنهم إذا جلسوا إلى مائدة الفكر لم يفكروا بسراح العقل ليبصروا ما يدخل رؤوسهم؟!

فكما أنّ الغذاء بعضه ينفع البدن وبعضه يضر، بعضه منشّط وبعضه يبعث على الضعف، كذلك الفكر يختلف في قيمته العلمية ويتفاوت في مستواه، بعضه يقوي الروح وبعضه يضعفها، بعضه يبعث الأمل في النفس والآخر يبعث على اليأس والقنوط، بعضه شفاء وبعضه داء.

فالتعاليم الدينية – مثلاً – تبعث الأمل في النفوس وتجعل الحياة قيمة سامية وتدفع الإنسان إلى التفكير في مصير الآخرين، في حين أنّ هناك تعاليم تبعث اليأس في النفس وتشوه معنى الحياة في الروح باعتبار أنّ الوجود الإنساني هو مجرد عبث وأنّ الحياة لا معنى لها أبداً، وبالتالي تصنع إنساناً متشائماً ينظر إلى الحياة من وراء منظار أسود. ►

ارسال التعليق

Top