• ٢٣ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٤ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

نفحات الله في ذي الحجة

نفحات الله في ذي الحجة

   ◄كم تفرح أمة الإسلام بهلال ذي الحجة كما تفرح بهلال رمضان، ففي العشرة الأوائل من ذي الحجة يتعرض المسلمون لنفحات الله كما يتعرضون لها في العشر الأواخر من رمضان، فقد جاء البيان النبوي مؤكداً فضل العمل الصالح في أيام ذي الحجة إذ يقول (ص): "مَا من أيّامٍ العملُ الصالِحُ فيها أحَبُّ إلى الله مِنْ هذه الأيّام" يعني أيام العشر، قالوا: يا رسول الله، ولا الجِهَادُ في سبيل الله؟ قال: "ولا الجِهَادُ في سَبِيلِ اللهِ، إلّا رَجُلٌ خَرَجَ بنفسه وماله، فَلَمْ يَرْجِع من ذلك بشيءٍ"[1]. ومعنى هذا أنّ العمل الصالح في أيام ذي الحجة يفوق منزلة الجهاد في ميدان القتال، ويرتفع إلى مستوى المجاهد بالنفس والمال فضحى بنفسه وماله في سبيل الله. ذلك من فضائل الله ورحمته بالمسلم والمسلمة في تلك الأيام (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (يونس/ 58)، وحسب تلك الأيام فضلاً أن يكون فيها يوم الحج الأكبر في عرفات ويوم النحر في كل الأقطار والأمصار، إذ يتقرب المسلمون إلى ربهم بإهراق الدم. ولكن بعض المسلمين يظلم تلك الأيام إذ يكتفي فيها بالصيام وربما استقر في الأذهان أنّ العمل الصالح في تلك الأيام هو الصيام وحده دون بقية الطاعات خصوصاً الطاعات التي تكلف أموالاً في باب النفقات والصدقات وقد تجد فينا موسراً يستهين بالأضحية ساخراً من مشهد الدماء بحجة أنها قذارة تلوث المكان، ذلك منطق بعض المسلمين في أيام ذي الحجة إذ يسخر من شعائر الله التي أمر أن يعظمها (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) (الحج/ 32). وقد تجد في المسلمين من يذبح ولا يضحي في يوم جعل الله شعاره التضحية. وقد تجد فينا الممسك عن الصدقات في أيام جعل الله العمل الصالح فيها أفضل من الجهاد.. وأعظم تلك الأيام يوم عرفات اليومُ الذي يجمع الله فيه أفواج الحجيج في موقف واحد وزمن واحد.


ترى الناس أصنافاً ومن كل بقعة
تساووا فلا الأنساب فيها تفاوت
إليك انتهوا من غربة وشتات
لديهم ولا الأقدار مختلفات

نخطئ كثيراً حين نجعل اليوم التاسع من ذي الحجة وقفة العيد وكأنه مجرد يوم نستعد فيه ليوم العيد، والحقيقة أنّ يوم عرفات كان عيداً لأُمّة الإسلام ففيه أكمل الله لنا الدين، وأتم علينا النعمة، ورضي لنا الإسلام ديناً، ونزل بهذا بيان إلهي على رسول الله (ص) وهو واقف بعرفات (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا) (المائدة/ 3)، ويوم عرفة هو يوم الوداع حيث وقف رسول الله (ص) فكان حديثه إلى الناس حديث المفارق المودع، نظر إلى الألوف المؤلفة في عرفات وهي تلبي وتهرع إلى طاعة الله فشرح صدره انقيادها للحق، واهتداؤها إلى الإسلام عندها أحس (ص) أنّه اللقاء الأخير بأمّة الإسلام في هذا المكان فمضى (ص) يفرغ في آذان الناس آخر ما لديه من نصح وإرشاد ويصرخ بهم كما يصرخ الوالد الحنون بابنه الذي انطلق به القطار يوصيه بالرشد ويحذره من مكامن الخطر.. وقف (ص) يودع الدنيا ويودع الأُمّة ويودع الجموع الحاشدة في عرفات فيقول: "أيها الناس اسمعوا قولي فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً" فليتنا نشعر بالوداع عند كل عبادة، فنصلي صلاة مودع، ونزكي زكاة مودع، ونصوم صيام مودع، ونحج حجة الوداع، كما حج رسول الله (ص) وليتنا في اليوم التاسع من ذي الحجة نستحضر هذه المواقف فلا تغيب عن الأذهان ونذكر أنّ رسول الله (ص) علمنا من فوق عرفات كيف تكون لحظة الوداع. وأنّ الحق جلّ في علاه لم يجعل يوم عرفة وقفة العيد وإنما جعله وقفة الأُمّة في يوم مشهود أنزل الله فيه على نبيه (ص) (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا).►

* أستاذ بجامعة الأزهر ووكيل كلية اللغة العربية الأسبق

المصدر: كتاب القرآن وقضايا العصر


[1]- أخرجه أبو داود (2/ 325)، برقم (2438) من حديث ابن عباس (رض).

ارسال التعليق

Top