• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

إنسان.. البُعد عن الله

أسرة البلاغ

إنسان.. البُعد عن الله

في الوعي والعمل

 10

 

إنسان.. البُعد عن الله

من (النسيان) إلى (الإنساء)

  

 

لجنة التأليف - مؤسسة البلاغ

 

 

الطبعة الأُولى: 1435هـ - 2014م.

الترجمة جائزة للجميع بعد عرضها على المؤسسة.

 



ركائز البحث:

نَسُوا اللّهَ فَنَسِيَهُ:

1-     قال تعالى: ﴿يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ * الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ * وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقَاتِ وَالْكُفّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ * كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالا وَأَوْلادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَما اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الخاسِرُونَ * أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾.

(التوبة/ 64-70)

 

 

نَسُوا اللّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ:

2-     وقال عزَّ وجلَّ: ﴿أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لإخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ * لأنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ * لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ * كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ * كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلإنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ * فَكانَ عاقِبَتَهُمَا أَنَّهُما فِي النّارِ خالِدَيْنِ فِيهَا وَذلِكَ جَزاءُ الظّالِمِينَ * يا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ * لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ﴾.

(الحشر/ 11-20)


 

-        من (النسيان) إلى (الإنساء):

لم يخلق الإنسان الذي لم يكن شيئاً مذكوراً دفعةً واحدة، بل مرّ بمراحل متعددة شاءت القدرة الربّانية أن يتسلسل فيها ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ﴾ (المؤمنون/ 12)، وصولاً إلى مرحلة (النفخ) التي وهبت الطينَ إنسانيته ليكون في أحسن تقويم.

مراحل وجود الإنسان السابقة على كينونته حيّا مميزاً، هي:

1-     إنتقاله من (العدم) إلى (الوجود الترابي)، وهذا جمود -كما يقال- بلا سيلان.

2-     إنتقاله من (الجمود) إلى (الوجود المائي).. وهذا سيلان بلا نموّ.

3-     إنتقاله من (الوجود المائي) إلى (الوجود النامي) بلا إحساس.

4-     إنتقاله من (الوجود النامي) إلى (الوجود الحيواني).. أي نمو وإحساس بلا إدراك.

5-     إنتقاله من (الوجود الحيواني) إلى (الوجود الإنساني)، وهذا نموٌّ وإحساسٌ وإدراك[1].

هذه التراتبية الخلقيّة غائيّة، مثلما أنّها إرشادية، أي أنّها تعني أنّ الصيرورة ليست تقدميّة دائماً وبشكل مطرد، وإنما هناك إرتداد وانكفاء وزيغ يمكن تفاديه إن وعى الإنسان ذلك وسعى إلى تداركه، فالسلالة تُشعر الإنسان المخلوق من مادة الطين أنّه ليس بالطين وحده يمكن أن يحيا ويعيش، ولا بالتحوُّل إلى كائن حركي تدبّ في أعطافه خصائص بنموه والإزدياد، وإنّما هو إنسان بنموه البدنيّ، وإحساسه الشعوريّ، وطاقاته النفسيّة، وإدراكاته العقليّة أيضاً، وبإجتماع هذه الشرائط والمقومات يكون الإنسانُ إنساناً، حيّاً، ومتعاطفاً، ومفكِّراً، ومتفاعلاً.

إنّ تحوُّل الإنسان الطينيّ من (الجمود) إلى (السيلان) ليس تحوّلاًمادّياً فقط، وإنما هو قابلية حركية مودعة ومستمرة فيه للخروج من طينيته المتكلِّسة أو المتحجِّرة ﴿خَلَقَ الإنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخّارِ﴾ (الرّحمن/ 14)، إلى حقول وفضاءات وآفاق تطوره وتساميه ذهناً، وخُلقاً، وسلوكاً وإثراءً للحياة، ولذلك يعرّف الإنسان -كما في المعجم الرائد- بأنّه المخلوق الحيّ المفكِّر الذي ارتقى وسما في تفكيره وأخلاقه[2].

وزينة الإنسان -مخلوق الله الأعظم- عقله، ولذلك لم يعرض يوسف (ع) جماله الفريد على ملك مصر، بل عرض عليه مواهب عقله وقدراته العلمية والإدارية والفنّية، لعلمه أنّ القيمة هي في (العقل) لا في (الصورة)، ومتى ما حكّم الإنسانُ قواعد عقله في مسيرته الحياتية، عُدّ (إنسان الله) وخليفته ونصيره، وإلّا إنسان الطين والحمأ المسنون الذي يرفض أن يغادر صلصلة (الصلصال) إلى تدفق السيولة أو يبارح الجمود إلى الحركة، والغريزة إلى العقل، والظلمة إلى النور.

بموجب هذا التوصيف لإنتقال الإنسان من طينيته إلى إنسانيته، فإننا لا نفهم الجاهل أو (الجاهليّ) على أنّه (الأُمِّي)، أو القليل الثقافة والمعرفة، أو الذي ينتمي إلى عصرٍ وثني سابق على الإسلام، وإنما هو (الجاهل) بمعرفته وقيمة نفسه، ولذلك تمّ الترحُّم على العارف قدر نفسه: "رحم الله امرءاً عرف قدر نفسه"! أي أنّ العارف بقدر نفسه وقیمه والمثمّن لقيمتها هو العالم والعارف، فالجاهل بنفسه هو الجاهل حقاً حتى ولو كان مكتبةً عامرة تمشي على قدمين.

ذلك أنّ التقييم الإنساني الموضوعي لا يعتمد العلم المجرّد رائزاً أو مائزاً أوحداً، وإلّا فالجاهل في الجاهلية كان أديباً أيضاً، وعالماً ببعض العلوم، وتاجراً بارعاً، وراعياً ممتازاً، ومقاتلاً شجاعا، لكن ذلك كلّه لم يعفه من سمة أو وصمة الجهل كونه جاهلاً بنفسه لا يدري أين يتجه بدفتها، كملّاح فاشل تقود الأمواج المتلاطمة سفينته إلى الغرق في القاع، أو التحطُّم في عرض البحر، ثمّ لا يهتدي بعد طول صراع مع الأمواج المتحدية إلى ساحل نجاة أو برّ أمان.

هذا المدخل التمهيدي، يمكن أن يشكل فاتحة لائقة للدخول إلى عوالم الآيتين الكريمتين اللتين تمثلان العمود الفقري لهذا الكتيب، أي إنّنا بصدد محاولة قراءة الآيتين لا قراءة لفظية، وإنما نجترح نوعاً من القراءة التفسيرية التي يمكن أن نصطلح عليها بـ(القراءة الميدانية) أو التطبيق الحقلي للنص، أو القراءة الإستلهامية له من خلال تهجّي تطبيقاته الحركية.

 

-        جولة في قراءات المفسِّرين:

تدور آراء المفسِّرين في (النسيان) الوارد في (التوبة) و(الحشر) حول معنيين لا تكاد تجد لهما ثالثاً:

1-     النسيان في قبال الذكر.

2-     النسيان بمعنى الترك.

وقد تجد خلطاً بين معنيي النسيان السالفين في نسيان الإنسان لربّه، ونسيان الرب لعبده، والحال -كما سيتبيّن- أنّ المعنيين مختلفان.

يقول المفسِّرون في نسيان الإنسان لله تعالى:

1-     تركه لطاعته وأوامره.

2-     تركه وإنكاره كلِّية (محوه من خارطة الحياة).

3-     تركه لذكره (غفلة تامّة مطبقة لا يُدخل الله تعالى معها في حساب).

4-     إضاعته للتقوى، والإخلاص.

5-     نسيان الله بالكفران والهجران والطغيان.

6-     لا يخش الله سبحانه كما يخشى أرباب القوّة، وأصحاب السطوة.

7-     تركه لأداء واجباته ومسؤولياته.

8-     نسيان أنّ النعم والمنح والمنن والأفضال إلهية حصراً.

9-     ذكره باللسان ونسيانه في الموقف والميدان، وعصيانه بالجور والعدوان.

10- نسيانه بالأعمال النفاقية الإزدواجية المتناقضة.

تلك هي أبرز العناوين المستلّة من روح وليس نصوص المفسِّر.ن، أمّا على الطرف الآخر من المعادلة: (نسيان = إنساء)، فيمكن إلتقاط مضامين أطروحات المفسِّرين في شأن إنساء الله الإنسان نفسه، بالتالي:

1-     نسيانه لنفسه عقوبة على نسيانه لدوره كخليفة لله تعالى.

2-     نسيانه العمل بالطاعة، أي يتمادى في نسيان الطاعة فيغرق في مستنقع المعصية، بمعنى عدم مراقبته لله تعالى في أعماله.

3-     تركه وشأنه (ترك إهمال للمزيد من الإرتكاس والإنتكاس والتردِّي).

4-     نسيانه من الخير وعدم نسيانه من الشرّ.

5-     إسقاطه من لائحة الهداة والموفقين المرحومين المثابين.

6-     لا يذكره تعالى بما يذكر به المؤمنين من الخير (إسقاطه من الإعتبار فلا يقيم له وزناً).

7-     تركه في النار يدفع ضريبة نسيانه لمسؤوليته.

8-     يُعامل معاملة المنسيين.

9-     نسيانه بالخذلان حتى يغلب عليه الهوى فيقع في مهالك الردى.

10- نسيانه الشكر والإعتذار وطلب التوبة.

11- لم يخلق في مداركه الفطنة لفهم الهدى فيعمل بما يصلحه في الدنيا وينجيه في الآخرة.

12- نسيانه في الشدائد لأنّه نسي ربّه في الرخاء، فالجزاء من سنخ العمل.

 

-        وقفة للتأمُّل:

هنا نقطة فاصلة لابدّ من التنبُّه إليها، وهي:

إنّ الآيتين الكريمتين لا تمثلان معادلتين حسابيتين متساويتي الطرفين، بمعنى أنّه لا يصحّ إعتبار نسيان الله شبيهاً بالنسيان البشري، أو كما هو المتعارف المتداول في العلاقات الإجتماعية السائدة.. فإذا ما نسي شخضٌ شخصاً آخر نسيانا معيناً، فإنّ الآخر يقابله واحدة بواحدة، أو يردّ له الصاع صاعين، فينساه كلّية كما نسيه، ويسقطه من قائمة إعتباراته وإهتماماته وعلاقاته، فهو يعمل بالمثل، ويقابل الجفوة بالجفوة، والإعراض بالإعراض.

أمّا في معادلة (النسيان) و(الإنساء)، فنحن لسنا أمام طرفين متساويين لا معنىً ولا قوّة، بل أمام خالق ومخلوق، ومطلق ومحدود، وقادر ومستلب القدرة، أو المستمد حوله وقوته من القوة اللامتناهية، وبين ذكور لا يضلّ ولا ينسى وبين متصفٍ بالنسيان.. وبحسب هذا الفصل النوعي العادل بين (الربّ) وبين (المربوب)، فإنّه من الظلم بمكان النظر إلى إنساء الله لمن نسيه على أنّه عقوبة جرّاء المساس بالذات الإلهية بما يقرِّب ذلك ويشبهه بفكرة الإعتداء على الذات الملكية أو الرئاسية.. نعم، إنّها عقوبة يستحقها المعاقَب بها، لكنّ الذي فرضها هو الإنسان على نفسه جرّاء طرده لذاته من ساحة الرحمة والإبتعاد بها عن مجالات الإمتداد والترقّي، أي أنّها ليست عمودية نازلة من موقع أعلى بإتجاه موقع أدنى، وإنّما هي عقوبة ذاتية مدورة مُستَحقة منبعاً ومصبّاً، وذلك هو قول الحق سبحانه: ﴿إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسأْتُمْ فَلَهَا﴾ (الإسراء/ 7).

هما خياران لا ثالث لهما: خيار (الإحسان) إلى النفس، وخيار (الإساءة) لها أو إليها.. ونضع خطين تحت لها أو إليها لنؤكد أنّ المسألة إختيارية وليست إملائية من الخارج.. نعم، الخارج، وهو الذات الإلهية، يجري قوانينه ونواميسه عليها على وفق اختيارها، فإذا اختار أحدنا الإحسان إلى نفسه منهجاً في حياته، فذاك هو الذي يكرِّمها ويعظِّمها ويضعها الموضع اللائق بها، ويسمو بها إلى مصاف النفوس العليا.. وإذا انتخب الإساءة إلى نفسه مساراً ومداراً، فهو الذي يهينها، ويذلّها ويُسقط إعتبارها وينزل بها إلى أحطّ دركات التسافل والضمور.

تلك هي عدالةُ الله التي (تُملي) تمدّ الحبل وترخيه، و(تُمهل) فلا تتعجّل العقوبة، و(تمدّ) في الأجل، وتضع الإنسان أمام نتائج إختياراته بصفته كائناً حُرّاً، وبحسبانه مخلوقاً مسؤولاً، وبإعتباره خليفة الله في أرضه والمؤتمن على أمانته، المراد له أن يُعمِّر تلك بالخير والبرّ والصلاح، وأن يحفظ هذه من الخيانة فلا يعيث في الأرض فساداً.

أمّا مقولة (الجزاء من جنس أو سنخ العمل)، فهي تعبير مطابق لهذا المُدرَك من مفهومي (النسيان) و(الإنساء) والذي يترتب عليه إستحقاق العقوبة لا بمعناها الإنتقامي المتشفّي، وإنما بصفتها جزاءًوفاقاً للإختيار السلبيّ الخاطئ بعدما تبيّن الرُّشد من الغيّ، والحق من الباطل، والهدى من الضلالة، والنور من الظلمات.. هنا نجد أنّ المسيئ يعاقب نفسه بمثل ما أساء على طريقة (على نفسها جنت براقش).

الجدير بالذكر أنّ (الإنساء) يستتبع النسيان حتى في غير العلاقة مع الله..أُنظر إلى نسيانك لأيّ واجب من واجباتك، أو موهبة من مواهبك، أو علاقة من علاقاتك، سترى أنّ الواجب المتروك، أو الموهبة المهملة، أو العلاقة المنسيّة كانت تدرّ عليك فكراً وحراكاً، ودفئاً عاطفياً، وعلاقات إجتماعية، وإبداعاً إنسانياً، وبمجرد تركها أو قطع علاقتك بها تبدأ بالتناقص والخمود، وأنها -بعد حين- لم تعد تهبك أو تؤمِّن لك تلك البركات أو السعادات المتتالية والمتكاثرة، لقد نفد الرصيد ونضب الخزين لأنّك لم تودع فيه جديداً.. نسيته لأنك قررت بمحض إختيارك نسيانه، وهو ليس مجاملاً أو مداهناً يعطيك وأنت تمنعه، ويزيدك وأنت تمسك عنه.

بهذه النظرة الميدانية المستوحاة من الحقول العملية التطبيقية للتفسير، يمكن أن نعيد النظر في المعنى المتداول للآيتين الكريمتين.. المعادلةُ إذاً ليست نسياناً إبتدائياً يردفه نسيان تبعيّ أو لاحق، ولا نسياناً للنفس في مقابل نسيان لله، فحتى لو نسي الله الجليل كلّ الناس، فإنّه هو الغنيّ الذي لا يضرّ عظمته شيء ولا ينقص من قدر جلاله قيد أنملة: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ (فاطر/ 15)، الغني عن كلّ حاجة لأنّ الناقص وحده هو الذي يحتاج.

إننا لا نلوم المطرَ إذا لم تشربه الأرض السبخة، وإنما نلوم الأرض الصامّة أذنيها لأنها فوّتت الفرصة، وضيعت سوانح الخير، ودفعت أيادي البركة رافسة كل ذلك بسبخيتها المتعصبة العنيدة، ولذلك بقيت تعاني شظف الجفاف، لأنها سدّت مسامعها عن سماع نشيد المطر، وأغلقت أبواب مساماتها من أن تتشرب قطراته، وأغمضت عيونها عن أن ترى فيوضاته المجانية الخيرية السخيّة، فإذا لامت أحداً على جفائها، فلا تلومنّ إلّا نفسها لأنّها أشاحت بوجهها الكالح عن بركات السماء، وأعرضت بجهلها عن العطاء والنماء.

 

 

-        رأي علماء النفس بالإهمال:

في تجربة شهيرة، أراد أحد علماء النفس أن يُحدِّد مدى أهميّة العاطفة بالنسبة للأطفال، فقام بفصل مجموعتين من المواليد مجهولي النسب في حجرتين من إحدى المستشفيات: في الأُولى كانت الممرضات تعنى بالأطفال ويقدمن لهم الغذاء في موعده، وفي أثناء ذلك يلاعبنهم ويحملنهم ويحنون عليهم كما تفعل الأُم. في الحجرة الثانية، كانت الممرضات يعطين نفس العناية بالضبط، ولكن بدون حرارة عاطفية ولا إهتمام أموميّ ملحوظ.

جاءت النتيجة مذهلة، ففي حين نما أطفال العاطفة نموّاً سليماً سوياً، ذبل أطفال التجاهل والإهمال وتساقطوا موتى الواحد تلو الآخر، إلى أن ماتوا بعد أيام جميعاً.. ماتوا بسبب الحرمان من العاطفة والتواصل البشري والحنان الأُموميّ.

في الحياة الزوجية، مثل آخر على مدى تأثير الإهمال والهجران والنسيان في ذبول شخصية المرأة وخمولها وكآبتها وانحسار موجات معنوياتها وعطاءاتها.. فالإهمال في المحيط العائلي والجوّ الأسريّ يمثل حالة من عدم إعطاء الطرف الآخر (الشريك) حقّه من المتابعة والمعايشة والمناقشة والحوار، والإحساس بإحتياجاته، وإشعاره بالقرب الدافئ الحنون المتلمِّس لمشاعره التي تهتز للشؤون الصغيرة، فإذا تكررت هذه الحالة من الإهمال النفسي أو المعنوي تسببت في تكريس الشعور بالغربة والعزلة وعدم الرضا داخل البيت، وانعكست فتوراً يصل إلى درجة القشعريرة في العلاقة، وفي التعاطي مع مفردات الحياة اليومية.

علماء النفس والواقع الحياتي يؤكدان أنّ الإهمال أو الهجران أو النسيان أو اللامبالاة بشخص، تجعله يشعر بأزمة نفسية خانقة، بل يؤثر على مستوى صحته العقلية والبدنية أيضاً، ذلك أنّ الإنسان ميّال بطبعه ان يُحَب ويُحِبّ، ويألف ويؤلف، وأيّة حالة من الإهمال القسري المتعمّد، أو الهجران والتجاهل تجعله يقاسي من حرمان شديد الوطأة حتى ولو تعمّد إخفاء ردود فعل مشاعره إزاء ذلك، إنّه يشعر بنكبة على مستوى الشعور بالرِّضا والسعادة والتواصل الإجتماعي (في تجربة الأطفال السابقة لم يمت الأطفالُ جوعاً لنقص في الطعام، ماتوا (جوعاً) لنقص في الحنان) ولذلك يحاول المهجور، أو المُهمَل إنسانياً، أو المتجاهَل إجتماعياً أن يُصلح أو يصالح ما بينه وبين مُقاطِعه، وقد يوسّط لذلك الوساطات، ويتوسَّل بالوسائل المذيبة للجليد حتى يعود إلى سابق تمتعه بالدفء الذي افتقده، أو يعوِّضه بعلاقة جديدة تتجاوز النسيان إلى الذكر والحضور، وتعبر الإهمال إلى العناية والإهتمام، من هنا يمكن أن نفهم لماذا عالج القرآن الكريم مشكلة نشوز (عصيان وتمرد) الزوجة بالهجران في المضاجع كمرحلة تالية للوعظ غير المجدي، لإشعار المرأة المطلوبة والمرغوب فيها، أنها لم تعد مطلوبة مرغوبة محبوبة، مما يترك أثره الحاد عليها ويخلِّف جرحاً نفسياً بليغاً لا تطيقه المرأة ذات الإحساس العالي بالحاجة إلى الحب والحنوّ والرفق، وإلى الإحساس بها وتحسيسها أنّها موضع إهتمام شريكها، وأنها تمثل حاجة مهمة وأساسية بالنسبة له.

بالإنتقال والمقارنة -بين هذه الأمثلة التقريبية أو التوضيحية- وبين نسيان الله تعالى لعبده المعرض عنه، المستكبر على عبادته، فإنّ الآثار الروحية ستكون أعمق، والجروح النفسيّة أبلغ، والوقع المعنوي أشدّ، لا لأنّ ذلك يُمثِّل قطعاً للإمدادات الغيبية فقط، وإنما لشعور الفقير (المحتاج) المعرض عن ربّه الغنيّ الحميد انّ الغني المطلق مستغن عنه، لا يعبأ ولا يكترث به، ولا يدافع عنه، ولا يستجيب له، ولا يهديه سبله، ولا يوفقه لخير، ولا يرزقه من حيث لا يحتسب، ولا ينجيه في المواقف الصعبة، ولا ينصره في معاركه، ولا يغفر له، ولا يحجز له في المستقبل مستقراً في دار رحمته.

 

-        مظاهر نسيان الله:

تتعدد مظاهر نسيان العبد لربّه، وأخطرها حالة القطيعة من طرف واحد، وهي حالة نسيان الإنسان -مخلوق الله ومربوبه- أنّ له ربّاً يفيض ويغدق عليه ألطافه ونعمه وبركاته، وأنّ بيده الأمر كلّه، وخطورة هذا النسيان متأتية من اتخاذ البديل المصطنع الهابط والسيِّئ وهو (الهوى) إلهاً، أو تنصيب الأصنام، بتعدد أشكالها، آلهةً، وكأنّ الإنسان -واعياً لذلك أم لم يكن- يرى أنّه لابدّ له في النهاية من إله يعبده وربّ يلتجأ إليه، فإن لم يكن إله الكون، وربّ الأرباب، وملك الملوك، فإنّه يعمد إلى إله يصنعه بيده، أو ذات سفليةيتعبّدها، الأمر الذي يشي بأنّ الحاجة إلى العبودية أو المربوبية (أن تكون عبداً مملوكاً لربّ) أساسية ولا يمكن الإستغناء عنها.

من هذا النسيان الكلّي المطبق تتفرّع نسيانات صغرى هي التي تؤدِّي مجتمعة إلى النسيان الأكبر، ويمكن أن نعرض لبعضها بالتالي:

 

1-    الإنشغال والإنصراف والإستغراق الدنيوي الكامل:

أكبرُ عوامل التهذيب والتربية والهادفية في خلق الإنسان هو إرتباط (التوحيد) بـ(المعاد) أي بالمبدأ والمنتهى.. متى ما نسي الإنسان (وهو كثير النسيان) حقيقة أنّه (كادحٌ) إلى ربّه كدحاً فملاقيه، وراح يلقي كلّ بيضه في سلّة الدنيا، فإنّه لا يشطر إنسانيته إلى شطرين متوائمين (دنيوي) و(أخروي) وإنما يُهشِّم كأس عمره على أرصفة الدنيا، كما يفعل السكارى عندما تفرغ قنانينهم!

من وجهة نظر إجتماعية، فإنّ الإنشغال الكلّي بشيء يصرف عن الإهتمام بشيء آخر، فإذا كان الإنشغال عن الله (القيام بالمسؤوليات التي أناطها بالإنسان) كلّياً، فإن أي إنشغال آخر -مهما بدا لوهلة أنّه مهمّاً- سيكون تافهاً ومفضياً إلى خروقات حياتية كثيرة لا يجد المنشغل عن مسؤولياته الربّانية مَن يسدّها له.

 

2-    ترجيح الناقص المحدود على الكامل المطلق:

يتسع أُفق الإنسان بإتساع نظرته أو حقل رؤيته، فإذا حصر إهتمامه في الناقصات المحدودات تقلّص إلى درجة الإنحسار المريع، فليس هناك في حياة الإنسان ما يملأ حاجاته النفسيّة وأشواقه الروحيّة غير شعوره المتنامي أنّه مرتبط -عموديّاً وأفقياً- بنظام ربّاني علوي قادر على تنميته إن من حيث الفكر والعاطفة وإن من حيث السلوك والممارسة.

وتحت عنوان ترجيح الناقص المحدود على الكامل المطلق يندرج عنوان الشرك الخفيّ أو المبطّن، وهو لون من اتخاذ المثل الناقص ربّاً يتحكّم من موقع ناقصيته بالآخر الناقص مثله الظانّ أنّ اتباعه السادة الكبراء (بحسابات وإعتبارات دنيوية أو مادّية بحتة) هو الذي يهبه ما يناله المعلّق آماله على الله الذي لا إله إلّا هو، بنو إسرائيل، -مثلاً- نسوا المنقذ المنجي الذي راكم أمامهم المعجزات الخارقة للعادة، واتبعوا عجل السامريّ!! ومثل السامريين كل عبدة الأصنام والأوثان الحجرية والبشرية.. إنّه لون من قصور النظر في رؤية الفاني المتناهي دائم لا متناهياً، والغريب أن قصيري النظر هؤلاء كثيراً ما يصطدمون بضآلة مخترعاتهم أو معبوداتهم المصطنعة، لكن (نسيانهم) لله يجعلهم (يكابرون) فيكبِّرون ما هو صغير.

3- نسيان الله يتجلّى أيضاً في الغفلة الناقصة أو التامّة عن كمالية برامجه ومناهجه وتعاليمه، وقد لا يصحّ هنا التشبيه بين المربِّي الأكبر وهو الله سبحانه وتعالى، والمربِّي الأصغر وهو الأب أو الأُمّ، ولكن الإبن الذي يخالف أو يضادّ إرشادات ووصايا والديه هو أشبه بسائق يسير في عكس إتجاه السير، لا يعلم بالضبط كم من الحوادث المؤسفة سوف يُخلِّف وراءه، وقد يكون أكبرها وأخطرها حياته هو شخصياً.

أصحاب الإفك -مثلاً- نسوا رقابة الله تعالى وتعاليم دينه وضوابط شريعته ولم يحكِّموها في تعاملهم مع (الإشاعة) فانساقوا مع مجرى أهوائهم ليتهموا النّبيّ (ص) في عِرضه، ولو أنّهم استحضروا وتذكّروا حقيقة: "ما زنت امرأةُ نبيّ قطّ" ذكّر بعضهم بها بعضاً، أو حذّر بعضهم من سوء الظن والتهمة والجهر بالسوء، وهي جزء من ثقافتهم الدينية والأخلاقية المنصوص عليها
-قرآنياً-، هل كنّا نشهد هذا الإنسياق الجمعي وراء الإشاعة؟!

4- نسيانُ الله أيضاً قد ينتج عن الإسترسال والإستغراق في المنح والعطايا الربّانية حتى ليرى النّاسي ربّه أنّ ما حصل أو يحصل عليه هو إستحقاق ذاتيّ محض وليس هبةً من رب رحيم، أو رزق من إله كريم، أو لطف من مولى عظيم، تماماً كما رأى صاحب البستان (الجنّة) أنّ ثمار بستانه لن تبيد، وكما تصوّر أصحاب الجنّة (البستان) أنّ الغدَ في أيديهم وسيقبضون من خلاله على حصاد بستانهم من غير استحضار للمفاجآت والإحتمالات.

لم يحضر الله عند هؤلاء الناسين له إلّا عندما حوصروا بالمحنة وتهديد الموت أو النكبة.. إنّهم -وأمثالهم كثيرون- ينسون الله على البرّ وهم سالمون معافون، ويذكرونه -رغماً عنهم- عندما تطغى أمواج البحر لإبتلاعهم!

5- ومن مظاهر النسيان البشريّ لله الحاضر والمنعم والقادر، إسقاطه من حساباتهم.. فالإنسان عندما يغتني لا يرى لله المتفضِّل عليه يداً في غناه، وحينما يبدع فكراً لا يرى أنّ عقله الذي أنجب أفكاراً مبدعة هو صناعة الله، وهو هبة الله، وهو علم الله، وعندما يحلل سياسياً يحسب لكلّ قوة مادية حسابها، ولا يدخل العامل الغيبي في تحليله السياسيّ، وقد يستخفّ بك إذا طالبته في إدخال الله في حساباته لأنّه يظنّ أن لا علاقة لله تعالى بالشؤون السياسية للناس، وعندما ينتصر في أيّة معركة مادية أو معنوية لا ينظر إلّا إلى ما أعدّه من قوّة.. وهكذا ترى كلَّ شيء حاضراً عنده إلّا الله فهو الغائب الوحيد في فكره.

(بلعم بن باعورا)[3] عالم بني إسرائيل الكبير أسقط حساب الله لحساب فرعون، فأخلد إلى الأرض واتبع هواه، فكان كالكلب إن تحمل عليه يلهث وإن تتركه يلهث.

6- التعالي على مقام الربوبية تكبُّراً وإستكباراً من موقع الجهل بقيمة العبودية، هو مظهر آخر من مظاهر نسيان العبد لربّه، ويمكن إستبيان ذلك من خلال الإستهانة بمفهوم العبودية لله واعتباره قيداً يُقيِّد حرِّية الإنسان، ومن خلال حسبان الإلتزام بالطاعات الشرعية التي تخدم مصلحة الإنسان أوّلاً، تكبيلاً لتلك الحرِّية، فهو يُفلسف كلّ ذلك على أنّه حدود وقيود تقف سداً بوجه حرِّيته التي يبحث عنها في تحرره من (المدرسة).

إنّه ليس إلّا تلميذ سائب مستهتر يرفض العلم والتعلُّم، ولا يرضى بالضبط والإنتظام، ولا يهمه، -بعد ذلك- إن عوقب بالرسوب، ما يهمه أن يتمرّد على (المعلِّم) و(المنهج) والمقررات والضوابط لأنها في نظره عدمية أو عبثية أو تسلطية لا همّ لها إلّا مصادرة حرِّيته، والحدّ من إندفاع أهوائه.

7- الإعتداد الزائد بالمواهب الذاتية والقدرات الشخصية، هو الآخر مظهر لنسيان مصدر الحول والقوة، فكأنّ النَّاسي لربّه نسيان قدرة ينسى أنّه لا يملك شيئاً إلّا ما ملّكه الله، وانّه (مُستخلَف) فيه (مسؤولٌ) عنه، هو في الجانب المالي (قارونيّ) يُردِّد كلّما ذكر إنجازاً أو موهبة أو نصراً قول قارون:

﴿قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ﴾ (القصص/ 78)[4].

وهو في الجانب الإستبدادي الإستعلائي فرعونيّ يرى نفسه ربّاً ﴿فَقالَ أَنا رَبُّكُمُ الأعْلى﴾ (النازعات/ 24).

 

 

-        أسباب النسيان ودواعيه:

قد يصعب حصر الأسباب الموجبة لنسيان الله، وتلك التي تدعو الإنسان كـ(مخلوق لله ومربوبه الأوّل) إلى نسيان أو تناسي ربّه، وخالقه والمنعم عليه، بما يؤدِّي لاحقاً وتبعاً لذلك إلى نسيانه لنفسه، ولكن يمكن إختصار بعض تلك الأسباب بسبب كبير جامع هو الجهل الكلّي بمقام الربوبية وتضخيم الرؤية الضيقة للذات.

يقول عالم النفس الفرنسي (بيير داكو) في كتابه (الإنتصارات المذهلة): "إنّ الإنسان يرى ذاته عبر ذاته، الأمر الذي يعرِّضه إلى الإنحراف بنسبة 90%.. أمّا الذين يستقبحون أنفسهم بصورة لا شعورية، فقد لا يعلمون أنّ في ذلك إنما تكمن بداية السموّ كلّ السمو".

إنّ رؤية الإنسان لذاته عبر ذاته لا يتيح له أن ينظر إليها نظرة تقويمية إصلاحية مستوفية، وإلّا هل رأيت عيناً ترى نفسهاإلّا بمرآة.. ومرآة النظر الصحيح المستوية وغير المقعّرة تأتي من الإنسلاخ من حالة الإعجاب المفرط بالنفس أو الذات لأنّ "الإعجاب يمنع الإزدياد".. ومن قبول النقد من الآخر.

ولذلك كانت التربية الذاتية أفضل الرقابات المهذِّبة وأكثرها فاعلية وتأثيراً.

يقول (بيير) في موضع آخر من (إنتصاراته المذهلة): "التربية تجثم فوق الدوافع وتفحصها واحداً بعد آخر، فتارة يقصّ مقصّ الرقابة التربوية هذا الدافع، وطوراً يدع الدافع الآخر يمرّ أي أنّه يفرض عليه ستراً مقبولاً"!

فإذا ما أتيح للرقابة التربوية التي تُهذِّب الدوافع وتؤنسنها أن تأخذ مسارها أو مداها الملائم، أمكن عندئذٍ ترويض (الأنا الخام) الذاتية المنكفئة على ذاتها.. ونقلها أنّ (الأنا العُليا) الإجتماعية الغيرية المتجهة إلى الآخرين، ولذلك يصف علماء النفس الأنا العليا بـ(مكتب الجمارك) أو (ثكنةالدرك)،فهي تفحص الدوافع فحصاً دقيقاً فتدع المقبول منها يمرّ، وتكبت الأخرى نحو المقاطعة التي أتت منها.. إنها (أنا) مروّضة أخلاقياً وإجتماعياً.

أمّا (الأنا الخام) غير المروضة، فيشبهونها بدوران السمك في الوعاء الزجاجي، إلى أن يأتي عامل تقني يوماً من الأيّام ليخرجه (أي السمك) من وهم أنّه كان يعيش العالم برمته[5].

بموجب هذا الوهم من رؤية العالم من خلال وعاء زجاجي، يرى (بيير) أنّ الإنسان ممزق بين حقيقتين: حقيقة ما هو عليه، وبين ما يعتقد أنّه عليه، وبالتالي فإنّ كل فقدان للتوازن يفصل الإنسان عن ذاته وعن إمكاناته. وهذا هو الدافع الأوّل لحمل الإنسان على تصوّر ذاته أنها تمثل العالم كلّه، ومن هذه النظرة غير الواقعية في تضخيم الناقص تنسدل الأسباب الفرعية لملازمة مساري (النسيان) و(الطغيان).

القرآن الكريم يُقرِّر حقيقة طغيان الإنسان في حالة (الغنى) الدافعة إلى (الإستغناء) بقوله تعالى: ﴿إِنَّ الإنْسانَ لَيَطْغى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى﴾ (العلق/ 6-7)، سواء كان هذا الغنى مادياً كالمال والأولاد والعشيرة والأتباع والأملاك والثروات، أو معنوياً كالموقع والعنوان والجاه والسلطان والعلم والعمل، وهل النسيان نسيان الله غير هذا؟!

ففي لحظة من لحظات طغيانه المستفحلة يرى الإنسان أنّ لا أحد أعلى أو أكبر أو أقوى منه، حتى (الله) واهب الحول والطول والقوة كفرعون القائل: ﴿أَنا رَبُّكُمُ الأعْلى﴾ أي أن ثقته المتناهية بقدرته الذاتية، أو بقدرة مخلوق آخر مثله، تجعله يستصغر مقام الربوبية والعظمة، فيرتكب جرّاء ذلك عدداً كبيراً من الأخطاء الفكرية والعملية الفادحة، ومنها:

1-    إسقاط عامل الغيب:

فلا يرى الناسي لمقام ربّه، المركّز أو الحاصر إنتباهه وإهتمامه على دائرة الذات الضيقة، إلّا عالم الشهود، والشهادة والفناء والمادة، فلا يخيل إليه إطلاقاً أن ما هو فيه زائل أو قابل للزوال، بل إنّه يؤمّل نفسه بالخلود غير الموجود أو غير المقدّر لهذه الأرض، ولذلك يحكم على نفسه بالسجن المؤبد بإحاطتها بعدد من القضبان التي كلّما تراكمت حالت دون رؤيته الحقيقة أكثر فأكثر، ومن تعلّق بالمادة فلم يتعدّ بفكره هذه الدنيا الفانية فقد ضيّع آفاق (الإمداد) و(الإمتداد)!! إلى آفاق العالم الآخر، عالم الخلود والإيمان.

2-    نسيان المعاد كلّية:

إنّ الربط بين (التوحيد) وبين (المعاد) كعقيدتين ليس هو تلازم مسارات، وإنما هو حقيقة كونيّة ربّانية واحدة ذات وجه واحد لا وجهين، فكما أنّ التوحيد يمثل نقطة البداية والإنطلاق في رسم الدائرة، فإنّ المعاد يمثِّل نقطة الإنتهاء إليها عند إستكمال محيطها، أي أن لقاء الله في الختام (لقاء السؤال) هو نفس لقاء الله في المبتدأ (لقاء المسؤولية).

فعندما يولد الإنسان يكون حديث عهد بربّه، ثمّ ينطلق إلى سياحته الأرضية، حتى إذا غربت شمس حياته وحان ليله، عاد إلى لقاء ربّه من جديد، فإذا صحّت الرؤية من خلال هذا المنظار، أصبح الإنسان واعياً تمام الوعي لما يراد به أو منه، مراقباً نفسه بأستمرار للقاء الإستجواب يوم القيامة، مستحضراً له على الدوام، موازناً لكلّ خطواته المتجهة من (مشرق) حياته إلى (مغربها) وهي المسافة الواقعة بين لقائين: لقاء المسؤولية عند خلقه ولقاء السؤال يوم معاده.

3-    التصوُّر الناقص أو المبتور بأنّ ذكر الله طقوسي شعائري فقط:

لابدّ هنا من التأكيد على أنّ الناسين لله نسياناً عملياً، صنفان:

1-     صنف قد نسيه تماماً.

2-     صنف قد نسيه نسياناً مؤقتاً أو موضعياً.

لمعرفة ناقصة، يرى الصنف الثاني أن ذكر الله ينحصر بكلّه وتمامه في الجانب الشكلي أو الصوريّ من عباداته دون العملي أو المضموني الذي يتسع بآثاره على الذات ومن حولها، أي أنّه ناسٍ أو متجاهل للتطبيقات العملية لهذه العبادات..

ما يهمه فقط هو إسقاط الواجب وإبراء الذمة بأداء التكليف بصورته الخالية من إنعكاساته التربوية والإجتماعية والأخلاقية والسياسية والإجتماعية والإدارية والقضائية.

ولعلّ الأخذ بالشكليات دون المضامين كان سبباً من الأسباب التي جعلت المسلمين يتأخرون أو يتخلفون في العهود المظلمة التي حبس فيها الإنسان علاقته المترامية بربّه في إطار المسجد، فلم يدعها تخرج إلى الحياة الضاجة خارجه.. لقد حكم على عبادته أن تكون طقسيّة مجردة، وأن تبقى تحت الإقامة الجبرية لمدد طويلة.

فالعبادة مدرسة إيمانية عظيمة تعدّ الإنسان لكي يكون إنساناً إلهياً شريفاً وصالحاً في كل مناحي الحياة، في البيت وفي المدرسة وفي العمل والمجتمع.

4-    الفهم الخاطئ لـ(رضا الله) والتقرُّب منه:

أولئك الذين ينسون الله نسياناً جزئياً أو موضعياً يفهمون رضاه فهماً مغلوطاً أحياناً، فقد يتقرّب بعضهم إليه بمحاربة القادة الربّانيين، ويتوسّل إليه بعضهم بتفجير نفسه بحزام ناسف أو سيارة مفخخة، وقد يتقرّب البعض إلى الله بالصغير دون الكبير فترق مشاعره لذبح حيوان ولا تهتز لذبح إنسان.. وقد يتحرّج من قطرة دم أو بول تقع على ملابسه التي يصلِّي فيها، ولا يتحرّج من المال المسروق الذي يشتري به الثوب.. وقد يعذِّب نفسه بطرق مختلفة، ولا يهذِّبها بالتربية والإصلاح.. ويسفح دموعه في التكايا، ولا يندى له عند تذكُّر المعاصي جفن.. ويقيم الدنيا ولا يقعدها لخروج سافرة بلا ستر، ولا يحاسب نفسه على النظر المحرَّم.. ويرفع صوته إحتجاجاً على الموسيقى والغناء، ولا يصمّ سمعه عن الغيبة والنميمة والتشهير.. يشتكي من الظلم والعدوان إذا اقتطع جزءاً يسيراً من راتبه، ولا يشتكي حرمان الناس من حقوقهم.. يقارف المعاصي ويمنّي نفسه بحجة مبرورة ترجعه كيوم ولدته أُمّه، أو يوكل أمره إلى الشفعاء ليتوسطوا له عند الله مع إصراره على المعاصي وعدم التوبة... وهكذا.

إنّ رضا الله كلٌّ لا يتجزَّأ، يطلب الصغير والكبير، في المسجد والحياة، في الفردي والإجتماعي، والإداري والسياسي، والتربوي والإقتصادي..

5-    توبة اللسان لا توبة الحال والبيئة والمسلك:

وربما اتخذ النسيان صفة أو هيئة التوبة اللفظية التي لا تصل إلى حدود الفعل المعبّر عن صدق التوبة، فلا توبة في الحال المتردية، والبيئة الفاسدة، والمسلك المشين، وإنما هي كلمات إستغفار (عابرة) (غير معبِّرة)، يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا﴾ (طه/ 115).

6-    التمنِّي والتسويف والإرجاء والتأجيل:

قد يتذكّر البعض المعاد في بعض مفاصل حياته لاسيما الصعبة والعصيبة منها، ويعرف أنّ نهاية أمره حساب إمّا عقاب وإمّا ثواب، لكنه يتناسى ذلك، ويمنّي نفسه بالأماني الراجحة، كما يؤخِّر الحج وهو مستطيع ليكون غسيلاً لذنوبه في آخر عمره وهو جاهل أن لا أحد يعلم خط النهاية لعمره، وكمن يسوِّف التوبة في شبابه، ويرجئ الإصلاح في أيام عافيته، ويؤجِّل التدارك في أوقات السعة، ويؤخر الإنفاق حتى يزداد غنى، وعسى أن يتاح له في المستقبل (المجهول) التمكُّن منه، وقد يأتي المستقبل (الغد) وهو تحت التراب[6].

هذا الإرجاء المتعمَّد هو لون من ألوان (التناسي) الذي قد يجرّ أو يتطوّر إلى الإنساء ولذلك حثت الروايات والأحاديث على التوبة قبل الموت وحلول الفوت، وعلى إغتنام الحياة قبل الموت، والشباب قبل الهرم، والصحّة قبل السقم، والغنى قبل الفقر.

7-    التعلُّق العاطفي القشري بالأولياء والصلحاء من دون التأسِّي والإقتداء:

ثمّة نسيانٍ أو تناسٍ آخر يُصيب المعرضين عن ذكر الله، والمتمردين على طاعته، أو الممعنين في الإستغراق بذواتهم والإنشغال بها عمّا سواها، وهو الإرتباط أو التعلُّق العاطفي بالأولياء والصلحاء والفضلاء والقادة الأبرار.

هؤلاء يحسبون أنّ الإكتفاء بالميل العاطفي دون العمل، أو بالحب مع إرتكاب الذنوب والمعاصي، أو الإنشداد النفسي مع الغفلة عن القيام بالتكاليف والمسؤوليات، سيكون سبباً كافياً لنجاتهم أو حصولهم على شفاعة الشافعين ممن ينجذبون إليهم ولم يعملوا بعملهم.

نُسمِّي هذا نسياناً لأنّ أصحاب هذا المنهج يرون أن أئمّتهم وقادتهم قد كُلِّفوا بالعمل ووضع أو رُفع عنهم، ولا يقوم هذا الرأي على إثبات أو دليل أو حجّة تدعمه وتعزِّزه وتؤكِّده.. نعم، يمكن أن تُصوّب هذه الفكرة بأن يعمل الإنسان المحب الصالحات، فإذا قصّر فيها فإنّ مَن أحبّهم يمكن أن يشفعوا له أو يتوسّطوا له عند الله ليسامحهم في التقصيرات، وإلّا فهيهات لا يخدع الله عن جنّته، ولا يساوي -وهو الحكم العدل- بين الذين يعلمون والذين لا يعلمون، وبين الذين يعملون وبين الذين لا يعملون.

8-    سوء الظنّ بالله تعالى في المنعطفات الصعبة والمواقف الحرجة:

قد يكون الناسي لذكر الله، أو لمقامه، أو لعظمته، أو لنِعَمه، أو لقدرته، ذاكراً له في (المحن) وناسياً له في (المنح).. وقد يكون ناسياً للقدرة الرّبانية في أوقات الشدّة والعسرة وانسداد الآفاق وإنغلاق الأبواب.

خذ على ذلك مثلاً، فبعض المسلمين من صحابة النّبيّ (ص) وجنده المقاتلين داخلهم الشكّ وساورتهم الظنون -عندما واجهتهم قريش بعدّتها وعدديها في أوّل لقاءً حربيّ بينهما- أنّ الله قد لا يمكنهم منهم ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاسًا يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الأمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأمْرَ كُلَّهُ لِلّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا ها هُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ﴾ (آل عمران/ 154)، وهكذا في المواقف المماثلة التي يعجز الإنسان عن الخروج من شباكها الملتفة حوله ويحسب أن لا أحد -حتى الله- بقادر على إنقاذه مما هو فيه.

إنّ نسيان الله تعالى في المنعطفات العسيرة وأوقات الشدّة يُعبِّر عن ضعف في الحساب الإيماني، لتصور الناسي لقدرة الله أنّه لا يعجزه شيء، فيوهمه الموقف الحرج الشديد الصعوبة أنّه أشدّ وأعقد مما يمكن للقدرة المطلقة أن تنقذ صاحبه منه (فرداً أو جماعة).. يا بئس ما يتصوّرون!

 

من الآثار والنتائج المترتبة على نسيان الله:

لا يترك نسيان الله أثره على الناسي في إيكاله إلى نفسه تلهو وتعبث به كما تشاء، يقودها هواها إلى غرورها ومناها وتسويلاتها ومشتهياتها المحرَّمة فقط، وإنما تتضح وتتجلّى منعكسات ذلك النسيان في أوجه ومظاهر شديدة الخطورة، إن على الصعيد الشخصي أو على المستوى الإجتماعي، والغاية من عرض أو إستعراض بعضها هو تبيان الخسائر التي يتكبّدها الإنسان -الفرد أو المجتمع- جرّاء سيره في الإتجاه المعاكس لإرادة الله، ومنها:

 

1-    الغطرسة والتجبُّر والتكبُّر والطغيان:

إنّ ضابطاً مهمّاً وكبيراً من ضوابط وكوابح الإندفاع بإتجاه السطوة والطغيان هو شعور الإنسان بـ(الفقر) أمام الغنى الإلهي، و(العجز) إزاء القدرة الربّانية.. فإذا ما خامر الإنسان شعور عقلي أو قلبي أو عملي واطئ وهو أنّه يزاحم ساحة الله تعالى في العظمة والجبروت، فإنّه ينسى مدى قدراته الذاتية التي يطلق عليها صفة (الإطلاق) وهي مقيدة بقيود (الإمكان) و(البيئة) و(الظروف) والعوامل الخارجية والموضوعية التي تنافسه في مضمار حياته.

حينما ذكّر إبراهيم (ع) النمرود بقدرة الله على الإماتة والإحياء، نسي النمرود قدراته الإنسانية المتواضعة وادّعى أن بإمكانها أن تكون في مصاف القدرة الإلهية: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلى الَّذِي حاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ﴾ (البقرة/ 258).

وحينما لم يرَ فرعون -في عنفوان غطرسته وجبروته- من موسى (ع) إلّا شخصه وضعفه البدني، نسي نبّوته كمرسل من قبل السماء، فاستصغره واحتقره واستعلى عليه ﴿أَمْ أَنا خَيْرٌ مِنْ هَذا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ﴾ (الزخرف/ 52).

وحينما استكبر وجهاء القوم مطالبين نوحاً (ع) بطرد الأراذل من الناس، لم يروا فيهم أُناساً يماثلونهم في البشرية أو الإنسانية، وإنّما اعتبروهم مخلوقات دنيا، ومواطنين من الدرجة الثانية.. عندما نسي التراب أنّه ترابٌ.. وغفل الطين أنّه طين، فكان كما قال (ايليا أبو ماضي):

نسي الطين ساعةً أنّه طينٌ*******حقيرٌ فصال تيهاً وعربد

نسيان الله ينسي الإنسان أصله، وأنّه مخلوق من ماء مهين، وأنّه لا فرق لولد إسماعيل (ع) على ولد إسحاق (ع).. إلّا بالتقوى.

 

2-    الظلم والعسفُ والجور والفساد:

يترشّح ظلمُ الإنسان لغيره من نسيانه لأصله وغفلته أنّه معبود لله، فما أنتخالجه أو تساوره مشاعر الكبرياء والعظمة والسطوة، حتى يبطش ويفتك ويسفك الدماء وينكِّل بخصومه، فيودع السجون الأتقياء، ويعذّب أو يحرم الأبرياء، ويسيئ إلى الشرفاء، ويلغي من ديوانه الفضلاء والنجباء.

نسيان الله سبب بارز وكبير في الكثير مما نشهده من جرائم الإنسان بحق أخيه الإنسان، فإذا لم يجد (الرادع) و(الحسيب) و(الرقيب) ولا يخاف المعاد، فما الذي يقف في طريق ظلمه وبطشه وفجوره وفساده؟!

إنّ للفساد أشكالاً أكثر من أن تعدّ، تبدأ بالتحلل من منظومة القِيَم والأخلاق، ولا تنتهي باجتراح قِيَم بديلة تقلب المنكر معروفاً والمعروف منكراً.

 

3-    حرمان الذات من التحليق في الآفاق العالية:

ليس بين يدي الإنسان منهاج تربوي متكامل وأكثر قدرة على التسامي بشخصيته في أبعادها العقلية والروحية والنفسية والجسدية من منهج العلاقة المقننة بينه وبين خالقه تبارك وتعالى، وبينه وبين أخيه الإنسان، وبينه وبين الطبيعة.

ولم يحظ الإنسان في مسيرته التأريخية -منذ النشوء- بمربٍّ يعلم تمام العلم بما يعلو وما يتسافل به، فإذا نبذ الإنسان هذا المنهاج الربّاني الشامل الكامل والكفيل برفعته، وتركه وراءه ظهرياً، فإنّه لا يُتهم برفض الدين فقط، وإنّما بالجنون أيضاً، إذ لا يمكن لعاقل يحكّم عقله بعيداً عن غرائزه وإنفعالاته وعن المتوترات الجانبية التي تحرفه عن مساره، إلّا أن يذعن تماماً لمقررات المنهج الذي يُؤمِّن له أفضل سُبُل السعادة، ويمنحه جناحين يطير بهما في الآفاق العالية: سموّاً إنسانياً، وإبداعاً معرفياً، وإنتاجاً حركياً، وإثراءً حياتياً.

نسيان الله دائماً ما يقود إلى حرمان الذات من فرص (التنمية) و(الترقّي) و(الإقتراب) من قاب قوسين أو أدنى.

 

4-    الإستخفاف والإستهانة بالعقول:

حينما يُقصى العقلُ من ساحة الحياة أو يهمَّش فيركن في زاوية ضيقة منها، تمسك الغريزةُ بالزمام، وعندها لا يبقى شيء عقلي موضع إحترام وتقدير وثناء، ذلك أنّ الغريزة مندفعة بإتجاه مغاير ومضاد للعقل، فإن لم يهذِّبها ويقودها إلى حيث مصلحته، ولم يخفف من غلوائها الحاد بجرعة أو جرعات متوازية ومتوازنة فسوف تتجه بصاحبها إلى الإستخفاف بالعقول التي تعدّ أفضل ما خلق الله تعالى على الإطلاق، وتتحوَّل وجهتها إلى إحلال الغرائزي الذي لا ينضبط بضابط ولا يُحكم بمعيار، محل العقلي الحكيم، وهذا ما نشهده في قطار الظالمين والمفسدين منذ أوّل محطة تأريخية خلع فيها الإنسان عقله (قابيل رمزاً)، وإلى آخر محطة معاصرة تدوس عجلات القطار منتجات العقل فيها.

نسيانُ الله نسيانٌ للعقل، فماذا يبقى من أسلحة الإنسان إن هو أغمد عقله؟! وماذا يتبقى في روائع إنسانيته إن هو نحّى عقله جانباً؟!

 

5-    إسقاط الرقابة الإلهيّة:

إذا نسي الإنسانُ العبد عبوديته لله، وأنكر فضل الله عليه، وأسقط دور التربية الربّانية في بناء شخصيته، فإنّه سوف يتصرّف من موقع كونه مالكاً مطلقاً يتخذ عباد الله خولاً (عبيداً) وماله دولاً (يتداوله هو والمقرّبون منه).. إنّه لا يكتفي بإمتلاك رقبة المال، وإنّما رقاب الناس ورقبة الحياة بأسرها، لسبب واضح هو أنّه لا يرى لأحد رقابة عليه.. فالمال ماله ينفقه في أي مكان من السفاهات والتفاهات والأبّهات، ويمسكه عمّن يخالفه أو ينكر عليه ذلك، والناس عبيده يجرّهم إلى مآربه الدنيئة كقطيع ومتى ما شاء إرسالهم إلى المجازر والمقصلة فلا يتردد لحظة.. إنّه -بسبب غفلته لرقابة الله- لا يعامل الناس أو الرعية معاملة الشياه والخرفان فقط، وإنما معاملة (الربّ) للعاصين أوامره والمتمردين على إرادته.

نسيانُ الله نسيانٌ لأكبر الرقابات في حياة الإنسان، وإذا سقطت الرقابة أو أُسقطت أمن الناسي لربّه العقوبة.. ومَن أمن العقوبة أساء الأدب!

 

6-    نسيان الموت والآخرة:

متى ما اعتبر الإنسان الدنيا دار خلود وبقاء، تشبث بها، وألقى بين يديها كلّ شؤونه، وبذل أقصى ما يستطيع من أجل أن يكون أشدّ الناس إنكباباً عليها.

لقد سبق أن ربطنا بين عقيدتي التوحيد والمعاد معتبرين أنّهما وجه لعقيدة واحدة.. فإذا ما نسي الإنسان ربّه، وألغاه من حياته، نسي قدرته على الإفناء وتمسّك بأسباب البقاء، والإبقاء، ونسي بنسيان ذلك قيمه القيِّمة، إذ أنّ المعاد -مثلما هو التوحيد- هو الذي ينظِّم للإنسان جميع قيمه الفكرية والأخلاقية والسلوكية والعلاقاتية، ولذلك كان سؤال غير الموقنين بالموت: أبَعد هذه الحياة حياة؟! فإذا انتهوا إلى نفيها وإنعدامها انهارت كلّ القِيَم والإعتبارات الإنسانية المهذِّبة والرادعة والمرقّية، وطالما انّه لا توجد هناك -بحسب الناسين لربّهم- محكمة قضائية عليا تدافع عن العدل وتدفع الباطل، لا يوجد ما يعوّل عليه في تغيير (الغابة) البشرية إلى منتجعات إنسانية، قال تعالى: ﴿وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذا وَمَأْواكُمُ النّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ﴾ (الجاثية/ 34).

النسيان من الرحمة الإلهية الأخروية جزاء لمن نسيها في الدنيا، فلم ينتفع بها، ولم يتراحم بها، ولم يتوسل بها إلى الرَّحمن الرَّحيم.

 

7-    عدم الإعتبار بالماضين (عدم الإستفادة من التجارب السابقة):

لم يذكر القرآن المجيد نماذج الناسين لربّهم كعينات طويت صفحاتها الحياتية ولم يعد لها مثيل أو نظير معاصر، هي أمثالٌ يمكن مقارنتها بغيرها من النماذج القريبة: (ستالين) و(هتلر) و(موسيليني) و(صدام) و(جاوجسكو) وغيرهم من العصاة والعتاة والظالمين والمفسدين.

تكرار هذه النماذج الرديئة والمسيئة والبذيئة، ومقاربتها، والعمل بوحي من أساليبها، يعني في ما يعنيه أنّ المقتدي بهم أو السائر على خطّهم هو أيضاً ناسٍ لربّه كافر به كفراً عملياً، وأنّه لم يتعظ بمآل ومصير الناسين للذات المقدسة، إنّه نسيان مركب: نسيانٌ لله ونسيان مصائر الناسين له، ومَن لم يتعظ بتجارب غيره وعظته التجربة بنفسه.

 

8-    إختراع وإبتداع وإشتراع أهداف ومآرب شيطانية فظيعة:

نسيانُ الهدف من الخلقة والغاية من فرصة الحياة الدنيا، وتبعاً لذلك، نسيان الخالق المربِّي والمنعِم المتفضِّل والإله القدير، باعثٌ لا شكّ على الإنحياز التام إلى معسكر الشيطان، مما يحمل النّاسي لقيمة نفسه بنسيان ربّه على القيام بأدوار شيطانية مريعة لا يرفع عنها خسّتها وخبثها ودنائتها، وصف الناس لها بأنها (ذكاء) أو (دهاء) أو (سياسة حازمة)، وحسبك أن تقرأ في التراجم والسير الذاتية لأي من شياطين الإنس الناسين لأنفسهم بنسيانهم لربّهم، لترى العجب العجاب، وقد عشتم وعشنا بعض فظائعهم التي يشيب لها الصغير ويهرم الكبير، ولو مات الإنسان منها كمداً لما كان ملوماً.

إنّه لأمرٌ طبيعي ونتيجة حتمية.. فمن لم يسلم زمامه لربّه استلمه الشيطان والهوى والطاغوت والآلهة المصطنعة.. إنّها عملية إستبدال بائسة.. إستبدال ما هو أدنى بالذي هو خير، مما يؤكد مجدداً أنّ الناسي لربّه، الشاطب له من خريطة حياته، إنسانٌ مجمّد ومعطل لعقله لمصلحة شيطانه وهواه وآلهته.

 

-        عودة لمطلع البحث:

إقتطاع النص من سياقه أو جوّه المحيط يُفقد الباحث أحياناً إمكانية فهم النص فهماً إستيعابياً شاملاً، لذا دعونا نعود للنصّين الشريفين المعتمدين في البحث لإلقاء نظرة أخرى عليهما من خلال اللوحة القرآنية أو وحدته التي يرتسم فيها مناخ النص، لنرى كيف أطلق القرآن هذه المعادلة في نسيان الإنسان لنفسه بنسيانه مسؤولياته الموكلة إليه من قبل ربّه.

 

النصّ الأوّل: (الآية 67 من سورة التوبة):

﴿يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ * الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ * وَعَدَ اللّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ * كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالا وَأَوْلادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَما اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ * أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾.

(التوبة/ 64-70)

هذا المقطع من سورة التوبة والدائر الحديث فيه عن فئة المنافقين الذين يخافون افتضاح نفاقهم، يُقدِّم لنا السبب الكبير في إرتكاسهم ونسيانهم لأنفسهم بالتخلي عن مهامهم الموكلة إليهم، وبذلك أضاعوا قيمة والمستثمرين أنفسهم كوجود بشري فاعل ومؤثر، وبالإنحطاط والتداعي المستمرين كإستتباع لحالة النكوص والإنكفاء والإعراض عن المنهج الربّاني، فما هي دواعي نسيانهم لأنفسهم بحسب المقطع الآنف الذكر؟

1-     إستهزاؤهم بالله وآياته (معجزاته) ورسوله، وهذا هو تعبير (نخوض ونلعب).

2-     غلق باب الإعتذار عليهم لإنقلابهم كافرين بعد إيمانهم.

3-     هناك عفو عن طائفة (ربّما أقلّ سوءاً وفساداً) وتعذيب لطائفة أخرى (أكثر سوءاً وضلالة وإنحرافاً).

4-     المنافقون آمرون بالمنكر وناهون عن المعروف.

5-     المنافقون ملّة (أُمّة) واحدة في مشتركاتهم النفاقية والخارجة عن الدين.

6-     المنافقون بخلاء في مواطن البذل الخيري (يقبضون أيديهم).

7-     مصير هؤلاء الحتمي الخلود في جهنم.

8-     منافقو بني إسرائيل لم يكونوا رجال مرحلة تأريخية أو مقطع زمني منبت لا نجد لهم نظراء، إنّهم مرشّحون للتكرار والتوالد في أزمنة مختلفة، مادامت العوامل التي تدعو لنشوء نفاقهم، واستفحال حركتهم متوفرة.

9-     لم يتعظ المنافقون بمصائر السابقين من أمثالهم، ولذلك تجدهم يكرّرون الأخطاء ذاتها.

من خلال هذه القراءة لفصول النص وبنيته التركيبية، يتبيّن لنا التالي:

إنّ سبب نسيان المنافقين أو إنسائهم لأنفسهم هو هذا الكمّ من الموجبات والدواعي لنسيان الإنسان لنفسه وتجذير (أناه الخام): إستهزاء بالمنهج الربّاني الكامل والداعي إلى الكمال، ومعاكسة (الإصلاح) بالفساد والإفساد: أمراً بالمنكر ونهياً عن المعروف، وبخلاً حيث يستدعي البذل والإنفاق، وعدم الإتعاظ بالتجارب الأُممية السابقة.

 

النصّ الثاني: (الآية 19 من سورة الحشر):

يقول تبارك وتعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لإخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ * لأنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ * لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ * كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ * كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلإنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ * فَكانَ عاقِبَتَهُمَا أَنَّهُما فِي النّارِ خالِدَيْنِ فِيهَا وَذلِكَ جَزاءُ الظّالِمِينَ * يا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ * لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ﴾.

(الحشر/ 11-20)

النص من سورة الحشر يناقش مسألة النفاق ذاتها، ومن خلال الأوجه الإضافية التالية:

1-     المنافقون اخوة الكفّار من أهل الكتاب (أخوّة سنخية من حيث إشتراكهما في الخروج من الدين واستغلاله).

2-     التحالف الكاذب مع الكافرين بالزعم من أنّ المنافقين متضامنون معهم في حال جرى نفيهم، ومناصرتهم إذا قوتلوا أو حوربوا (مجرد شعارات تمويهية فارغة).

3-     المنافقون يخافون المؤمنين خوفاً شديداً يصل إلى درجة الرهبة (خوف الكاذب والمدَّعي من الصادق المخلص).

4-     المنافقون جهلاء لا يعون حقائق الأُمور وبواطنها (إنّهم قشريون).

5-     المنافقون جبناء يتخذون من القلاع والحصون حاميات ودروعاً لمقاتلة المسلمين (عاجزون عن المواجهة).

6-     ليس المنافقون على رأي واحد وانسجام تام، هم أهواء مشتتة، وآراء مختلفة ومواقف متباينة، وقلوب متنافرة لا يجمعها إلّا النفاق (خليط غير متجانس).

7-     مثل المنافقين في كل عصر مثل أجدادهم وأسلافهم من المنافقين، هم أشباه الشيطان في الكذب والخذلان (الطيور على أشكالها تقع).

8-     مصيرهم الخلود في النار (أشعلوا نيران الفتنة في الدنيا فكان جزاؤهم من جنس عملهم نارٌ بنار).

النصّ إذاً -وإن انفصل مكانياً في القرآن- لكنّه متصل موضوعياً بنفس المقطع من سورة التوبة ولكن بمزيد من التوصيفات المعرِّفة بالنفاق وأهله، والمزيد من الفضائح وهتك الحجب والسُّتور، فما يمكن إضافته لدواعي (الإنساء) السابقة في نص (سورة التوبة) أنّ من موجبات نسيان المنافق لنفسه مؤاخاته للكافرين، وكذبه في وعوده وخذلانه في تحالفاته، وجهله المطبق، وجبنه الشديد، وتنافره مع الآخرين من جنسه.

وبالموائمة بين النصّين نخلص إلى أنّ المنافق هو الذي كتب على نفسه (الإنساء) لأنّه اختار طريقاً دونية تحقِّر النفس وتصغِّرها وتبعدها عن معارج الرقي والتسامي والنقاء، ولذلك فهو لا يلوم إلّا نفسه كتلميذ أهمل التحصيل السنوي فانتهى ساقطاً أو راسباً في صفه، هل يمكن له أن يلوم مديره أو مُعلِّمه أو مُدرِّسه أو منهجه الدراسيّ بأنّهم هم الذين تسببوا في سقوطه أو إسقاطه لأنّهم لا يريدون له الخير مثلاً؟!

لا أحد يقبل منه هذا اللّوم لأنّه كان بإمكانه إختيار النجاح برفعه من قدر نفسه، لكنّه آثر الإهمال فاختار الرسوب، فليتحمل الآن نتيجة إعراضه أو إهماله وتسيّبه واستهتاره واستكباره، مثلما تتحمَّل الأرض السبخة نتيجة إعراضها عن المطر النازل عليها، فلا تلقي (في الربيع) باللائمة على حباته التي لم تزرها (في الشتاء)!

 

-        معادلات قرآنية مماثلة:

يقابل القرآن الكريم -في غير موضع- بين العمل المشين وجنسه من الجزاء أو بما يناسبه من العقوبة المستلّة من طبيعته، وهذه بعض النماذج:

1-    مقابلة الزيغ بالزيغ:

قال تعالى: ﴿وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمّا زاغُوا أَزاغَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ﴾ (الصف/ 5).

2-    مقابلة المرض بالمرض:

قال عزَّوجلَّ: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ﴾ (البقرة/ 10).

3-    مقابلة النسيان الدنيوي بالنسيان الأخروي:

قال سبحانه وتعالى: ﴿وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذا وَمَأْواكُمُ النّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ﴾ (الجاثية/ 34).

4-    مقابلة الإستهزاء بالإستهزاء:

قال جلَّ جلاله: ﴿وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ (البقرة/ 14-15).

5-    مقابلة الخداع بالخداع:

قال تبارك وتعالى: ﴿يُخادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ﴾ (البقرة/ 9).

6-    مقابلة السُّوء بالسُّوء:

قال تقدست أسماؤه: ﴿وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظّانِّينَ بِاللّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيرًا﴾ (الفتح/ 6).

7-    مقابلة إحتكار الكنز بالكيّ به:

قال عزَّوجلَّ: ﴿يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذا ما كَنَزْتُمْ لأنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ﴾ (التوبة/ 35).

8-    مقابلة البخل بالبخل:

قال سبحانه: ﴿ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ﴾ (محمَّد/ 38).

9-    مقابلة الإساءة بالإساءة:

قال جلَّ شَأنه: ﴿مَنْ عَمِلَ صالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ (فصّلت/ 46). هذه الأمثلة القرآنية تقول كلّها بصوت واحد انّ العقوبة من جنس وسنخ العمل وبالتالي فإنّ (النار) صناعة بشرية مثلما انّ الجنّة صناعة إنسانية.

-وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين-


[1]- انظر: التفسير المبين، محمَّد جواد مغنية، في مستهل تفسير (سورة الإنسان).

[2]- من طريف معاني الإنسان في اللغة، أنّه الأرض التي لم تُزرع، الأمر الذي يعني الإستعداد الكامن فيه من أجل أن تزرع فيه بذور الخير أو الشر، وهذا ما عبّر عنه الإمام عليّ7في توصيفه للمولود بأنّه كالأرض الخالية تقبل ما يودع فيها.

[3]- بلعم بن باعورا: شخص من بني اسرائيل، كان يملك الاسم الأعظم، ويعرف الكثير من آيات الله وتعاليمه، ولكنه انحرف عن الخط المستقيم، فلم ينتفع بما يملك من المعرفة، ولمتابعة التفاصيل يمكن مراجعة تفسير الآية 176 من سورة الأعراف.

[4]- قارن بين هذا المنطق القاروني وبين المنطق السليماني، نسبته لسليمان (ع): ﴿هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ﴾ (النمل/ 40).

[5]- ثمّة نكتة ظريفة مستوحاة من عالم الحيوان تعبّر عن ذلك، حيث يروى أن نملة سقطت في أسفل بئر، وهناك التقت ضفدعا، فجرى بينهما حوار. سألها الضفدع: من أين أتيت؟ قالت النملة: من العالم الخارجي. سألها: وما هو العالم الخارجي؟ قالت النملة: إنّه عالم فسيح فسيح جدّاً -ولأنّ الضفدع قابع في قعر البئر لا يعي معنى العالم الفسيح- قفز من مكانه في طرف البئر إلى مكانها في الطرف الآخر، قائلاً: فسيحٌ بهذه الدرجة أو السعة؟!

[6]- يقول الشاعر:

لا تقل في غدٍ أتوبُ لعلَّ*********الغدَ يأتي وأنت تحت التراب

ارسال التعليق

Top