• ٢٨ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٨ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

سَيدةُ الليالي

أسرة البلاغ

سَيدةُ الليالي

 

سَيدةُ الليالي

-(ليلةُ القدر) رأسُ سنة الإنسان المسلم-


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

 قال تعالى:

﴿إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾ (سورة القدر).


 

على مدخل الكتاب:

هذا الكتاب قراءة ثانية لليلةٍ سنويّةٍ، هي عند خالقها وبارئها، من أعظم ليالي السنة وأشرفها على الإطلاق.. ليلةٌ هي -بذاتها- عاليةُ القدر، وبما يجري فيها من أحداث وشؤون ذات قدر، وبما ينالها مُحيوها -حقّ إحيائها- من شرفٍ وقدرٍ.

هذا الكتاب.. إطلالة من (شُرفة هذه الليلة المباركة) على سهل فُيوضها وبركاتها وتجلّيات عظمتها.

هو (استطلاعٌ) و(استكناهٌ) و(استبطانٌ) لمعانيها وأبعادها ومراميها، بقدر ما يمكننا أن نستشرف من ذلك، وبحسب ما يستطيع إدراكنا المحدود والمتواضع من أن يطالَ بعض ألطافها، وينال بعض ثمارها، ويرصد بعض تجلّياتها..


 

معلومات (قَدْريّة) من مفكّرة شهر رمضان:

1- شهر رمضان.. شهرُ إنزال القرآن:

قال تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ﴾ (البقرة/ 185).

2- شهر رمضان.. شهرُ إحراق الذنوب:

في الرواية عن النبيّ 6: «إنّما سُمّي الرمضان لأنّه يُرمض (يُحرق) الذنوب»[1].

3- أعظم الخير وأجزل الثواب فيه:

عنه 6: «لو يعلم العبد ما في رمضان لودَّ أن يكون رمضان السنة»[2].

4- أبواب السماء مفتوحة في لياليه:

وفي الخبر عنه 6: «إنّ أبوابَ السّماء تُفتح في أوّل ليلة من شهر رمضان، ولا تُغلق إلى آخر ليلة منه»[3].

5- رأس السنة الإسلامية:

من وصية الإمام جعفر الصادق 7 لولده عند دخول شهر رمضان: «فاجهدوا أنفسكم، فإنّ فيه تُقسّم الأرزاق، وتُكتب الآجال، وفيه يُكتب وفدُ الله الذين يفدون إليه (يعني في الحج)، وفيه ليلة العملُ[4] فيها خيرٌ من العمل في ألف شهر»[5].

6- شهر القيام:

ورد في دعاء الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين 8عند دخول شهر رمضان: «الحمدُ لله الذي جعل من تلك السُّبُل (سُبُل الإحسان) شهر رمضان: (شهر الصيام) و(شهر الإسلام) و(شهر الطَّهور) و(شهر التَّمحيص)[6] و(شهر القيام)[7]»[8].

7- لياليه أفضل الليالي:

في خطبة النبيّ 6 عند استقباله شهر رمضان: «ولياليه أفضل الليالي»[9].

8- صلاة تطوّعية واحدة في ليلة القدر تعدل أو تساوي (70) صلاة تطوّعية في غيرها من الليالي:

وعنه 6 في الخطبة ذاتها: «وجعل قيام ليلة فيه بتطوّع صلاة، كمن تطوّع بصلاة سبعين ليلة فيما سواه من الشهور»[10].

9- آخره عِتق!!

في الخطبة نفسها، جاء عنه 6: «هو شهرٌ أوّله (رحمة)، وأوسطه (مغفرة)، وآخره (عِتق) من النار»[11].

10- من مهام الملائكة فيه تكبيل الشياطين:

ورد عنه 6: «قد وكّل الله بكلّ شيطانٍ مَريدٍ سبعة من ملائكته، فليس بمَحلول حتى ينقضي شهرُكم هذا»[12].

حتى لا يفسدوا على الناس عباداتهم، إلّا إذا أراد الإنسان أن يُعين الشيطان على نفسه، فعندها يوكلُ إلى شيطانه الداخلي الذي يطيعه في معصية الله، ذلك إنّنا نرى بعض المسلمين يرتكبون المحرّمات في هذا الشهر، الأمر الذي يعني أنّهم لم يستفيدوا أو يغتنموا فرصة تكبيل الشياطين الخارجية، فراحوا يحرّكون شيطانهم الداخلي (هوى النفس) ليلعب دور الشيطان المكبّل، وكما هو معلوم فإنّ أعدى أعداء الإنسان نفسه التي بين جنبيه[13].

 

معلومات من مفكّرة الليلة ذاتها:

أوّلاً: تسميتها:

اُشتقت تسميات ليلة القدر إمّا من معنى (القَدْر)، وإمّا من صفات تلك الليلة العظيمة. فمعنى (القَدْر) لغةً كما يقول (الفراهيدي) في (العين): الضيّق، وإنّما كانت ليلة القدر كذلك -على الرغم من سعة بركاتها- لأنّ الأرض -كما ورد- تضيق فيها بالملائكة، وقيل (القَدْر) من (التقدير) فكما اختار الله تعالى من ساعات النهار أوقات الصلاة، ومن أيام الأسبوع (الجمعة)، ومن الشهور شهر رمضان، اختار من الليالي (ليلة القَدْر)[14]. وقيل إنّها ذات قدر وخطر وأهمية -أو قيمة- لأهمية وقدر ومنزلة المتعبّدين والذاكرين الله تعالى فيها. ومَن قائل: إنّها ليلة (التقدير) لما يشاء الله من أمر إلى مثلها من السنة القابلة.

وباعتقادنا انّها هي كلّ ذلك، فلا يصحّ -في اعتبار التسمية- الاقتصار على سبب أو وجه واحد.

امّا من حيث الصفة، فليلة القدر تسمّى (المباركة) تبعاً لقوله تعالى بحقّها: ﴿إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنّا كُنّا مُنْذِرِينَ * فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ (الدخان/ 3-4). والبركة -لغةً- -كما في المعجم الوسيط- النماء والزيادة، وقيل: السعادة.

سأل (حمران) الإمام محمّد الباقر 7 عن قوله تعالى: ﴿إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ﴾: هل هي ليلة القدر؟ قال: نعم، هي ليلة القدر. وهي من كلّ سنة في شهر رمضان في العشر الأواخر، فلم ينزل القرآن إلّا في ليلة القدر. قال الله عزّ وجلّ: ﴿فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ قال: يُقدّر في ليلة القدر كلّ شيء يكون في تلك السنة إلى مثلها من قابل، من خيرٍ أو شرٍّ، أو طاعة أو معصية، أو مولود، أو أجل، أو رزق، فما قُدّر في تلك الليلة وقُضي فهو في المحتوم ولله فيه المشيئة[15].

وهي (الموعودة) التي وعد الله تعالى فيها عباده المؤمنين الذين يقدّرون كلّ ذي قدر، ويعظّمون هذه الليلة بإحيائها بألوان التقرّب إليه، بجزاء عبادة تساوي ثلاثة وثمانين سنة. ويمكن أن تكون الموعودة المحددة الموعد.

وهي كذلك (المشهودة) لشهادة ملائكة السماء لها، وسيأتي الحديث عن ذلك في محلّه من البحث. وقد يكون معنى المشهودة أنّها مشاهدة من قِبَل عالم الغيب.

 وهي (ليلة القرآن) لنزوله فيها، وسنتحدّث عن ذلك أيضاً في حديثنا عن سورة القدر.

وهي (ليلة الروح) لتنزّل الروح (الملائكة) فيها، وقيل إنّ الروح هو جبرئيل 7، وقيل هو مَلكٌ آخر، ولكن قول الله تعالى في صفة جبريل 7 انّه الروح الأمين، يُفهم منه أنّ المراد قد يكون جبريل 7 نفسه، الأمر الذي يعني أنّ احتفالية السماء في تلك الليلة عظيمة، لتنزّل ملائكة الله العظام من ذوي القدر والشأن فيها.

وهي -كما في بعض أوصافها- (ليلة السلام)، لقول الحقّ سبحانه: ﴿سَلامٌ هِيَ حَتّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾ (القدر/ 5). والسلام اسم من أسماء الله الحُسنى، ويعني في الإسلام (التحية)، والسلام -لغةً- السلامة والبراءة من العيوب، وسُمّيت الجنة دار السلام لأنّ الإنسان لا يتعرض فيها لأي أذى نفسي أو جسدي، أو مادي أو معنوي.

 وسُمّيت كذلك (ليلة العروج) إمّا لعروج أرواح المؤمنين إلى الله في صلواتهم ودعواتهم، لأنّ الصلاة -كما في الأثر- معراج المؤمن، وإمّا لعروج الأعمال لصعود الصالح والمقبول منها إلى الله لتُحفظ عنده إلى يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلّا مَن أتى الله بقلبٍ سليم، وإمّا لعروج الملائكة بعد انتهائها إلى منازل قدسهم.

وهي أيضاً: (ليلة الاتصال المطلق) بين الأرض والسماء، بين سكان الكوكب الأرضي وبين الملأ الأعلى، وهو ما لم يحدث إلّا في حادثة الإسراء والمعراج، فكأنّ الله تعالى تفضّل على أُمّة الإسلام بنوع من أنواع الإسراء وشكل من أشكال المعراج الذي يناسب مقاماتهم، فكانت ليلة القدر.

وأياً كانت التسمية، فهي (سَيدة الليالي) التي لا تضاهيها في القدر والمنزلة ليلة من ليالي السنة، على ما في ليالي السنة من ليالي كريمة وعظيمة أخرى، كليلة الجمعة، وليلة العيد، وليلة الإسراء والمعراج، وليلة المبعث.. وغيرها.

غير انّنا لم نجد في ما بين أيدينا من تسميات لليلة القدر مَن أسماها (ليلة رأس سنة الإنسان المسلم)، والحال أنّها تستحق هذه التسمية وبجدارة، كما سيتضح من ثنايا البحث.

ثانياً: خيريّتها:

لماذا كانت ليلة القدر (خيراً من ألف شهر)؟

الخيريّة ناتجة عن واحد أو أكثر من الأسباب التالية:

1- باعتبار العبادة فيها خيراً من العبادة في ألف شهر ليس فيه ليلة القدر.

2- تخصيص الألف شهر بالذكر (للتكثير) أو المبالغة، أي خير من العمر كلّه.

3- هي عظيمة قياساً بحسب السعادات الدنيوية، أي إنّ ليلةً من ليالي السعادات الدينية أو المعنوية أو الروحية خيرٌ من الزمن المتاح كلّه.

4- وقيل هي خيرٌ من مُلك سليمان 7 الذي دام ألف شهر[16].

5- وقيل أيضاً هي خيرٌ من مُلك بني أُمية الذي دام ثمانين سنة[17].

6- ويُرجع البعض السبب في خيريّتها لنزول القرآن والملائكة فيها، والظاهر أنّ خيريّتها سابقة على ذلك، فهي عند الله في حساب الزمن الأفضل بين الأزمنة وبين الليالي، ولذلك اختارها لإنزال القرآن وتنزّل الملائكة، وهدية لأُمّة النبيّ محمّد 6. على أنّ ذلك لا يمنع أن تكون الخيريّة مركَّبة: زمنياً في الاعتبار الإلهي لقيمة هذه الليلة، ولنسبة نزول القرآن فيها، وتنزّل الملائكة، واصطفائها ليلة للقرب والتقرّب إلى الله تعالى.

ونميلُ إلى ما قاله (عمر بن الفارض) وهو أحد علماء الصوفية في اعتبار القرب والقربة والتقرّب هو اللحاظ المرعيّ لا اللحاظ الزمني فحسب، حيث يقول:

وكلُّ الليالي ليلةُ القدرِ إن دنتْ  كما كلُّ أيامِ اللقاء يومُ جمعةِ[18]

ثالثاً: توقيتها:

ورد في بعض الآثار والمرويّات، أنّ الله سبحانه وتعالى أخفى ليلة القدر، كما أخفى أسماءه الحُسنى وكما أخفى أولياءه في عباده، وكما أخفى أفضل الصلوات، ومثلما أخفى ساعة الاستجابة في الجمعة. وقيل في سبب الإخفاء: إنّه تعالى لم يعيّن وقتها كي لا يُستهان بها في ارتكاب المعاصي. وقيل: ليجتهد الناس بالعبادة ويحيوا جميع الليالي المظنونة أو المتوقعة طمعاً في إدراكها. ولذلك جاء في الخبر: «التمسوها في العشر الأواخر». كمن يقال له: هذه عشرُ غرفٍ في إحداهنّ كنز، فإنّه (لا يخمّن) أو (يرجّح) أو (يظنّ) أو (يجزم) بأنّ إحداهنّ على غير تعيين هي الغرفة المعنية أو المتعينة بأنّها ذات الكنز، وإنّما يحاول أن يجهد نفسه ويفتش فيها غرفة، غرفة، فأيّما غرفة عثر فيها على الكنز فهي (غرفة الكنز) حتى لو كانت الغرفة العاشرة، فإنّ فرحة العثور على الكنز سوف تُنسي عناء البحث عنه.

وحدّدت روايات أخرى أنّها في العشر الأواخر المفردات، فيُبتدأ بها من ليلة (19)، (21)، (23)، (25)، (27)، (29)، بل ويمكن أن تكون ليلة الأوّل من شوّال من بينها.

وقبل البحث في توقيتها لابدّ من وقفة قصيرة مع الآراء التي لخصناها للقارئ من أنّ الإخفاء ليس مقتصراً على ليلة القدر بل هو (منهج) مُتَّبع في غيرها أيضاً. فنحن نعلم أنّ أسماء الله الحُسنى معلومة سواء الـ(99) المذكورة المشهورة أو التي تزيد عليها، والله تعالى ذاته يقول: ﴿وَلِلّهِ الأسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها﴾ (الأعراف/ 180). فكيف أدعو بمخفي لا أعرفه أو غير ظاهر بالنسبة لي؟ والله سبحانه يقول في موضع آخر: ﴿قُلِ ادْعُوا اللّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الأسْماءُ الْحُسْنى﴾ (الإسراء/ 110)؛ الأمر الذي يعني أنّ الدعاء بأي من تلك الأسماء الشريفة المشرّفة هو دعاء بنظائره أو أخواته، وممّا يعني أيضاً أنّ لا تصعيب في التوجه إلى الله تعالى، فكلّ أسمائه المدعوّ بها هي أبوابه التي تنفتح عليه.

نعم، هناك كلام في (الاسم الأعظم) الذي قيل إنّه مخفيّ بين الأسماء الحُسنى، وهناك مَن قال إنّه هو (الله) وأياً كان، فالآية من سورة الإسراء تكفينا مؤنة أو مشقة البحث عن أيّها الأعظم فكلّها حُسنى وكلّها يمكن أن تكون الأبواب الموصلة إلى حضرة القدس وساحة الرحمة.

وامّا إخفاء الأولياء في العباد، فربّما قيل للاحتراز من ازدراء الناس المتواضعين أو البسطاء في مظاهرهم، فقد يتبسّط الإنسان في مظهره وهو يحمل جوهراً أو ذاتاً نفيسة، ممّا يعني احترام الإنسان لكلّ الناس لئلا يكون مَن لا يُحترم هو الوليّ.

والحال انّ الأحاديث والروايات، بل الآيات التي شخّصت الأولياء كثيرة ومتواترة، والحقيقة انّ تبيانها أو التأشير عليها ضروري لا لاحترامها وإجلالها فقط، بل لكي يعرف الناس مَن هو وليّ الله ومَن هو غير الوليّ، مَن هو الذي يستحق الاحترام حقيقةً، ومَن الذي يُحترم خشية أن يكون وليّاً ولا أحد يعلم به.

أمّا أفضل الصلوات، فقد قيل (الوسطى) لقوله تعالى: ﴿حافِظُوا عَلى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلّهِ قانِتِينَ﴾ (البقرة/ 238). وقد حدّد البعض (الوسطى) بأنّها صلاة العصر التي كثيراً ما يكون الإنسان في شغلٍ شاغل عنها لانخراطه في دوامة النشاط اليومي من كسب للعيش والمعاملات وإدارة العلاقات والأزمات، أي في هذا الوقت الذي ينصرف فيه الإنسان عن (ذكر الله) يدعوه تعالى إلى (ذكره).

وقيل هي (صلاة الفجر) لقوله تعالى: ﴿وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُودًا﴾ (الإسراء/ 78). والمراد بقرآن الفجر هو صلاته، وإنّما كانت هذه الصلاة مشهودة لأنّ ملائكة الليل وملائكة النهار يشهدونها فيسجلها كلٌّ منها لصاحبها، أو أنّ مشهوديتها نظراً لوقتها الذي يصحو فيه الإنسان من لذيذ الرقاد لمناجاة الله وذكره.

وبالنسبة لساعة الاستجابة في الجمعة، فأيّما وقت يخلو فيه القلب، وتصفو فيه النفس، وترقّ المشاعر، ويتجه فيه الفقر الإنساني إلى الغنى الرباني المطلق، فتلك الساعة ساعة استجابة، في الليل كانت أو في النهار، في الصلاة أو خارجها، في الجمعة أو سواه من أيام الأسبوع.

نعم، نحن لا ننكر ولا نريد أن نلغي خصوصيات (الزمان) وخصوصيات (المكان)، فكما انّ هناك أماكن يحبّ الله تعالى أن يُدعى فيها فيجيب، فكذلك هناك أزمنة مفضلة يجب أن يهتبلها[19] الإنسان ليحظى فيها بالمزيد من حصاد الألطاف والبركات. لكنّ السؤال المحوري هنا: هل (ليلة القدر) ليلة معينة لا تنتقل؟ أم هي ليلة متنقّلة بين العشر الأواخر؟

في الإجابة احتمالات:

1- لم يعهد في اللغة العربية أن عُبّر بليلة مفردة عن الجمع (ليالي)، في حدود اطلاعنا المتواضع بالطبع.

2- القول «التمسوها في العشر الأواخر» يستدعي -كالمثال الذي ضربناه عن الغرف العشر للبحث عن الكنز- إحياء الليالي العشر الأخيرة، أو الثلث الثالث من شهر رمضان كلّه. في الحديث عن عائشة: «إذا دخل العشر الأواخر أحيا (أي النبيّ 6) الليل، وأيقظ أهله، وشدّ المئزر (أي اعتزل النساء)»[20].

3- القول «التمسوها في العشر الأواخر المفردة من الشهر» وهي الليالي التي أشرنا إليها، فلربّما أُريد قيام أو إحياء ليلة واستراحة ليلة، وربّما اعتمد على أنّ (الوتر) خير من (الشفع) فقدّم الفردي على الزوجي.

4- هي ليلة واحدة ليس إلّا للقرائن التالية:

أ) لم يقل القرآن ليالي القدر (بالجمع)، بل قال (ليلة القدر) بالمفرد، وكذلك في قوله سبحانه: ﴿في لَيْلَةٍ مُبارَكة﴾، فلم يعدّدها ولم يرددها.

ب) ما ورد في رواية (الجهني) التي يرويها فريق من المسلمين من أنّها ليلة (23). و(الجهني) إعرابي مسلم كان يأتي المدينة ليحيي فيها ليلة القدر. قيل إنّه جاء يسأل النبيّ 6 عنها، فقال له -بحسب الرواية- اُطلبها في العشر الأواخر من شهر رمضان، فقال: أنا رجل أسكن البادية ويصعب عليَّ الحضور لأكثر من ليلة لإحياء ليلة القدر. فقال: ما أيسر أن تطلبها في ليلتين، وقيل إنّه حدَّد له ليلتي الحادي والعشرين والثالث والعشرين، فألحّ الإعرابي طالباً تشخيصها بالإشارة الواضحة والصريحة إليها، فأشار 6 عليه بليلة الثالث والعشرين.

فإذا صحّت رواية الجهني فليلة القدر واحدة غير مترددة ولا متعددة، وكذلك إذا صحّت رواية ليلة السابع والعشرين على أنّها ليلة القدر عند جمهور المسلمين اعتماداً على الدليل، فالدليل هو الحاكم على هؤلاء وأولئك.

لكنّ ما يدعو إلى التساؤل أنّ بعض المسلمين الذين يعتمدون الرؤية الهلالية العينية (أي بالعين المجردة) قد يختلفون مع أولئك الذين يقولون بصحة رؤية الهلال طبقاً لقول الفلكي، الذي أشارت دراسات علمية دقيقة، أنّ حسابات الفلك على قدر عالٍ من الدقة وأنّ نسبة الخطأ فيها نادرة جدّاً، وهي بالتالي رؤية أيضاً.

إنّ تحديد بداية الشهر القمري يكفل أو يضمن تحديد ليلة القدر سواء كانت ليلة الثالث والعشرين، أو السابع والعشرين، فهل كان الحديث الذي دعا إلى إحيائها في العشر الأواخر ناظراً إلى هذه المسألة؟!

5- إطلاق تسميات على الليالي الأخرى، من قبيل (ليلة القدر الصغرى) و(ليلة القدر الوسطى) يعني أنّ ليلة القدر الكبرى هي ليلة القدر، وهي ليلة واحدة.

6- ورد في الرواية عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق 7: «نزلت صُحُف إبراهيم في أوّل ليلة من شهر رمضان وأنزلت التوراة لستٍّ مَضينَ من شهر رمضان، وأنزل الإنجيل لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر رمضان، وأنزل الزبور لثمان عشرة خلون من شهر رمضان، وأنزل الفرقان (القرآن) في ثلاث وعشرين من شهر رمضان»[21].

فإذا صحّت الرواية، فإنّ اعتبار ليلة الثالث والعشرين ليلة للقدر ناتج عن نزول القرآن فيها، ولأنّ القرآن مبارك كريم -بحسب وصفه تعالى له- والليلة كريمة مباركة في الأصل، كان جديراً أن يكون لهذه الليلة هذا (القدر) من التعظيم، واتضح من ذلك انّها ليلة واحدة بعينها.

رابعاً: علاماتها:

شاعت في أوساط بعض المسلمين أنّ لليلة القدر علامات، فحتى لو اختلف الفقهاء في تحديدها، أو أخذنا بقول الفلكي أو لم نأخذ، فإنّ هناك إشارات لا تُخطئ يمكن لمن يُحي تلك الليلة أن يلتقطها.

من ذلك قولهم إنّها ليلة يطيب ريحها، وإن كانت باردة دفئت، وإن كانت حارة بردت، وإنّها ليلة صافية بلجة كأنّ فيها قمراً ساطعاً، ساكنة، سجيّة، لا برد فيها ولا حرّ.

وقيل: امارتها أن تطلع الشمس في صبيحة يومها بيضاء لا شعاع فيها. وقيل أيضاً: إنّ جبريل 7 لا يدع أحداً من المؤمنين ليلتها إلّا صافحه، وعلامة ذلك انّ مَن اقشعر جلده، ورقّ قلبه، ودمعت عيناه، فإنّ ذلك من مصافحة جبريل 7.

وعلّق بعض المفسّرين على النظرة الشعبية لليلة القدر بالقول: «من مشكلة الوعي الشعبي لهذه الليلة، أنّ الناس يتطلعون إليها في نظراتهم إلى السماء، ليراقبوا ظاهرة كونية لامعة فيها، أو شبحاً غامضاً يطوف في أرجائها، أو مَلكاً سابحاً في الفضاء، أو نوراً، أو شيئاً، أي شيء، ممّا يكون إيحاؤه الساذج، أنّ هذا الإنسان قد طلعت عليه ليلة القدر ليكون ذلك بمثابة الكرامة الإلهية التي توحي له بالاعتزاز، وتبعثه على الرضا بنتائج ليلته.

ولكن ذلك الوهم الروحي الباحث عن الظاهرة في خارج الذات هو المشكلة الناشئة من التخلُّف الفكري والروحي، في فهم العبادة، وفي وعي الدين، وفي الإحساس بأسرار الذات في عمق المضمون، حيث يتطلع الإنسان إلى خارج ذاته لا إلى داخلها، وإلى شكل العبادة لا إلى مضمونها، وإلى سطح الدين لا إلى عمقه، ومن خلال ذلك تجمّد الدين وتحوّل إلى طقوس وعادات وتقاليد، وابتعد الإنسان عن وعي حقيقته الإنسانية التي هي قبضة من طين الأرض، ونفخة من روح الله، ليبقى متعبّداً لذاته، في ما هو الجسد الخالي من معنى الروح، الغارق في ضباب الشهوة، الذي هو مادة تتحرّك لتتحول إلى تراب ورماد، وليس روحاً تتجسّد لتُحلّق في رحاب الله، حيث هو معنى الإنسان في ليلة القدر»[22].

 

الزمن النوعي:

الزمن -بحسب تعاطينا العملي معه- زمنان: زمن (طبيعي) مادي أو حقيقي وآخر (نفسي) اعتباري أو معنوي، الطبيعي منه الأيام والأشهر والسنوات التي تعارف الناس عليه في حساباتهم الزمنية (التقويمية) التي تعتمد حساب وحدات الزمن وتقيسها بالثواني والدقائق والساعات ومضاعفاتها.

التجربة الإنسانية الحياتية مع مفردات ووحدات الزمن تُظهر أنّه (واحد) في حساب الساعة أو التقويم، لكنّه (متعدد) من حيث النوع. فـ(الزمن النوعي) هو قيمة الزمن من حيث حمولته: كم هو حاملٌ للسعادة والبهجة والنعيم؟ وكم هو محمّل بأثقال الألم وأعباء الانتظار؟! واللافت في أقسام (جمع قَسَمْ) الله تعالى بالمفردات الزمنية المختلفة، إنّه سبحانه يُقسم بالزمن النوعي[23]، كقسمه بـ(العصر) و(الفجر) و(الليل)، أو الليالي العشر، بما تمثله من قيمة في استثمار الزمن، أو في التشريع، أو في ارتفاع مناسيب المدّ الروحي، أو في خصوصية العطاء الرباني فيها.

الزمن الاعتباري أو النفسي، هو الذي يعبّر عنه القرآن تعبيرات شتى والمؤدى واحد، ومنها تساؤل الناس، سواء الفتية (أهل الكهف)، أو الذي أماته الله مئة عام ثمّ بعثه، أو المجرمين الذين عاثوا في الأرض فساداً، أو عامة النّاس عند البعث: كم لبثنا؟ أو مسائلتهم من قِبَل الملائكة: كم لبثتم؟ الجواب دائماً واحد: يوماً أو بعض يوم.

السؤال المطروح هنا: كيف تستحيل المئة سنة إلى يوم أو بعض يوم؟! بل كيف تتحول الـ(300) سنة وزيادة إلى يوم أو بعض يوم؟! كيف يصبح عمر الأرض أو الحياة عليها بآلاف سنينه المؤلّفة يوماً أو بعض يوم؟!

الجواب القرآني عن هذا السؤال: هو أنّ هناك زمناً نوعياً لا يقاس بالحسابات الزمنية التقليدية، كزمن اليوم الفاصل الذي هو يوم واحد اسمه (يوم القيامة) والذي مقداره خمسين ألف سنة؟ هل هو يوم طويل ممتد أم انّه ثقيل بأهواله وانتظاره وقلقه حتى كأنّه من الثقل طويلٌ بطول خمسين ألف سنة بالحسابات الأرضية؟

الثاني هو الجواب المرجّح، لأنّ ما ورد في بعض الأخبار أنّه (أي يوم القيامة) هيّن على المؤمن كأنّه (أداء صلاة) أي لا يستغرق طويلاً، يعني أنّ الزمن معنوي نفسي، أكثر منه مادي حسّي.

في حياتنا الاعتيادية وتجاربنا الزمنية، نعيش أو نواجه شيئاً كهذا، فكم من ليلةٍ ليلاء (شديدة الوقع) يحسب الإنسانُ أن لا فجرَ لها، وأنّها طالت وتطاولت واستطالت أكثر من المعتاد. يقول الشاعر (امرؤ القيس) عن ليلةٍ كهذه:

وليلٍ كموج البحرِ أرخى سدولَه *** عليَّ بأنواعِ الهمومِ ليبتلي

فقلتُ له لما تمطّى بصُلبه *** وأردفَ أعجازاً وناء بكلكلي

ألا أيّها الليل الطويلُ ألا انجلي *** بصبحٍ وما الإصباحُ منك بأمثلِ

وقد تبدو ليلة أخرى خاطفة سريعة تخطر كما تخطر النسمات العليلة حتى وإن كانت ليلة شتائية طويلة. يقول الشاعر الوجدانيّ:

إن يكن قد طال ليلي بعدكم *** فلكم بتّ أشكو قصرَ الليلِ مَعكْ

وهكذا، فإنّ الزمن النوعي لا يُحسب على ضوء حركة عقارب الساعة، وإنما بمقدار ما يحقّقه من (سعادة) أو يجلبه من (شقاء)، فليل المريض المتوجّع المتألّم طويلٌ جدّاً، وليلُ السجين كذلك، بل أيامه وشهوره وسنواته حتى لتبدو أنّها تجرجر نفسها بأقدام من رصاص. تقول كاتبةٌ أمضت فترة ليست بالطويلة في سجن خاص: السجينُ لا يموتُ من (الخوف).. إنّه يموتُ من (الانتظار)!! وليل المعركة طويل حتى يحسب الجندي المقاتل أنّه عقيمٌ بلا صباح، امّا إذا كنّا في أيام نعيم ونعمة، فإنّ أيام السفر السعيد مهما طالت فهي قصيرة، واللقاء النافع المفيد مهما امتدّ فهو سريع كأنّه لحظات.. وهكذا.

من هذه التجربة الزمنية العامة، ومن تجاربنا الذاتية مع الزمن، نخلص إلى أنّ الوعاء الزمني ليس وعاءً زجاجياً، أو بلاستيكياً، أو خشبياً، أو معدنياً، وإنّما هو وعاء مطاطيّ يضيق تارة فنختنق فيه، ويتسع تارةً فنشعر معه بالانشراح والسرور والانبساط والسيولة، أي إنّه ليس له شكلٌ معيّن وإنّما يتشكل بما يوضع فيه، أو يأخذ شكل الشيء الذي في داخله، هو أشبه بالبالون الذي لديه قدرة التمدّد أو التقلُّص بمقدار الهواء الداخل فيه، مع فارق أنّه لا ينفجر إلّا في لحظة واحدة.. لحظة مفارقة الحياة.

إذا كان هذا المثال التوضيحي التقريبي قد بيّن فكرة الزمن الاعتباري أو النوعي، فإنّنا لا نعجب أن تكون ليلة واحدة من ليالي الزمن الأرضي تساوي ألف شهر أو (83) عاماً، لا أنّ ساعاتها تتضاعف بشكل استثنائي وفوق العادة، أو أنّ حجم بالونها ينتفخ بأكثر من قدرته على الاتساع، وإنّما هي (ثقيلة) في ميزان عطائها وبركاتها واستثنائيتها التي تعدل عمر الإنسان كلّه، وبمعنى آخر، هي تعدل في قيمتها المعنوية العالية المكثفة ما يساوي هذا الزمن الطويل لا في تعداد سنواته، بل بما يحمله من أعمال ومنجزات ومكاسب.

وكأنّ ليلة القدر ليلة خارجة عن النطاق الزمني المعتاد، أو ليلة فلتت من عقال الزمن، أو فلك الأوقات العادية، فكانت في مخزونها الكبير، وحمولتها الثقيلة، وطاقتها الكامنة، استثنائية لا تناظرها في الليالي ليلة.

في ليلة من ليالي الكوفة قام فيها الإمام عليّ 7 متعبّداً إلى الله تعالى، وكان ضيفه فيها صاحبه (نوف البكالي)، وقد سأله إن كان لا يزال مستيقظاً وأجابه بنعم، قال: «يا نوف! إنّ داود 7 قام في مثل هذه الساعة من الليل، فقال: إنّها لساعةٌ لا يدعو فيها عبد إلّا استجيب له»[24]. إنّه 7 يحدّث صاحبه عن (ساعة نوعية) عن (زمن نوعي) له خصوصيته وشرفه وقدره واعتباره.

قيمة الزمن إذاً من قيمة (الزمين) -إذا صحّ التعبير- فكما أنّ قيمة المكان بـ(المكين)، أي المحتوى المكاني أو ما يكون فيه، أو بمن يقوم أو يسكن فيه، على طريقة:

وما حبُّ الديارِ شَغَفن قلبي *** ولكن حبُّ مَنْ سَكنَ الديارا

فكذلك يُنظر إلى الزمن من خلال المحتوى الزمني المتكثف في بوتقته بفرادة زمنية مميزة أو استثنائية، ممّا يجعله يعادل أضعافه من مفردات أو وحدات الزمن الاعتيادي الرتيب.

بهذا المنظور، يحقّ لنا أن نسأل: من أين اكتسبت ليلة القدر فرادتها، وقدرها، وقيمتها؟

سبقت الإشارة، إلى أنّها اكتسبت ذلك من أنّها بذاتها (جليلة القدر) لاعتبارات ربّانية، ربّما نزول القرآن فيها إحدى تلك الاعتبارات، وأنّها ليلة احتفالية من نوع خاص تتنزّل فيها الملائكة لتشاطر أهل الأرض التهليل والتحميد والتمجيد والتكبير والصلوات، فكأنّ الأرض في تلك الليلة المباركة تتحول إلى مسجد كلّي عام تشترك فيه الملائكة مع الناس في أجواء توحيدية متعالية على كلّ الاعتبارات والقيم المادية.

إنّ المفاضلة الزمنية، كما المفاضلة المكانية والبشرية والعملية -ليست اعتباطية- وإنّما هي مرجحة بمرجحات، ومفضلة بعوامل تفضيل، ذلك انّ اكتساب وقت ما قيمة مخصوصة يرجع إلى سبب أو أكثر من الأسباب التالية:

- من تعبيره عن ذكرى معينة، فأيام الانتصارات والتحرير والخلاص من حُكُم الطواغيت والقوى الاستكبارية، ذكريات سنوية دأبت شعوب وأُمم الأرض على الاحتفال بها، ولذلك دعا الله سبحانه وتعالى موسى 7 إلى أن يُذكّر قومه (شعبه) بأيام الله ﴿وَذَكِّرْهُمْ بِأَيّامِ اللّهِ﴾ (إبراهيم/ 5). في حين انّ الأيام كلّها أيام الله، ولكنّ المراد بالأيام المنسوبة إليه تعالى: أيام النصر، والنعمة، والخلاص من قبضة الظلم، وأيام الامتثال والطاعة.

- ومن دلالته على قيمة إنسانية مُجمَع عليها، كما في الأيام التي استحدثها الناس ليكرّموا فيها بعضهم البعض، كيوم الأُمّ، أو يوم الأب، أو يوم المعلّم، أو يوم العامل، وغير ذلك.

- أو من إضفاء السماء عليه قيمة مقدسة، كما في الليالي العشر من ذي­ الحجة، أو الأواخر من شهر رمضان، أو ليلة القدر التي تعتبر رأس سنة الإنسان المسلم، حيث يُقدّر فيها رزقه، وتوفيقه، وأجله، وما يجري عليه إلى السنة القادمة.

وأياً كان السبب في تعظيم هذه الليلة، فإنّ قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ﴾ (القدر/ 2) كافٍ للتعريف بسيادتها على سائر الليالي، ولم تقل العرب لشيء (وما أدراك) إلّا لما علا في قيمته، وارتفع في شأنه، وسما في اعتباره، وكأنّه سبحانه يقول: على الرغم من معرفتكم بقيمة هذه الليلة -بما عرّفتها لكم-، إلّا أنّكم لا تدركون مدى عظمتها وحقيقة قدرها عندي.

 

في رحاب (سورة القدر):

عناوين سورة القدر الرئيسة ومحاورها الأساسية، ثلاثة:

1- المحور القرآني

2- المحور الشأني

3- المحور الغيبي

وقبل الدخول إلى هذه المحاور، لابدّ من أن نميّز لغوياً بين مصطلحات ثلاثة، وهي: (النزول) و(الإنزال) و(التنزّل) حتى نفهم معنى إنزال القرآن، ومعنى تنزّل الملائكة.

النزول -كما في مفردات الراغب الأصفهاني- هو انحطاط من علوّ، كالنزول عن الدابة، أو من الطابق الثاني في بناية، ونزل في المكان: أقام فيه. فإذا تحدّثنا عن نزول القرآن، نقول نزوله من اللوح المحفوظ، أو من السماء السابعة إلى السماء الدنيا.

وإذا تحدّثنا عن إنزاله، فهذا يعني دخول الواسطة في نقله من هناك إلى الأرض، وهذا لا يشمل القرآن فقط، بل يشمل أيضاً إنزال النعم، وإنزال العذاب، وإنزال مائدة من السماء -في طلب الحواريين من عيسى 7- وإنزال الماء الطّهور (المطر)، وواسطة ذلك كلّه الملائكة الموكّلون كلٌّ منهم، أو فريق منهم، بمهمة خاصة.

والفرق بين (النزول) و(الإنزال) و(التنزيل): إنّ النزول بلا واسطة، والإنزال بواسطة، وهو (دفعيّ) أي إنزال الشيء دفعةً واحدةً، على عكس (التنزيل) فهو إنزال على نحو تدريجي، أي إنزالاً مفرّقاً مرة بعد أخرى، وقد روي أنّ القرآن نزلَ دفعةً واحدةً إلى السماء الدنيا، ثمّ نزل منجّماً، أي متفرّقاً بحسب أسباب ودواعي النزول.

وامّا (التنزّل) فهو النزول بالشيء أو الأمر، بحيث نقول: (أُنزل الملك بكذا) أو (تنزّل بكذا)، ولا يُقال، نزلَ بكذا، وهذا يعني أنّ الملائكة لا تنزل إلى الأرض إلّا بأمر إلهي، وهو ما نلاحظه في السورة ﴿تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ﴾ (القدر/ 4).

وبحسب الرواية عن الإمام الصادق 7 -التي مرّ ذكرها- فإنّ نزول القرآن بشكل دفعيّ صادف في ليلة القدر التي هي -وفقاً لبعض الروايات- ليلة الثالث والعشرين، ثمّ نزلَ بشكل تدريجي في مناسبات مختلفة، كان أوّلها ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ (العلق/ 1). الذي حدثَ في (27 رجب) على بعض الروايات، لقوله تعالى: ﴿وَقُرْآنًا فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلا﴾ (الإسراء/ 106). وبيّن تعالى سبب تنزيل القرآن متفرّقاً في قوله جلّ جلاله: ﴿وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلا﴾ (الفرقان/ 32). أي إنّ الغاية تعليمية تربوية تقتضي أن يُقدّم القرآن -كزاد فكري وثقافي وروحي ومنهج هداية ربانية- على نحو متسلسل من أجل أن تتعمق مفاهيمه في النفس، وتعاليمه في السلوك، وإرشاداته في الأخلاق، ولو كان القرآن نزل جملةً أو دفعةً واحدة، ما كان النبيّ 6 ينتظر في بعض الحالات لحل بعض المشكلات قول السماء، أو بحسب التعبير الوارد: أنتظر في ذلك أمر ربي.

هذا في الجانب اللغوي والتأريخي للإنزال، ولكن ماذا يعني إنزال القرآن خصيصاً في هذه الليلة التي أراد الله لعباده إحيائها لينالوا بها أعظم جوائز الرحمة؟

يمكن أن تستلهم الجواب من القرآن ذاته، يقول تعالى: ﴿حم * وَالْكِتابِ الْمُبِينِ * إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنّا كُنّا مُنْذِرِينَ * فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنا إِنّا كُنّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ (الدخان/ 1-6).

(يُفرَق): الفرق: فصل الشيء من الشيء بحيث يتمايزان، ولذلك سُمّي القرآن بـ(الفرقان) لتمييزه بين (الحقّ والباطل) وبين (الخير والشرّ) وبين (الصلاح والفساد) وبين (المؤمنين والكافرين) وبين (أصحاب الجنة) و(أصحاب النار).. إلخ.

وبهذا يتضح وجه الاقتران بين (ليلة) يُفرَق فيها كلّ أمر حكيم (موضوع في موضعه الدقيق)، وبين (قرآن) هو فرقان بين (خط وخط) وبين (مدرسة ومدرسة) وبين (منهج ومنهج).

الوجه الآخر، انّ القرآن نزلَ رحمة للناس. يقول تعالى: ﴿وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْيانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ (النحل/ 89). ورحمته أنّه جاء ليُخرج الناس من الظلمات إلى النور. وليلة القدر -هي الأخرى- ليلة الرحمة الواسعة، لما يخصّها من عناية ربانية بالغة، وبما يُعتق فيها من النار، وبما يُستجاب فيها من دعوات، وبما يتم فيها من مغفرة، وينال محييها من رضوان.

الأمر الثالث، أنّ القرآن نزل بأمر الله تعالى: ﴿تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيرًا﴾ (الفرقان/ 1). وقال سبحانه: ﴿قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ﴾ (البقرة/ 97). وإذن الله أمر، وفي ليلة القدر يتنزّل الملائكة بفيوضات الرحمة الإلهية إلى الأرض بأمر الله تعالى أيضاً: ﴿تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ﴾ (القدر/ 4).

ثمّ انّ القرآن جاء ليخطط لحياة الناس ويضع لهم خط السير وصولاً إلى (كمالهم) و(منتهى سعادتهم) و(غاية سلامهم)، مثلما تأتي ليلة القدر -في كلّ سنة- لتخطط للناس برنامج سنة من المنظور الرباني، في رعاية العباد بـالرحمة، وتدبير أمورهم، وتقدير أرزاقهم.

من ذلك يمكن أن نستشفّ أنّ حضور القرآن في ليلة القدر -بالنسبة لإحيائها- ليس حضوراً تشريفياً، وإنّما هو حضور مهم في مناسبة سماوية كريمة وهي (عيد ميلاد القرآن الكريم)!

هذا في ما يتعلق بالمحور الأوّل: (المحور القرآني).

امّا المحور الثاني: (المحور الشأني): فهو مخصص للحديث عن قيمة وعظمة وقدر هذه الليلة الاستثنائية في عطائها. ففي شهر رمضان نحن في ضيافة الله تعالى. ورد في خطبة النبيّ 6 لاستقبال شهر رمضان: «هو شهرٌ دُعيتم فيه إلى ضيافة الله، وجُعلتم فيه من أهل كرامة الله»[25]. وبيّن 6 ألوان الضيافة وأشكال الكرامة: الأنفاس فيه تسبيح، والنوم عبادة، والعمل مقبول، والدعاء مستجاب، و(ضيافة) و(كرامة) مَلأى بالبركة، عامرة بالرحمة، حاشدة بالمغفرة.. الصلاةُ فيه براءة من النار، والفرض بسبعين فرض، والصلاة على النبيّ وآله ثقل في ميزان الأعمال، وتلاوة آية فيه كختمة القرآن في غيره.

هذا في الأيام العادية لشهر رمضان، والليالي الكريمة منه، فكيف إذا بلغ الصائم ليلة القدر.. ترى كيف تكون (ضيافته)، وكم تكون (كرامته)؟! إنّها لا تعدل ضيافة الشهر، بل هي (ضيافة العمر) و(كرامة الحياة)[26].

إنّها ضيافة من نوع خاص استثنائي جدّاً.. هي (ليلة المولد).. في صبيحتها وعند مطلع فجرها يولدُ إنسانها من جديد، عارياً من ذنوبه، مضمّخاً بطيب الإخلاص، مجللاً بأجنحة التوبة والغفران، يقال له: استأنف، ذاك عمرٌ طويت صفحاته بكلّ سيِّئاتها، وهذا عمرٌ جديدٌ يُكتَبُ لك، فانظر ماذا تكتب أو بمَ تدشّن صفحته الأولى؟ وماذا تخطّ على صفحاته التالية؟

لقد طلب الحواريون من عيسى 7 أن ينزّل عليهم مائدة من السماء لتكون عيداً لأوّلهم ولآخرهم، فنزلت المائدة بناءً على طلبه ودعائه.. في (ليلة القدر) تتخذ الضيافة الإلهية شكلاً آخر.. الملائكة تتنزّل بموائد الرضوان والغفران والإحسان والشكران (من كلّ أمرٍ) خير وطيب، ومبارك، وجميل، وجليل، ونبيل.. وإذا جاز لنا أن نصوّر ليلة القدر تصويراً غيبياً مستوحى من المعاني العامة للجنة، فهي (مُقتطفٌ من الزمن الجنتي)!!

إنّ الزمان يمكن أن (يتجسّد) أيضاً، و(يتروحن) أيضاً: يتجسّد متمثلاً في ليلة بهاء تحملُ اسماً وجمالاً وقيمة وحفاوة.. وربّما (هيئة) أيضاً ولكن لا نراها. و(يتروحن) فتنهلُ نغماته هابةً من وادي تلك الليلة المُحتفى بها، فتكون للدقائق والساعات خفقات القلب، وخلجات الروح، وانتشاءات الجوارح.

ومع أنّ (الخليل بن أحمد الفراهيدي) أطلق عليها بـ(ليلة الضيق)[27] لأنّ الأرض تضيق بالملائكة بما رحبت، وهي كذلك لأنّ الأرض -كما شبهناها- تستحيل في تلك الليلة إلى مسجد سماوي- أرضي، لكنّها (ليلة السعة) أيضاً، لما أعد الله تعالى فيها لعباده من رحمته التي وسعت كلّ شيء.

وسنفرد جانباً من البحث -بإذن الله- عن شأنية هذه الليلة على اعتبارها رأس سنة الإنسان المسلم.

 

المحور الثالث في السورة: (المحور الغيبي):

يقال إنّ سرّ ليلة القدر يَكمُن في ﴿تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ﴾ (القدر/ 4). والآية تحتاج إلى استجلاء خمسة معاني: (التنزّل) وقد أوضحنا معناه في البحث اللغوي، و(الملائكة) وهي هنا مطلقة تتحدّث عن الملائكة كلّ الملائكة، وتفرد لـ(الروح) الذي قيل فيه إنّه (جبريل 7) لأنّه سيد الملائكة، كونه حامل الوحي للأنبياء :. وقيل (خَلقٌ عظيم) يتميز بقدرة خاصة، أو طبيعة مختلفة عن الملائكة. لننظر في هذه المعاني من خلال القرآن وعلى ضوء الأسئلة التالية:

1- متى وعلى مَن تتنزّل الملائكة؟

أ) على الثابتين على المبدأ المستقيمين في خط الإخلاص؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا﴾ (فصّلت/ 30).

ب) على المصلي في المحراب. يقول سبحانه عن زكريا 7: ﴿فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ﴾ (آل عمران/ 39).

ت) لإنفاذ أمر رباني. كما في زفّ البشرى لمريم بولادة المسيح 7، قال جلّ جلاله: ﴿إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ﴾ (آل عمران/ 45).

ث) لتدعيم وإسناد موقف المجاهدين في سبيل الله: قال سبحانه في معركة بدر الكبرى: ﴿أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ﴾ (آل عمران/ 124).

ج) لتثبيت مواقف المؤمنين على الحقّ: قال عزّ وجلّ: ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ (الأنفال/ 12).

ح) إنزالهم بالروح من أمر الله على مَن يشاء: قال تعالى: ﴿يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ﴾ (النحل/ 2).

خ) تنزلهم في (ليلة القدر) من كلّ أمر: قال سبحانه: ﴿تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ﴾ (القدر/ 4).

تلك هي بعض موارد تنزّل الملائكة بأمر الله (لاحظ انّه سبحانه ينزّلهم على الأنبياء وعلى غير الأنبياء، والفارق أنّ غير الأنبياء لا يشعرون بهم). وخلاصة القول المستنبط من معاني ومرامي الآيات إنّ تنزّل الملائكة يكون لعدة أمور منها: التثبيت، زفّ البشرى، لإجراء أمر رباني. وبذلك يمكن -على نحو الإجمال- استشفاف مهمة الملائكة في ليلة القدر بـ(التثبيت) وهو أحوج ما يحتاجه الإنسان في مسيرته المليئة بالمطبات والعثرات والانزلاقات، و(البشرى) بالرحمة والمغفرة والرزق، وتنفيذ كلّ أمر حكيم في كلّ الأوضاع المتصلة بحياة الإنسان وأجله.

2- ما هو الروح[28]؟

1- جبريل 7:

قال تعالى: ﴿وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ (البقرة/ 87).

وقال سبحانه: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ﴾ (الشعراء/ 193).

2- رسول غير جبريل، له شأن عظيم:

قال عزّ وجلّ: ﴿فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَرًا سَوِيًّا﴾ (مريم/ 17).

وقال جلّ جلاله: ﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا﴾ (النبأ/ 38).

وقال سبحانه: ﴿تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ﴾ (القدر/ 4).

3- ما هو (إذن الله)؟

إذا أذن الله تبارك وتعالى، فهذا يعني أنّه (أمرَ) و(أرادَ) و(شاءَ). يقول تعالى: ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ﴾ (الأعراف/ 58). أي انّ تنزّل الملائكة -في تلك الليلة العالية القدر- هو أمر رباني وإشارة إلهية لأمر غاية في الأهمية والتقدير.

فإذا كان (العشاء الرباني) أو المائدة المنزلة من السماء ومن قِبَل الملائكة بإذن الله لتكون عيداً لأوّل النصارى وآخرهم، فإنّ (مائدة) ليلة القدر هي (التثبيت) و(التبشير) ممّا لا ينفد عطاؤه، ولا ينتهي زاده، ولا تضمحلّ آثاره.

4- ما هو (الأمر)؟

الأمر كلمة عامة تشمل كلّ الشؤون الحياتية بلا استثناء. وإنّما استخدمت هذه اللفظة في هذا المورد لصدورها عن (المولى) إلى (عباده) الذين ينتسبون إليه في تلك الليلة ليكونوا (عباد الرحمن) الذين جاء ذكرهم في سورة الفرقان. هو (أمرٌ) صادر عمّن يرجع إليه الأمر كلّه ﴿بَلْ لِلّهِ الأمْرُ جَمِيعًا﴾ (الرّعد/ 31).

5- ما هو (السلام)؟

(السلام) هو (السلامة)، ولا سلامة حقيقية إلّا في الجنة التي يطلق القرآن عليها اسم (دار السلام)، فكأنّ المحتفين بتلك الليلة التي هي ملكة الليالي، يعيشون بعضاً من أجواء الجنة، لما في الليلة من غنى لا يوجد في الأزمنة الأخرى مهما علا قدرها، وإذا عرفنا أنّ (السلام) هو اسم من أسماء الله تعالى، فالليلة هي ليلة الله تعالى، مثلما هي ليلة (عباد الرحمن)، وإذا عرفنا أيضاً أنّما سُمّي السُلّم سُلّماً لأنّ به يُتوصّل إلى الأمكنة العالية فيُرجى به السلامة، ثمّ جُعِلَ اسماً لكلّ ما يُتوصّل به إلى شيء رفيع كالسبب[29]، فإنّ الارتقاء الروحي في تلك الليلة (طلباً للسلامة) والهبوط الملائكي ليزفّوا بشائر السلامة، يعني أنّ استثنائية ليلة القدر ليست كباقي الاستثناءات، فهي ليلة ربانية- رحمانية فوق كلّ المقاييس.

إنّ حركة الملائكة في ليلة القدر ذات اتجاهين: (هبوطاً) إلى الأرض بالتثبيت، والتبشير، والسلامة، والسكينة، والمدد، والمباركة، في احتفالية ربانية مشتركة ولقاء على مستوى عالٍ بين الملائكة الكرام وبين أهل ضيافة الله. و(صعوداً) أو (عروجاً) بالأعمال الصالحة، والنوايا الحسنة، والضراعات المستغيثة، والأقوال الطيبة: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ (فاطر/ 10). فالكلمة الطيبةُ بطبيعتها (مجنّحة) و(محلّقة) ولديها قدرة الوصول إلى أعالي الأعالي، لكنّ الريح التي ترفع طير الكلمة الطيبة على جناحيها ليصل إلى ذروة الملتقى أو المرتقى، هي (العمل الصالح) صغيراً كان أو كبيراً، وليس في العمل الصالح صغير (وهل يقلّ - أو يصغر- عملٌ يُتقبَّل)؟!

هكذا: رَواحٌ ومجيئٌ، وهبوط وصعوط، وحركة مكوكية بين السماء والأرض ﴿حَتّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾ (القدر/ 5)، فجر تلك الليلة التي لا يصحّ تسميتها بالسعيدة، لأنّ ليالي السعادة كثيرة، هي الليلة الجامعة للسعادات كلّها..، وربّما.. ربّما تعرجُ فيها أرواح المؤمنين لتعيش -بذاتها- (سلاماً) و(سموّاً) روحياً لم تعشه ولم تذقه، ولم تتحينه من قبل.

هذه هي قراءتنا المتواضعة لتلك الليلة، ونقول (تلك) للبعيد إشارةً لعظمة منزلتها، وقد قرأها بعض المفسّرين قراءات متعدّدة، لا بأس أن نشير إليها رجاء اكتمال الفهم والفائدة، فبماذا (تتنزّل الملائكة) في ليلة القدر؟ قيل:

- هم خدم أهل الجنة يُتاح لهم زيارة الأرض سنوياً ليكونوا في خدمة المؤمنين في تلك الليلة، فكأنّهم يقومون بدورة تدريبية قبل تفرّغهم الكامل لخدمتهم في الجنة.

- وقيل: هي أرواح المؤمنين الذين ارتحلوا عن هذه الدّنيا ينزلون لزيارة أهلهم، وهو بعيد، لأنّ التعبير القرآني صريح بأنّهم (ملائكة)، إلّا إذا فهم بعض المفسّرين من (الروح) هي أرواح المؤمنين، وهذا غير ظاهر أيضاً لأنّ الملائكة معطوفة على الروح. وردت في موضع آخر أيضاً: ﴿تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ﴾ (المعارج/ 4). وفي قوله جلّ جلاله: ﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا﴾ (النبأ/ 38). وقد يُراد بالروح هنا وهناك الأرواح، والله العالم.

- وقيل: تتنزّل الرحمة على عباد الرحمان، أي أن تنزل الملائكة والروح هو كناية عن تنزّل الرحمة لتُلقي في رَوعِ وخَلدِ الحافين للقاء الله في تلك الليلة وتقول لهم كما قال يعقوب 7 لبنيه: ﴿وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللّهِ﴾ (يوسف/ 87).

- وقيل: إنّ الملائكة الفعليين الحقيقيين هم الذين ينزلون للتسليم على المؤمنين. انطلاقاً من قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا * تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا﴾ (الأحزاب/ 43-44).

- وقيل: إنّ الملائكة تنزل إلى السماء الدنيا لا إلى الأرض، أي لتكون أقرب إلى الأرض، وكأنّها تصنع (مظلّة) رحمة، أو (سقفاً) ملائكياً حافظاً.

- وروي عن (ابن عباس) أنّهم سكان سدرة المنتهى، وهم سبعون ألف مَلَك ومعهم ألوية من نور وقيل لا يعلم عددهم إلّا الله، وهم يسبّحون، ويقدّسون، ويهلّلون، ويستغفرون لأُمّة محمّد 6.

- من التقديرات الراجحة، انّ تنزّل الملائكة يكثر في تلك الليلة لكثرة بركتها، ذلك أنّ الملائكة يتنزّلون مع تنزّل (البركة) و(الرحمة)، كما يتنزّلون -مثلاً- عند تلاوة القرآن ويحيطون بحلقات الذكر، وكما يتنزّلون ليضعوا أو يفرشوا أجنحتهم لطلبة العلم تعظيماً للعلم ولطالبيه ولمعلّميه.

 

ليلة رأس سنة الإنسان المسلم:

ليلة القدر هي الليلة التي يُرسمُ فيها المستقبل، ولأنّ إنسانها (مُحييها أو المُحتفي بها حقّ الاحتفاء) يولدُ في صبيحتها (بعد طلوع فجرها) إنساناً جديداً، كان جديراً بهذه الليلة أن تكون رأس سنة الإنسان المسلم[30].

جاء عن الإمام محمّد الباقر 7 في التعليق على قوله تعالى: ﴿فِيها -أي ليلة القدر- يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ (الدخان/ 4).

«يُقدّرُ في ليلة القدر كلّ شيء يكون في تلك السنة إلى مثلها من قابل (السنة المقبلة): خير وشرّ، وطاعة ومعصية، ومولود، وأجل، ورزق، فما قُدّر في تلك السنة وقُضي فهو المحتوم، ولله فيه المشيئة»!

في النظام الإداري والحكومي أو المؤسساتي بشكل عام، عادةً ما توضع الخطط السنوية في مطلع كلّ عام، بل في نهاية العام المنصرم، حيث (تحسب) المؤسسة الحكومية أو غير الحكومية و(تتحسّب) لكلّ شيء، من أجل أن ترفع رصيد مدخولاتها وإن كانت مؤسسة مالية، فتزيد من أرباحها وتقلل من خسائرها ما أمكن ذلك، وتضاعف معدل إنتاجها السنويّ، وتتفادى أخطاء السنة الماضية. أمّا إذا كانت حكومية فالبرنامج أشمل وأكمل ولا يتناول المال فقط، بل يولي كلّ قطاع من قطاعات العمل والإنتاج والدفاع أهمية خاصة بما ينسجم وشمول الخطة لأبعاد التنمية البشرية، والطبيعية، والاقتصادية، وأنشطة العمل الدبلوماسي (العلاقات الخارجية)، والوضع الأمني (العلاقات الداخلية).

شيءٌ شبيه بهذا يحصل في ليلة القدر على مستوى (مؤسسة الشخصية الإسلامية)! والسؤال الكبير: هل ليلة القدر هي التي ترسم خطتنا للعام القادم، أم نحن الذين نرسمها؟ هل لنا يد أو مساهمة في رسم معالم ومصالح السنة المقبلة، أم انّ التخطيط فوقي ونسخة جاهزة، تنزل معلّبة من الأعلى وما علينا إلّا تنفيذها حرفياً؟!

إذا كانت الخطة جاهزة ومعلّبة وبجميع بنودها وتفاصيلها وأرباحها وخسائرها، فنحن أشبه بجنود طائعين نتلقى الأوامر والتعليمات من القيادة العليا لإجراء بنود الخطة ووضعها موضع التنفيذ حتى ولو خالفت قناعاتنا، وعندها يصح أن يُطلق علينا بأنّنا (مبرمجون) لا قدرةَ لنا على إجراء أي تعديل في الخطة.

أمّا إذا كنّا نساهم في وضع الخطة بنحوٍ ما، فإنّنا نكون شركاء القيادة في صناعة القرار، وبمعنى آخر، إنّها تُراعي دورنا في الخطة فلا تضعها بمعزل عنّا.

في الحالة الثالثة، نستقل بوضع خطتنا السنوية استقلالاً تاماً ونعمل على إنزالها إلى واقع التطبيق على ضوء تقديرنا الذاتي للمصالح والمفاسد، أي إنّنا نحن المخططون ونحن المنفّذون ولا سلطة عليا علينا، وبمعنى آخر، نحن أصحاب الحل والعقد في ما يتعلق بخطتنا السنوية المقبلة، وبمقدرات سنتنا التالية.

ما الذي يجري في ليلة القدر؟ أي من الاحتمالات الثلاثة؟

الجواب: طالما أنّ الله سبحانه وتعالى جعل الإنسان (مريداً) (مختاراً) (حراً) (مسؤولاً)، فإنّ الإنسان هو الذي (يخطّط) وهو الذي (ينفّذ)، وهو الذي يتعرّض -في نهاية المطاف- إلى المسائلة، فما معنى أن يُخطّط له في تلك الليلة ما يحصل له في العام التالي لها؟

لو كانت الخطة جاهزة ومكتملة ومصممة بشكل صارم وعلى شكل وصفة طبية لا تُخالَف فيها أوامر الطبيب، فأين هي إرادة المنفّذ واختياره، وكيف يُوقَف للمسائلة وهو في معزل عن تدبير أمره وشؤونه؟ كيف يُرسم له شكل أو صورة مستقبله وهو غافل؟!

الجواب عن هذا يتعلق بمسألة (الجبر) و(التفويض)، والمقطوع به عقيدياً أنّ (لا جبرَ) لأنّ الجبر ينفي الإرادة ويصادر الاختيار والحرية، ويُسقط الحساب والعقاب والثواب، و(لا تفويض) لأنّ ذلك يعني أنّ يد الله (سلطته) مرفوعة عن البشر، وأنّه خلقهم وتركهم كريش في مهبّ رياح الحياة والأقدار والأخطار، أو كالعهن المنفوش، أو الرماد المتطاير.

الحلّ الذي اقتضته الحكمة الإلهية المتعالية (الكاملة والعادلة) (وهو لمن يتأمّله بعقل مفتوح أصلح الحلول للإنسان مهما جدّ في البحث عن أفضل منه) أن يكون أمر الإنسان بين -بين (فلا جبرَ ولا تفويضَ) ولكن (أمرٌ بين أمرين). هذه القاعدة العمومية أو المكثفة الصياغة بحاجة إلى شيء من التوضيح.

هناك أمور تفرّدت بها إرادة الله تعالى ولا دخل للإنسان فيها مطلقاً ومنها (أجل الإنسان) فهو سبحانه الذي يقدّر للإنسان عمره وأجله وموعد ساعة رحيله، فلا تدري نفسٌ متى وفي أي أرض تموت. وفي هذا من الخير ما فيه، لأنّ الإنسان لو عَلِم ميعاد ارتحاله من الدنيا لقعد عن العمل، ومات لديه الأمل، وشلّت إرادته عن العطاء، ولترك شروط الصحة والسلامة، والوقاية المادية والمعنوية، ولما عمل من أعمال البرّ والخير شيئاً يطيل به أجله أو يمدّ في عمره، ولما امتنع عن السوء الذي يقصّر الأعمار، وهذا الأجل المسمّى هو الذي يجعل الإنسان لا يتهيّب الجهاد في سبيل الله مادامت ساعته لم تحن بعد.

هل يمكن للمنتحر أن يقول: أنا الذي حدّدت ساعة أجلي؟ قد يبدو في الظاهر أنّه هو الذي قرر إنهاء حياته بطريقة مؤسفة، لكنّه ليس أكثر من أداة منفّذة لتوقيت تلك النهاية، أو إجراء الأجل.

وحتى لو أخذنا بنظرية أنّ الأجل أجلان: (محتوم) أي طبيعي، و(مخروم) أي مخترق بحادث فجائي، فكلا الأجلين في علم الله واحد، وكلّ ما هناك أن قاتل نفسه اخترم أو تعجّل إنهاء حياته. وقد مثّل بعض الباحثين للمعادلتين (الطبيعية) و(الطارئة) بسيارة من شركة يقدّر خبراؤها أنّها مؤهلة للعمل عشر سنوات، وهذا هو عمرها المسمّى المحتوم المؤكد بحسب الأسباب الطبيعية. لكن إذا وقع حادث اصطدام وتلفت السيارة فهذا عمر غير مسمّى لها وقد انقضى عمرها بحادث الاصطدام.

هل كان الله تعالى يعلم أنّ المنتحر سينتحر؟ نعم، بالتأكيد يعلم، كيف يكون رباً عليماً محيطاً ويُخفى عليه السرّ أو النية المبيتة أو القرار الذي سيُتّخذ؟

هل الله تعالى هو الذي أجبره على الانتحار؟ بالتأكيد لا. لم يجبره، لأنّه لو أجبره لسقط عقابه للمنتحرين الذين سيعترضون بالقول -وحقٌّ لهم الاعتراض- أنت يا ربّ ألجأتنا إلى الانتحار، كيف تعاقبنا عليه؟!

السؤال الآخر المترتب على ذلك: ما هو (الأجل المسمّى) في ليلة القدر؟ قال تعالى: ﴿ثُمَّ قَضى أَجَلا وَأَجَلٌ مُسَمّى عِنْدَهُ﴾ (الأنعام/ 2). جاء في الجواب عن السؤال عن الإمام جعفر الصادق 7 في تفسير الآية أنّه قال: «المسمّى ما سُمّيَ لمَلَك الموت في تلك الليلة، أي ليلة القدر، وهو الذي قال تعالى: ﴿إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ (يونس/ 49)»[31]، أي انّ قائمة بأسماء الذين سيغادرون الدنيا في تلك السنة توضع بين يدي مَلَك الموت في تلك الليلة.

و(النسل) بيد الله أيضاً.. الرجل يلقي ماءه في رحم المرأة ولكن ليس كلّ منيّ يتاحُ له أن يلقّح البويضة لتكون ولداً، فالكثير من النساء عواقر لا يلدن مع أنّهنّ متزوجات، وقد تحمل المرأة من لقائها مع زوجها بولد واحد وقد تحمل بأكثر من ولد.. الله هو الذي يقرر ويحدّد ﴿أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ﴾ (الواقعة/ 58-59).

بل حتى (الرزق) فليس كلّ الرزق نتيجة أو نتاج السعي والجدّ والمثابرة، فهناك رزقٌ تطلبه، وهناك رزقٌ يطلبك: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ﴾ (الطلاق/ 2-3). والإنسان في طلب الرزق كالفلاح يهيئ الأرض ويحرثها ويبذر بذوره فيها ويسقيها، ويتعاهدها، لكنّه لا يضمن التحرّز من المخبئات والمفاجأت، ولذلك قيل: (خير المتوكّلين الزرّاعون) لأنّهم بعد أن يستفرغوا وسعهم يتجهون إلى الله ضارعين أن يبارك لهم في سعيهم وفي إنتاجهم وفي محصولهم، وهذا هو معنى ارتباط الإنسان بعالم الغيب.

و(التوفيق) أيضاً بيد الله، فالمرء -بحسب تعبير الشاعر- يسعى بمقدار جهده، وليس عليه أن يكون موفقاً، وهذا ما كان حاضراً في وعي شعيب 7 عندما قال عن نتائج إصلاحه: ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلا الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلا بِاللّهِ﴾ (هود/ 88).

في العام التالي لليلة قدري، والذي يبدأ من نهارها، أو بعد شروق شمسها، سأعمل أعمالاً كثيرة في مجالات البرّ والإحسان والخير والصلاح، لكنّ الذي يمنح هذه الأعمال مباركته وتأييده ودعمه ونصره وتوفيقه هو الله تبارك وتعالى، هو الذي يقبلها وينمّيها ويجعلها تؤدي أثرها المطلوب أو المرجوّ، هو الذي يمكن أن يفتح لي آفاقاً جديدة لم تخطر لي على بال، ولم تدخل في أصل خطتي: ﴿وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (العنكبوت/ 69).

و(الدفع) و(الحفظ) و(الوقاية) -مهما وفّرت من أسبابها- يبقى الله تعالى ﴿خَيْرٌ حافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ﴾ (يوسف/ 64)، فأنا أتّخذ احتياطاتي الأمنية، وأدفع مستحقاتي من التأمين على الحياة، لكنّني لا أستطيع القول إنّني حققت كلّ مستلزمات الحفظ والعناية واللطف. الله تعالى هو مَن يفعل ذلك. أما رأيت كيف نجا الذي نجا في سقوط طائرة، أو من انهيار عمارة، أو تحت أنقاض زلزال، أو قذفته أمواج الطوفان في مكان آمن.. هل هو الذي حقق ذلك، أم الله تعالى الذي كتب له النجاة؟!

بهذا اللحاظ، ومن هذا المنظور العقيدي يمكن أن ننظر إلى ما يقدّر في ليلة القدر من أعمال السنة التالية أو الجديدة.

بعبارة مختصرة، ثمة أعمال أقوم بها أنا الإنسان صاحب القضية والشأن، فإن كانت خيراً وفقني الله تعالى للمزيد منها، وإن كانت سيّئة فربّما وكلني إلى نفسي لأدفع ضريبة مخالفتي لخط السير وفق منهج (الصلاح) و(المصلحة). وثمة أعمال لا دخل لي فيها لكنّها من بعض ألطاف الله تعالى التي أبقاها في غيبه المستور.

وبالتالي، فإنّ الذي (يُغيِّر) و(يتغيَّر) في السنة الجديدة هو أنا الإنسان المسلم ابن ليلة القدر، ويأتي دور المشيئة أو الإرادة الربانية تالياً: ﴿إِنَّ اللّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرعد/ 11). ويقول جلّ جلاله: ﴿وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ﴾ (هود/ 117). وقال سبحانه: ﴿وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذاقَها اللّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ﴾ (النحل/ 112).

أمّا الكوارث الطبيعية التي تدخل في نطاق القضاء والقدر والتي ستحلّ في عامي المقبل فليس لي فيها دخل، هي قرارات ربانية عامة وناجزة لا تدخل في تخطيطي وحسابي، تماماً كالمفاجآت التي تجابه مؤسسة مالية أو حكومية لم تتوقعها ولم تتمكّن من إدخالها في حساباتها لأنّها غير منظورة.

المهم -وأنا أحيي ليلتي العظيمة (ليلة القدر)- لابدّ وأن استشعر واستحضر (كلّ فقري) إزاء (كلّ غنى) الله، و(كلّ ضعفي) أمام (قدرة الله)، وكلّ (محدوديتي) في قبال (مطلقية) وكمال (الله).

اتضح من خلال البحث في المقدّر في تلك الليلة، أنّ ثمة تخطيطاً ربانياً في ما لا نقدر عليه ولا نحيط به علماً، وأنّ هناك تخطيطاً إنسانياً يتضمن الوعود والتعهدات والقرارات والعزائم التي أعزم القيام بها، أو التخلّي عنها، أي إنّني أضع خطتي لسنتي وأسأل الله العون في تنفيذها، وأن يجعل غدي وما بعده أفضل من ساعتي ويومي، وأن لا يفجعني في عامي القادم بارتكاب المحارم واكتساب المآثم، وأن يوجهني فيه لكلّ خير، ولكلّ عمل له فيه رضا ولي فيه صلاح، وأن تكون إرادتي صدىً لإرادته: أريد ما يريد، وأن لا يكلني إلى نفسي طُرفة عينٍ أبداً.

ولي أن أتذكّر، وأنا أخطط لعامٍ أكثر قرباً من الله، وأكثر نفعاً للناس، أنّ بإمكاني أن أطيل أجلي وأُؤخره بناءً على لوازم ومقتضيات معينة، فالإيمان يؤخِّر الأجل ويزيد في الأعمار ﴿وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمّى﴾ (إبراهيم/ 10)، والتقيد بالحلال والحرام يُبعد الكثير من الأمراض الجسدية والنفسية فيحفظ الصحة فيطول العمر. والعبادة والتقوى تؤخر الأجل: ﴿أَنِ اعْبُدُوا اللّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمّى﴾ (نوح/ 3-4). والصدقة وصلة الرحم تطيلان العمر. فعن النبيّ 6: «إنّ الصدقة وصلة الرحم تعمّران الديار، وتُزيدان في الأعمار»[32]. وعنه 6: «مَن سرّه أن يُبسط في رزقه ويُنسئ (يؤخَّر) له في أجله فليصل رحمه»[33]!

 

الاستعداد لليلة القدر:

يمكن أن نقسّم الاستعداد لليلة القدر إلى قسمين:

1- الاستعداد المُبكر.

2- الاستعداد الموافق أو (المتزامن).

ونعني بالاستعداد المبكر أن يعزم الإنسان المسلم على أن يكون يوم صومه مختلفاً عن يوم فطره، وأن يكون ليل صومه مختلفاً عن لياليه الأخرى. فإذا عاش روحية الصوم في نهارات شهر رمضان، وقام شيئاً من ليالي شهر رمضان، واستغفر وأناب في أوقاته، وتقرّب إلى الله بالباقيات الصالحات، فإنّه يُمهّد نفسه ويمرّنها ويعدّها للقاء الليلة الموعودة أو (الليلة الكبرى)، فكأنّما يسير في خط بياني تصاعدي يرفع من نفسه في كلّ يوم درجة، ويشتد حماسه الروحي كلّما اقترب من العشر الأواخر من الشهر، أي إنّه يمارس عملية شحن روحي تمتد من مطلع الشهر وترتفع وتيرتها مع ثلثه الأخير.

بهذا يكون قد أعدّ واستعدّ جيداً للقاء الليلة المباركة على نحو يؤهله لاستقبال فيوضاتها، وهذا يعني أنّه يكون قد عاش نتفاً من أجوائها في الليالي السابقة عليها، حتى إذا (أدركته) يكون هو الذي (أدركها) باستعداده الروحي والنفسي والعملي، ومبادرته إلى القيام بتمرينات تمهيدية من أجل الدخول إليها بكامل اللياقة.

أمّا الاستعداد الموافق، فهو الاستعداد لتلك الليلة في النهار السابق عليها، كأن يدعو الله تعالى في فرائضه وخارجها لأن يوفقه الله تعالى لا لإحيائها فقط، بل أن يكون ممّن ينظر إليهم فيها (لأنّ مَن نظر الله إليه لا يعذِّبه أبداً). وأن يكون عازماً على التوبة قبل الإحياء وأن يتطهّر ويبقى على طهارة طيلة تلك الليلة، ويقدِّم صدقته بين يديها مهما كانت صغيرة فالحرمان أقل منها، وأن يجهّز لائحة مكتوبة بذنوبه كلّها -الصغائر والكبائر- يبسطها بين يدي الغفور الرحيم ويطلب منه أن يتجاوز عنها جميعاً، وأن يعدّ قائمة باسماء أهله وأقربائه وأصدقائه وكلّ مَن له فضل عليه، الأحياء والأموات، ويطلب من الله لهم المغفرة والرضوان، وأخرى بتعهداته على ترك عادات مريضة، واعتماد أخلاق كريمة، وأن يختار (المكان المناسب) لإحيائها في المسجد الجامع، أو في أجواء توفّر له قدراً كافياً من الانقطاع إلى الله، والتضرّع والبكاء بين يديه، وأن يُحييها وكأنّها الأخيرة في تقويم عمره، وفي صبيحتها سيغادر الدنيا إلى دار سلام فيتدارك تقصيرات عمره في ليلة تساوي العمر كلّه.

ومن جميل الاستعداد لتلك الليلة أن يُصفّي حساباته في نهارها السابق لها، كأن يعتذر لمن أخطأ بحقّه، ويسامح مَن أساء إليه، ويعفو عمّن ظلمه، ويطلب إلى إخوانه شموله بدعائهم بناءً على الرواية: «أُدعني بلسانٍ لم تعصني به»[34]. وأن يتواصل مع مَن قطعه بمهاتفة، أو زيارة، أو رسالة نصّية وما شابه. وأن يدخل فيها السرور على بعض المؤمنين لاسيّما الأقربون منهم لأنّهم الأولى بالمعروف، وأن يعمد إلى قضاء حاجة محتاج، أو أي عمل تقريبي يحسب أنّ الله يحبّه وهو يعمله لحبّ الله له[35].

 

قيام الليل:

قام الليل: قضى شطراً منه بالعبادة، وكثيراً ما يُطلق قيام الليل ويراد به (صلاة الليل) أو نافلته المعروفة. وهي -للعلم- صلاة واجبة على النبيّ 6 لما لها من أهمية في الإعداد الروحي، لقوله تعالى: ﴿قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا * إِنّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا * إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلا * إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهارِ سَبْحًا طَوِيلا﴾ (المزمل/ 2-7).

ناشئة الليل: هي الاستيقاظ من النوم والقيام للصلاة في جوف الليل، والناشئة -لغةً- الفتاة الشابة، ولأنّ صلاة الليل تبعث في الروح والجوارح روحية الشباب وتدفق الحيوية أخذت النشأة -أي صلاة الليل منها- والنشأة التربية أيضاً.

(سَبْحاً): من السباحة وهي العوم، فكأنّ النهار نهرٌ يسبح فيه الإنسان، يقاوم موجه، ويصطرع مع تياره، خاصة إذا سبح ضد التيار، فيعاني ويكابد ويجهد نفسه في السعي والتسامي والتكامل وتحصيل القوة والمعرفة.

إنّ الإنسان المسلم الذي يواظب على صلوات الليل في سائر الليالي أو في بعضها، يعرف قيمة وقت هذه الصلاة وهو (السَحَر): ﴿وَبِالأسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ (الذاريات/ 18). هو وقت استرخاء الأعصاب، وهدوء الضوضاء، ورقود الناس، وسكون الليل، وصفاء القلب، وتفتح الجوارح، فيكون لوقع المناجاة فيه طعمٌ ومذاقٌ آخر، وهو أفضل أوقات التفرّغ الكامل للعبادة حيث لا يزاحمه شيء آخر، ولعلّ هذا هو سبب الندب أو الحثّ عليها، لأنّها تفتح نوافذ للروح وآفاقاً للسموّ ذات زخمٍ عالٍ وطاقة كبيرة تمكّن صاحبها من مواجهة تيار نهارٍ جديد، ومشاكل جديدة، ومعاناة أخرى، وسباحة أخرى في نهر النهار الطويل.

هذه العادة، سواء كانت منتظمة، تجري كلّ ليلة، أو متقطّعة تحدث في بعض الليالي، هي تجربة من تجارب إحياء الليل أو جانب منه. أمّا في ليلة القدر فتتسع هذه الليلة لتشمل وتشغل الليل بطوله أو بأكمله، فلا تكون قياماً في جزء منه وللصلاة فحسب، وإنّما هي قيام كلّ الليل للصلاة والذكر والدعاء والعبادة بشتى أطيافها، ومن هنا فإنّ التعوّد أو الاعتياد على قيام الليل -قبل ليلة القدر- سيعطي لقيام هذه الليلة نقلة نوعية في الاغتراف من فيوضاتها، لأنّها فعلاً (غنيمة)!

لنتذكر -ونحن نحيي ليلة القدر- قيمة صلاة الليل من خلال:

1- إنّ هذه الصلاة مددية أو عونية، تُعين الإنسان على سباحته وسياحته النهارية: ﴿إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلا﴾ (المزمل/ 6).

2- هي فرصة، أو واحة للاستغفار: ﴿وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأسْحارِ﴾ (آل عمران/ 17).

3- هي سانحة لـ(الدعاء) و(الرجاء) و(الجزاء) أيضاً: ﴿تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (السجدة/ 16-17).

4- كلّ وحدة من وحدات الليل هي مساحة أو ساحة للتعبّد والتقرّب والانتهال من الفيوضات الإلهية: ﴿وَسَبِّحْهُ لَيْلا طَوِيلا﴾ (الإنسان/ 26). وقال سبحانه: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقامًا مَحْمُودًا﴾ (الإسراء/ 79). ولهذا اعتبرها النبيّ 6 -في ما روي عنه- (فرحة) من ثلاث فرحات: «لقاء الإخوان، والإفطار من الصيام، والتهجّد (الاستيقاظ للصلاة) آخر الليل»[36]. وفي الخبر عنه 6: «ما زال جبرئيل يوصيني بقيام الليل حتى ظننت أنّ خيار أُمّتي لن يناموا»[37]. كما اعتبر 6 سبباً من أسباب اختيار إبراهيم 7 (خليلاً) هو صلاته بالليل والناس نيام[38]. وفي الأثر عنه 6 في مباهاة الله تعالى بمن يصلي في جوف الليل: «إنّ العبد إذا تخلّى (اختلى) بسيده في جوف الليل وناجاه، أثبت الله النور في قلبه، ثمّ يقول -جلّ جلاله- لملائكته: يا ملائكتي! انظروا إلى عبدي فقد تخلّى بي في جوف الليل المظلم، والباطلون لاهون، والغافلون نيام، اشهدوا أنّي قد غفرتُ له»[39].

وإذا كانت الحسنات يذهبن السيّئات، فإنّ صلاة المؤمن، كما في الرواية عن الإمام جعفر الصادق 7: «تُذهب لما عمل من ذنب بالنهار»[40].

لكنّنا نريدها هذه الليلة المختلفة صلاةً مختلفةً بالعمل على الإجابة عن الأسئلة التالية:

1- هل يمكنني أن أُحقق (صلاة خاشعة) وانقطاعاً إلى الله ولو في ركعتين خالصتين. في الحديث: «مَن صلّى ركعتين لم يُحدّث نفسه فيهما بشيء من أمور الدنيا غفر الله له ذنوبه»[41].

2- هل يمكن أن أجعل من تلك الصلاة بمثابة نهر أغتسل فيه من أدران وأوساخ سنة كاملة؟

3- هل يمكن أن أتلو هذا الدعاء قبل الدخول إلى صلاتي: «اللّهم إنّي أقدِّم محمّداً 6 بين يدي حاجتي وأتوجّه به إليك، فاجعل صلاتي به مقبولة، وذنبي به مغفوراً، ودعائي به مستجاباً، إنّك أنت الغفور الرحيم»!

4- هل يمكن أن أغضّ بصري في تلك الصلاة فلا أرفعه عن مواضع سجودي، ولا التفت يميناً أو شمالاً، وأثريت في قراءتها وركوعها وسجودها.

خلاصة القول إنّ الله تعالى (يُقبل) على مَن (يُقبل عليه): «يا أبا ذر! ركعتان مقتصدتان في تفكر خيرٌ من قيام ليلة والقلبُ ساهٍ»[42].

 

برنامج مفتوح لإحيائها:

(ليلة القدر) هي ليلة القرب من الله تعالى، والمقرّبات منه كثيرة، وقد يتقرّب الإنسان المسلم لله في غيرها من الليالي، خاصة وأنّ ليالي الشهر الفضيل (شهر رمضان المبارك) تتيح كلّها للمسلم الصائم أن يقوم ليله ويحييه بالعبادة والصلاة والتلاوة والذكر، فهي -كما مرّ- أفضل الليالي عند الله تعالى. لكن لهذه الليلة الاستثنائية وقعها الخاص وبرنامجها المميز الذي قد ترد فيه بعض الأعمال، على نحو إشغال الليلة بأعمال تعبّدية خالصة، لا على نحو الالزام الفرائضي.

إنّ المطالع لأخبار هذه الليلة عند السلف الصالح لا يجد برنامجاً محدّداً بعينه، إذ يحقّ لكلّ مُحيي هذه الليلة أن يختار البرنامج الذي يتناسب وقدسيتها وروحانيتها ومساحتها الزمنية المكثفة. المهم أن تكون ليلة (الوصل) و(الوصال) مع الله تبارك وتعالى.

لاحظ أنّك بقدر ما تُطلق على هذه الليلة من تسميات، منسجمة مع قدرها يمكنك أن تحييها بموجب ما يتراءى لك من تلك التسميات: فهي (ليلة الاعتراف) وهي (ليلة البكاء النادم) وهي (ليلة الدعاء والمناجاة) و(ليلة القرآن والتدبّر) و(ليلة التأمّل والتفكّر) و(ليلة العزم والتصميم) و(ليلة الشكر والثناء).. وهي ليلة النوع العبادي أكثر منها ليلة الكم العبادي، وإذا وافق هذا ذاك فنورٌ على نور.

وكما قلنا فإنّ صلاة واحدة يصليها مُحييها لا يُحدّث فيها نفسه بشيء من أمور الدنيا خيرٌ من ألف ركعة والقلبُ ساهٍ.

والتدبّر في بعض آيات الكتاب الكريم واستيعاب معانيها واستحضارها في الحياة، خيرٌ من ختمة قرآن والنظرات أشبه بعربات قطار سريع..

والدعاء الواحد الذي تختلط فيه العبرات بالنبرات، خيرٌ من تلاوة كتاب أدعية والغاية الإكثار من الدعاء لا حقيقة الإحساس بالفقر بين يدي الله الذي لا تنفدُ خزائنه..

يقول الإمام عليّ 7 -في الرواية عنه-: «لا تنجع (تنجح وتحقّق هدفها) الرياضة (التمارين الروحية) إلّا في نفسٍ يقظة»[43]. فكم سنتوفّر على (اليقظة) في تلك الليلة؟

إنّ تقسيم الزمن إلى ثلاث ساعات يصلح جدّاً لإحياء الليلة المباركة، تأمّل:

1- ساعة يناجي فيها ربه.

عن الإمام الباقر 7: «تعرّض للرحمة وعفو الله بـ(حُسن المراجعة)، واستعن على (حُسن المراجعة) بـ(خالص الدعاء) والمناجاة في الظُلَم»[44].

2- ساعة (يحاسبُ) فيها نفسه.

3- ساعة (يتفكّر) في صُنع الله عزّ وجلّ.

من الأعمال النوعية في تلك الليلة، ما جاء ذكره في كتب إحياء تلك الليلة، ومنها:

- سؤال الله العافية. روي أنّ النبيّ 6 قيل له: «ماذا أسأل الله تعالى إذا أدركت ليلة القدر؟ قال: العافية». عافية (الدين) و(الدنيا) و(الآخرة).

- مذاكرة العلم. عن الشيخ الصدوق إحياؤها بمذاكرة العلم أفضل.

- الاستغفار والدعاء. العلامة المجلسي: أفضل الأعمال فيها: (الاستغفار) و(الدعاء) لمطالب الدنيا والآخرة (للنفس والوالدين) و(الأقارب والإخوان) (الأحياء والأموات)، بل الدعاء حتى لغير المؤمنين والمسيئين والمقصّرين بالمغفرة والرجوع إلى الله.

- إحصاء المساوئ. عن الإمام عليّ 7: «على العاقل أن يُحصي على نفسه مساوئها في الدين والرأي والأخلاق والأدب، فيجمع ذلك في صدره أو في كتاب ويعمل في إزالتها»[45].

- افتتاح نهارها بخير وختمها بخير. في الخبر عن رسول الله 6: «مَن افتتح نهاره بخير وختمه بخير، قال الله لملائكته: لا تكتبوا عليه ما بين ذلك من الذنوب»[46].

- الإكثار من الصلاة على النبيّ 6 وآل بيته :. قال تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ (الأحزاب/ 56). فليس دعاء مستجاب كالصلاة عليه 6 وعلى آله الطيبين الطاهرين :.

ولنتذكر في نوعية الأعمال:

إنّ العمل القليل المبارك فيه خيرٌ كبير وكثير: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾ (الزلزلة/ 7). وإنّ الكلمة الطيبة صدقة، وإنّ العطاء القليل خيرٌ من الحرمان، وإنّ صدقة السرّ تطفئ غضب الربّ، وإنّ دمعة صادقة تغسل ركاماً من الذنوب، وإنّ إصلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام، وإنّ العمل الجماعي العبادي مبارك أكثر من الفردي إلّا إذا أراد اجتناب الرياء والحصول على الصفاء، فقد تشمل الرحمة الجماعة فتكون من بينهم، وإنّ بالشكر تدوم النعم، وإن ليس بعد الإيمان أفضل من إدخال السرور على المؤمنين، وإنّ من أفضل وأحبّ الأعمال إلى الله (برّ الوالدين)، وإن خير موضوع الصلاة فمن شاء فليقلل، ومن شاء فليكثر.

 

روحيّة المداومة:

حتى لا تكون ليلة القدر ليلة عابرة، نحاول -على قدر ما نستطيع- أن نستعيد ذكراها في ليالي القيام (قيام الليل). عن الإمام الصادق 7: «مَن عمل عملاً من أعمال الخير فليدم عليه سنة، ولا يقطعه دونها. (وفي رواية): ثمّ يتحول منه إن شاء إلى غيره، وذلك أنّ ليلة القدر يكون فيها -في عامه ذلك- ما شاء الله أن يكون»[47].

إنّ خير الأعمال (ما داوم) عليه العبد (وإن قلّ) لأنّ قليلاً تدوم عليه خيرٌ من كثير مملول منه. كان الإمام الباقر 7 يقول: «إنّي أحبّ أن أدوم على العمل إذا عوّدتني نفسي، وإن فاتني من الليل قضيته في النهار، وإن فاتني من النهار قضيته بالليل، وإنّ أحب الأعمال إلى الله ما ديم عليه»[48].

اللّهم ارزقنا أن نكون ممّن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وإجعلنا من أهل ليلة القدر بحقّها عندك.. يا أرحم الراحمين.

 

-وَآخِرُ دَعْوانا أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ-


[1]- كنز العمال، 23688.

[2]- بحار الأنوار، 96/246.

[3]- نفس المصدر، 96/334.

[4]- ربّما أراد بـ(العمل) العملين: العبادي التزكوي، والخيري النفعي للناس.

[5]- بحار الأنوار، 96/375.

[6]- التمحيص: التخلّص من الشوائب.

[7]- القيام: يُراد به صلاة الليل.

[8]- الصحيفة السجادية للإمام زين العابدين، الدعاء 44.

[9]- آمالي الصدوق، 84.

[10]- نفس المصدر، 44.

[11]- نفس المصدر، 56.

[12]- بحار الأنوار، 96/342.

[13]- لابدّ من الانتباه هنا إلى أنّ قدرة الشياطين على الخداع والتضليل والاستدراج والتسويل ليست مطلقة، بل هي قدرة محدودة لسببين: أوّلاً: الله تعالى هو المتصرف بشؤون الكون كلّه، والشياطين تحت قبضته أو هيمنته، والرواية تأتي في هذا السياق. الثاني: إنّ الشيطان الكبير نفسه قال إنّه لا سلطان له على المؤمنين.

[14]- الاختيار الرباني نابع من تقدير لخصوصية المختار، سواء كان المختار زمنياً كالأمثلة التي أشرنا إليها، أو مكانياً: كالمسجد الحرام، والمسجد الأقصى، والمسجد النبوي، والمرقد الحسيني، ويشرف الزمان أو المكان بنسبته وانتسابه، أو بشرياً كاختيار واصطفاء الأنبياء والرسل والأوصياء، ففي كلٍّ عند الله تفضيل لبعضها على بعض.

[15]- هو تقدير بحسب العمل والاستعداد والنوايا، لا تقديراً حتمياً قدرياً، لأنّ التقدير القدري يُسقِط مبدأي الثواب والعقاب، ويَقدَح في عدل الله تعالى، وإنّما تقدير ذلك كلّه بحسب إحاطة العليم بما سيكون، لا انّه فرضٌ من عنده.

[16]- لا نرى وجهاً وجيهاً لهذه المقارنة، ذلك إنّ مُلك سليمان 7 لم يكن مُلكاً دنيوياً مسخراً في إشباع شهوات ونزوات المُلك، وإنّما كان مُلكاً ربانياً مسخراً في خدمة عباد الله وبالتالي فهو عبادة أيضاً، إلّا إذا أريد أنّها خيرٌ من الثروات التي كان يملكها.

[17]- وهنا أيضاً لا وجه للمقارنة، فحكم بني أُمية حكم جاهليّ فاسد حَكَمَ باسم الإسلام وشوّه صورة الإسلام، فلا يقارن الإيجابي (ليلة القدر) بـ(السلبي) (حُكُم بني أُمية).

[18]- هذا المعنى قريب الشبه بقول الإمام عليّ 7 في (الزمان): «كلّ يوم لا يُعصى الله فيه فهو عيد». وفي (المكان): «ليس بلدٌ أولى بك من بلد، خيرُ البلاد ما حملك»، أي إنّه يعطي القيمة للعلاقة مع الله وبما يحقّق إنسانية الإنسان، لا مجرد الوحدة الزمنية أو البقعة المكانية.

[19]- يهتبلها: يغتنم الفرصة.

[20]- أخرجه البخاري (269/4)، في صحيحه كتاب صلاة التراويح، باب العمل في العشر الأواخر من رمضان.

[21]- الكليني، الكافي، ج2، ص628.

[22]- من وحي القرآن، العلامة الراحل محمّدحسين فضل­الله، ج24، ص353-354.

[23]- حتى لو فهمنا أقسام الله تعالى بأنّها وحدات زمنيّة معتادة، لا أقساماً بمخلوقات لها صفة خاصّة، فإنّ تقسيمها المنتظم يتوزّع فيها نشاط الإنسان وهجوعه، فإنّها حركة في (الميلاد والممات) و(الخير والشرّ) و(العمل والكسل) و(التدارك والتوبة) و(الزيادة والقربة)....

[24]- نهج البلاغة، قصار الحكم، 104.

[25]- المجلسي، بحار الأنوار، ج93، ص337.

[26]- بيّنا في مقدمة هذه الدراسة خصائص هذه الليلة الكريمة العظيمة، ولماذا سمّيت بليلة القدر، وما معنى القدر، فلا حاجة للتكرار.

[27]- القدر -لغةً- تعني الضيق، من ذلك قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ﴾ (الفجر/ 16). أي ضيّق عليه رزقه، ومنه قوله سبحانه عن يونس 7: ﴿فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ﴾ (الأنبياء/ 87). أي اعتقد أنّ الله تعالى لن يضيق عليه من واسع رحمته.

[28]- طالما أنّه سبحانه وتعالى عطف (الملائكة) على (الروح) فإنّ العطف في اللغة يقتضي التغاير، مما يعني أنّ (الروح) إمّا من جنس غير جنس الملائكة، أو انّه مَلَك مميز أفرد النص القرآني له مقاماً خاصاً.

[29]- الراغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن، ص241.

[30]- لاحظ أنّنا لا نريد أن نطرح تأريخاً أو تقويماً جديداً في مقابل أوّل السنة الهجرية التي يعتبرها المسلمون بداية سنتهم القمرية، لكنّ المتأمّل في قدريّة ليلة القدر وما يعدّ ويهيأ فيها، يجد أنّ اعتبارها رأس سنة الإنسان المسلم ليس اعتباطياً.

[31]- سفينة البحار، ج1، ص50، طـ 1414هـ.

[32]- تفسير نور الثقلين، ج4، ص354- 355.

[33]- المصدر السابق نفسه.

[34]- بحار الأنوار، ج93، ص390.

[35]- لاحظ أن ليس هناك برنامج محدّد في هذه الليلة -كما سيتضح من البحث لاحقاً-، فبإمكانك أن يكون لك اجتهادك الخاص في إحياء الليلة بما يناسبها وبما ينسجم مع استعدادك الروحي والنفسي.

[36]- المجلسي، بحار الأنوار، ج69، ص392.

[37]- آمالي الصدوق، 149.

[38]- علل الشرائع، 35/4.

[39]- آمالي الصدوق، 230.

[40]- يجب التنبه هنا إلى أنّ هذا لا يعني أن يتعمّد الإنسان الإثم في النهار ليُخادع نفسه فيقول: لا بأس، سيأتي اللّيل فأمحوها أو أغسلها، فهذا خداع للنفس لا لله تعالى.

[41]- بحار الأنوار، 41/18.

[42]- تنبيه الخواطر، 2/59.

[43]- غرر الحكم، 2497.

[44]- تحف العقول، 285.

[45]- بحار الأنوار، 78/6.

[46]- كنز العمال، 4381.

[47]- ميزان الحكمة، ج7، ص2822.

[48]- ميزان الحكمة، ج7، ص2823.

ارسال التعليق

Top