• ٢٥ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٦ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

عناية القرآن الكريم بهموم المجتمع العربي

عناية القرآن الكريم بهموم المجتمع العربي
القاعدة الأساسية في عناية القرآن الكريم بهموم المجتمع العربي هي أنّ القرآن الكريم كما يتعامل مع الواقع المعاش الذي لم يكن خالياً من الهموم. لقد نزل القرآن الكريم من السماء ليحدث تغيرات جذرية في ميادين عديدة من حياة هذا المجتمع. في ميادين الآراء والمعتقدات، وفي ميادين التقاليد والعادات، وفي ميادين القيم الاجتماعية والمعايير السلوكية التي كان هذا المجتمع يمارس حياته اليومية، وحياته العامة، على أساس منها. والتغير الجذري الذي يستهدفه القرآن الكريم من دعوته التي يدعو إليها، لا يتحقق إلا بالناس. فهم الذين يحققون التغير، وهم الذين يستفيدون من هذا التغير حين يمارسون حياتهم على أساس من تلك البدائل التي يجىء بها التغير. إنّه من هنا قلنا بأنّ القرآن الكريم كان يتعامل مع الواقع. وتعامل القرآن الكريم مع الواقع انما يبدأ بتقييم الواقع المعاش نفسه. من أجل التعرف على مدى صحته وسلامته، ومدى فساده وبطلانه – كي يتناول الناس هذا الواقع بالإصلاح والتعديل، أو بالثورة والتغيير.   - حوار مع معارضي التغيير: وهذه الحقائق الاجتماعية فيما يخص التغيير هي التي يشير إليها القرآن الكريم في آياته العديدة التي يسجل فيها مواقف المؤيدين للتغيير، ومواقف المعارضين للتغيير. لقد كان المعارضون يرون في القيم الثقافية التي توارثوها عن سلفهم الكفاية عند ممارستهم للحياة. وكانوا يقولون للنبي (ص) حين يدعوهم للتغيير: "حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا". وكان النبي (ص) يرد عليهم بما نزل عليه من القرآن الكريم قائلاً لهم: "أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون؟ أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم"؟ ونفهم نحن من إجابة القرآن الكريم انّ الواقع المعاش الذي يستمد قوته من التراث انما يلحقه التغيير في حالتين: الأولى: أن يكون هذا الواقع قد قام أصلاً على غير أساس من العلم والهداية: "أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون". الثانية: ان يكون هذا الواقع قد قام على أساس سليم من التراث – ولكن جد جديد هو أكثر منه هداية، وصلاحية عند ممارسة الحياة! "أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم". يبدأ القرآن الكريم في تعامله مع الواقع بتقييم الواقع لبيان مدى ما فيه من صحة أو فساد يترتب عليهما التعرف على مدى ما يمكن أن يقوم به الناس من تعديل أو تغيير. ويخطو القرآن الكريم خطوته الثانية في التعامل مع الواقع بالاعتماد على الواقع نفسه في التغيير من الواقع المعاش، أو في استقطاب الناس نحو الجديد الذي يدعو إليه، والذي سوف يصير هو الواقع المعاش عندما يتحقق التغيير. والقرآن الكريم هو الذي يشير إلى هذه الحقائق أيضاً عندما يعمل على تغيير الناس من الواقع المعاش، وعندما يدعو الناس إلى المستقبل المرجو. ونضرب في ذلك المثلين التاليين: أوّلاً: من المسلم به في المجتمع العربي كراهية ولادة البنات ووأدهن بعد الولادة مباشرة – الأمر الذي أشار إليه القرآن الكريم في قوله: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ...؟) (النحل/ 58-59). ومن المسلم به أيضاً أنهم كانوا يعبدون اللات والعزى ومناة، ويقولون فيما حكى القرآن الكريم عنهم: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) (الزمر/ 3). وكانت اللات والعزى ومناة من الأُمّهات الإناث التي هي في الوقت ذاته بنات الله. واعتمد القرآن الكريم على هذا التراث الثقافي عند العرب في تنفيرهم من عبادة غير الله، من حيث انه لا يصح أن يعبدوا الاناث، ولا أن يجعلوا لله البنات ولهم الذكور من حيث أن تلك لن تكون القسمة العادلة. والآيات في ذلك عديدة، ونكتفي منها بالتالي: يقول الله تعالى: (أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخْرَى * أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأنْثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى) (النجم/ 19-22). ويقول: (أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلا عَظِيمًا) (الإسراء/ 40). ويقول: (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلا شَيْطَانًا مَرِيدًا * لَعَنَهُ اللَّهُ...) (النساء/ 17-18). ويقول: (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ * أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ) (الزخرف/ 15-16). "وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً! أشهدوا خلقهم؟ ستكتب شهادتهم ويسألون. وقالوا: لوشاء الرحمن ما عبدناهم. مالهم بذلك من علم، ان هم الا يخرصون...". وهكذا نجد القرآن الكريم يعتمد على الواقع في تنفيرهم من الواقع. يعتمد على كراهيتم للأنثى في تنفيرهم من عبادة الآلهة الاناث.   - من خلال الواقع: ثانياً: أمّا المثل الثاني فنضربه نبين به كيف اعتمد القرآن الكريم على الواقع المعاش في استقطاب الناس نحو الواقع الجديد الذي يدعو إليه، والذي سوف يتحقق في المستقبل واقعاً معاشاً. وهنا نشير إلى مسلمة لم ينكرها أحد حتى اليوم وهي أن قريشاً كانت تشتغل بالتجارة، وأن جنوب الجزيرة وبلاد اليمن كانوا أيضاً يشتغلون بالتجارة. وأن تجارة الشرق الأقصى كانت تصل إلى مصر وروما عن طريق البلاد العربية. هذا الوضع التجاري كان له صداه في ثقافة الناس يومذاك فكانت الأقطار التجارية وما يور فيها من قيم حول المكسب والخسارة، وحول الربح، وحول المكاييل والموازين وما أشبه، هي الأساس البارز عند ممارسة الناس للحياة. وجاء القرآن الكريم لاعتمد على هذه القيم التجارية بما فيها عم عمليات البيع والشراء، وبما ينتج عنها من مكسب أو خسارة، في استقطاب الناس نحو الدعوة الجديدة. يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (الصف/ 10-11). ويقول: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ) (فاطر/ 29). ويقول: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) (البقرة/ 16). ويقول: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ...) (التوبة/ 111) ويقول: (فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ...) (التوبة/ 111). وهكذا نرى القرآن الكريم يعتمد على الواقع المعاش عند استقطابه الناس نحو الجديد الذي سوف يتحقق ويصبح واقعاً بديلاً. وننتهي من كل ما تقدم إلى تأكيد ما سبق أن قلناه من أن عناية القرآن الكريم بهموم المجتمع العربي، انما هي النتيجة لتعامل القرآن الكريم مع الواقع العربي. ويستوي هنا أن يكون هذا الواقع على مستوى الفرد أو على مستوى الجماعة.   - من هموم المجتمع: والهموم التي عنى بها القرآن تكاد تكون من نوع الهموم التي توجد في العادة في المجتمعات التي تلعب في حياتها الأنشطة التجارية – ويبدو ذلك من المسلمات مادمنا نعلم أنّ النشاط البارز في المجتمع العربي بصفة عامة، وفي المجتمع المكي بصفة خاصة، كان النشاط التجاري. والأساس في الأنشطة التجارية هو المال من حيث انّ العمليات التجارية تقوم على أساس من البيع والشراء – أي مبادلة المال بالمال بهدف الربح. ومن هنا يحب التجار المال ويحرصون عليه، ويستهدف التجار الربح الوفير في أسرع وقت، وبأيّة وسيلة تحقق ذلك. وتكوين الثروة الطائلة عن طريق الأنشطة التجارية يؤثر في التركيب الاجتماعي إلى أبعد حد حيث يقسم المجتمع إلى طائفتين من الناس: طائفة هي القلة القليلة في العدد، ولكنها التي تملك أسباب القوة من حيث انها التي تملك المال الذي يستثمر في النشاط، وتمارس به الحياة – وطائفة هي الكثرة الكاثرة التي لا تملك من أسباب القوة شيئاً، والتي تقف من الطائفة الأولى موقف التابع الذي يؤمر فيطيع. ومن المسلمات في دنيا الناس أن هموم المجتمع التجاري تحيط بالكثرة الكاثرة من الطائفة الفقيرة المستضعفة. ووقف القرآن الكريم إلى جانب هذه الطائفة من حيث انها الكثرة الكاثرة. أوّلاً: أي أنها صاحبة المصلحة من التغيير الذي يدعو إليه. ومن حيث انها قد بلغت من الضعف والهوان مبلغاً ذابت فيه إنسانية الإنسان. لقد بلغت من الفقر حدا ذهبوا فيه إلى قتل أولادهم خشية الأملاق – وهذا هو الذي يحكيه القرآن الكريم عنهم. وبلغت من ضياع الشخصية الإنسانية في الإنسان حدا أصبحوا فيه لا يملكون من أمر أنفسهم شيئاً – حتى لقد وصفهم القرآن الكريم بانهم قد ظلموا أنفسهم، وعاب عليهم أنّهم قد رضوا لأنفسهم هذا العار. فهم الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم، وهم الذين قيل لهم: فيم كنتم قالوا: كنا مستضعفين في الأرض. فقيل لهم: ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها؟   - عن الغش التجاري: تلك هي بعض الهموم التي لحقت بهذه الطائفة من الناس. الطائفة التي تمثل الكثرة الكاثرة في صنع الحياة، وفي تحقيق الصالح العام، وفي بناء الأمجاد. ولن نستطيع أن نقف عند هموم هذه الطائفة همّا همّا، وإنما نختار من بين همومها اثنين: الواحد يمثل جشع التجار واستغلالهم هذه الطائفة في تلبية هذا الجشع – والثاني يمثل ضياع الشخصية الإنسانية للفقراء أمام الشخصية الإنسانية للأغنياء الأقوياء، في هذه المجتمعات التجارية التي تعتبر قيمة الإنسان فيها بمقدار ما يملك من قوة المال. والأمر الأول نمثل له بموقف القرآن الكريم من عملية الغش التجاري – تلك العملية التي يستغل فيها التجار المواطنين استغلالاً بشعاً. وتقوم عملية الغش في هذا المجتمع على أساس من التلاعب في الأدوات التي تعارف الناس على انها أدوات الحق والعدل فيما يخص الأنشطة التجارية وهي: المكاييل والموازين. لقد كان التجار يستوفون أكثر من حقوقهم حين يشترون، ويبخسون الناس حقوقهم حين يبيعون لهم ما هم في حاجة إليه. ووقف القرآن الكريم إلى جانب الحق والعدل. إلى جانب المصلحة العامة – مصلحة الكثرة الكاثرة من الناس. وتوعد هؤلاء الذين يفعلون ذلك، والذين يحبون المال حبا جما، ويأكلون التراث أكلا لماً، الذين يمنعون الماعون ولا يَحَاضون على طعام المسكين. جاء في القرآن الكريم فيما يخص عمليات الغش التجاري هذه: قال تعالى: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ) (المطففين/ 1-4). وقال تعالى: (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ...) (الإسراء/ 35).   وقال: (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ) (الرحمن/ 7-9). والظاهرة القرآنية التي يجب أن نلتفت إليها عند حديثنا عن علاج القرآن الكريم لهموم الغش التجاري، وطلبه الوزن بالقسط، وألا تكون هناك خسارة في الميزان. انّه جعل الميزان أداة العدل في الآخرة كما هو أداة الحق والعدل في الدنيا. جاء في القرآن الكريم فيما يخص ذلك: قول الله تعالى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) (الأنبياء/ 47). وقوله تعالى: (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ) (الأعراف/ 8-9). ونشير في نهاية عرضنا لمدى عناية القرآن الكريم بهذا الهم الذي يجلبه النشاط التجاري على المجتمع التجاري، إلى الآيات القرآنية الكريمة التي تخاطب المؤمنين والكافرين، وتصور الموقف حين يتعارض النشاط التجاري مع وقت إقامة الصلاة في يوم الجمعة. يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (الجمعة/ 9-11).   موقف ضد التبعية: أما الأمر الثاني الخاص بضياع الشخصية فنمثل له بموقف القرآن الكريم من الظاهرة الاجتماعية: السيادة والتبعية. والقرآن الكريم ضد التبعية، ويعمل على أن يسترد الاتباع شخصياتهم، ويتحملون تبعة أعمالهم، ويعيدون تنظيم العلاقات ممن كانوا يظنونهم أرفع منهم منزله، وأعلى درجة، من حيث انهم الاسياد الذين يتحملون تبعة أعمال الاتباع من حيث انّ الاتباع لا يصدرون في أعمالهم عن إرادتهم الخاصة، وإنما عن إرادة الساعة. انهم لا يملكون من أمر أنفسهم شيئاً، وليس عليهم إلا السمع والطاعة. وعمل القرآن الكريم على تغيير هذا النوع من العلاقات. عمل على أن يرد لكل إنسان إنسانيته التي يتساوى فيها مع غيره، ويمتلك فيها حرية الإرادة، وتحمل المسؤولية. وسلك القرآن في سبيل ذلك أداتين من أدوات التغير الاجتماعي: أولاهما: توضيح فساد العلاقة القائمة بين السادة والاتباع، والثانية: تقييم الإنسان على أساس جديد هو العمل، وليست الثروة وكثرة الأموال والأولاد، وما إلى ذلك. والأداة الأولى تمثل لها في هذا المقام بتلك الآيات التي وردت في القرآن الكريم مصورة فساد هذه العلاقة. جاء في القرآن الكريم: (وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا) (الأحزاب/ 67-68). وجاء فيه: (وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ) (غافر/ 47-48). وجاء فيه أيضاً: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (سبأ/ 31-33). وجاء فيه أخيراً: (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ * وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ...) (إبراهيم/ 21-22). وهكذا يمضي القرآن الكريم في بيان فساد هذه العلاقة لينفر الاتباع المستضعفين منها وتصبح لهم شخصياتهم المستقلة وإرادتهم الحرة. ويحض القرآن الكريم المستضعفين على الهجرة، ان هم عجزوا عن ان يكونوا مستقلين عن غيرهم فيما يقولون ويفعلون، ومتحملين تبعة أعمالهم. جاء في القرآن الكريم: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا...) (النساء/ 97). ولقد جعلهم القرآن الكريم ظالمي أنفسهم من حيث انهم قد تخلوا عن انسانيتهم، ولم يدافعوا عن شخصيتهم، واستسلموا للسادة على أنّه لا إرادة لهم، ولا عزة ولا كرامة. ثمّ انهم بموقفهم هذا قد عرضوا أنفسهم لعقاب الله لهم، ولهم بذلك قد ظلموا أنفسهم من حيث انهم وضعوها الموضع الذي تستحق من أجله العقوبة.   - في قمة العمل: وكانت الأداة الثانية وضع قيمة جديدة لإنسانية الإنسان كي تمارس بها الحياة في المجتمع العربي الجديد الذي يدعو القرآن الكريم إلى تحقيقه على أساس من النظام الديني: الإسلام هذه القيمة هي العمل – العمل الصالح الذي يصلح به حال العامل – وحال المجتمع الذي يعيش فيه. لقد كانت القيمة من قبل هي الثروة أو كثرة الأموار وكثرة الأولاد. وكان الذين يملكون ذلك يقولون فيما حكى القرآن الكريم عنهم: من أشد منا قوة؟ كما كانوا يقولون فيما حكى القرآن الكريم أيضاً عنهم: نحن أكثر أموالاً وأولاداً، وما نحن بمعذبين. ورد القرآن الكريم عليهم قيلهم هذا بقوله: (وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى...) (سبأ/ 37)، (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا) (المجادلة/ 17). وذهب القرآن الكريم إلى ما هو أبعد من هذا حيث جاء فيه انّ الثروة سوف تكون أداة تعذيب بالنسبة لمالكيها حين لا ينفقونها في سبيل الله – سبيل المجتمع. يقول الله تعالى: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) (التوبة/ 34-35). ليس المال، وكثرة الأولاد، هو الأداء في تقييم الإنسان، وإنما هو العمل الصالح. العمل الذي به يصلح حال الفرد وحال المجتمع. وانّه من هنا كانت المسؤولية في النظام الجديد فردية: كل نفس بما كسبت رهينة، ومن عمل صالحا فلنفسه ومن اساء فعليها. ويستوى في ذلك الذكر والأنثى، فكل واحد منهما مطالب بالعمل الصالح الذي به يصلح حال الفرد وحال المجتمع. والقرآن الكريم هو الذي يقول: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل/ 97). ويقول المفسرون للقرآن الكريم: إنّ القرآن الكريم لم يذكر الإيمان إلّا ومعه العمل الصالح. العمل هو القيمة التي يقيم بها الإنسان في الإسلام. (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ...) (التوبة/ 105). وصدق الله العظيم.  

"إنّ الصورة يمكن أن تكون كريمة للغاية، لأنّ الوجه الذي يظهر فيها يبقى كما هو ولا يتقدم به العمر أبدا. فالناس يتغيرون أما صورهم فتبقى على ما هي عليه، وأنت ترى الناس كما تتذكرهم!".

ارسال التعليق

Top