• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الاختيار السليم.. فسحة في الانتقاء الذكي

أسرة البلاغ

الاختيار السليم.. فسحة في الانتقاء الذكي

◄تتعدّد الصفات التي تُخلع على الاختيار السليم، فهو عند أُناس (الاختيار الحكيم)، وعند البعض (الاختيار الصحيح)، وعند آخرين (الخيار الأنسب)، أو (الاختيار الأصلح)، وربما وُصف بـ(الاختيار الأفضل) أو (الاختيار الأمثل)... وما أشبه ذلك.

ومهما كانت الصِّفة التي يكتسبها الاختيار المدروس بعناية، فهو في النتيجة اختيار سليم، حتى إذا رآك أحدهم وقد عرف بما اخترت – بين ما هو مطروح من خيارات بين يديك – سارع إلى القول: لقد أحسنت الاختيار.

فمتى – يا ترى – أحسن الاختيار ليُقال لي: لقد أحسنت الاختيار؟ وحتى لو لم أجد مَن يقولها لي، فإنّ ما يكفيني أن أكون راضياً عن اختياري.

إنّ الإجابة عن هذا السؤال تتطلب – فيما تتطلّب – معرفة ما هو (الخيار الحسن) وما هو (الخيار السيِّئ).. وكيف (أرجِّح) الأوّل، وكيف (أستبعد) الثاني؟

ولعلّك تعرّضت في حياتك إلى خيارات سلبية أو سيِّئة، وإذا لم يكن هناك مَن قد أعرب لك عن خيبة أمله بالقول، لقد أسأت الاختيار، فقد تكون التجربة ذاتها، التي عشتها ودفعت ثمنها وتركت أثرها في حياتك، هي التي تقول لك ذلك، أو تجعلك تُردِّد مع نفسك: لم أكن موفّقاً. لقد كنت سيِّئ الاختيار.. لم أدرس اختياري بعناية.. اعتراف كهذا يجعلك تتأنّى في اختياراتك المستقبلية.

والاختيار فسحة في الانتقاء الذكي.. يتّسع فيه المجال لتقديم خيار على خيار آخر، ولذلك لا نرى مقولة: "مَن خيّرك فقد حيّرك" صحيحة، ذلك أنّ الخيار الوحيد الذي لا خيار غيره هو الخيار المحيِّر؛ لأنّه لا يترك لي فرصة (المفاضلة) و(الترجيح) بينه وبين غيره، أمّا عندما تتعدّد الخيارات أمامي فإن فرصتي في اختيار الأنسب والأفضل ستكون أقوى وأوفر؛ لأنّني عندها أملك حرِّية أن أختار، وأن أكون قريباً من حدود الاختيار السليم. فماذا يعني أن تكون مختاراً؟

في سوق الملابس.. حينما تريد أن تنتقي قميصاً للعيد، أو تحضر به حفلة زفاف أخيك، أو حفل تخرّجك، سيعرض لك البائع عدّة أنواع من القمصان المحلِّية الصنع والأجنبيّة ذات الألوان والأشكال والأسعار المختلفة.. ومن طبيعة البائع – ترويجاً لسلعته – أن يحاول التأثير – بشكل غير مباشر – على اختيار المشتري فيما يُقدِّمه له من شرح تفصيلي وترغيبي عن جودة هذا النوع من القمصان أو ذاك، وبعد أن ينتهي يغمزك غمزة ظريفة ليبدو حيادياً: أنتَ حرّ.. اختر ما شئت.. المال مالك ومهمّتي أن أعرض عليك بضاعتي!

وفي سوق الفواكه والخضار والعقارات، كما في سوق الملابس والأقمشة والسيارات.. المعروضات تحكي عن نفسها أيضاً، وأسعارها المثبّتة عليها قد تدلّ عليها، وأنت في الخيار تنتقي ما تشاء، خاصة إذا كنت في وضع مالي مريح يمكنك من الانتقاء والمفاضلة والترجيح، فالاستطاعة المالية تتيح لك أن تكون مختاراً.

وكما في السوق، كذلك في حقوق الحياة كلها.. قد تكون الخيارات أمامك مفتوحة، وأنت مهما كان مستواك الثقافي أو العمري لا تختار اختياراً أعمى، فحتّى الصغير حينما يدخل إلى معرض اللعب، يحاول أن يُمارس لوناً من الاختيار.. فأنت تفاضل وتفحص وتسأل ثمّ تُقدم.

الحرِّية في الإختيار إذاً هي المساحة التي تتحرّك فيها بين (العَرض) في لغة الاقتصاد أو (المُنبِّه) في لغة علم النفس، وبين الاختيار، أي (الاستجابة)..

 

- في البدء كان الاختيار:

جعل الله الإنسان مُختاراً، وعلى ضوء اختياره جعله مسؤولاً، أي أنّ حرِّية الإنسان في الإختيار هي حرية مسؤولة، حيث يتعرض الإنسان في حياته وبعد مماته لمسؤولية اختياراته الإيجابية والسلبية.

قال تعالى: (وَهَدَيناهُ النّجْدَيْنِ) (البلد/ 10)، والنجد الطريق، والنجدان هما طريقا الحياة السعيدة والشقية، طريق الخير والشر، وكلمة (هديناه) تعني فتحنا أمامه كلا الطريقين، وزيّنا له الأوّل وقبّحنا له الثاني، فإنسانٌ وما اختار. لذلك عبّر سبحانه وتعالى عن نتائج هذا الاختيار بقوله: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) (الإنسان/ 3).

شاكراً: إذا اختار (طريق الخير).

كفوراً: إذا اختار (طريق الشر).

وكلٌّ يتحمل مسؤولية اختياره.

    يقول النبي الأكرم (ص) مشيراً إلى قابلية الاختيار لدى الإنسان: "أيها الناس! إنما هما نجدان: نجد خير ونجد شرّ، فلا يكن نجد الشرّ أحبِّ إليكم من نجد الخير"!

    ولنا أن نترجم هذا القول الذي لم يُقرِّر الحقيقة فقط، بل أرشد إلى أهدى السبل وأفضلها، على النحو التالية: طالما أنكم – أيها الناس – مختارون وعارفون بما هو الأصلح والأفلح معرفة فطرة وعقل ووعي وعلم وترجيح وتجربة، فلماذا تختارون الرديء والهابط والمنحطّ والسيِّئ والفاسد؟ ألسنا نقول لما يأتي من أفراد العائلة ببضاعة رديئة، وكان بإمكانه أن يشتري الأفضل: ألم يكن في السوق غيرها؟ لماذا لم تشترِ أحسن منها؟ هل أنت أعمى.. ألم يعطك الله بصراً تُبصر فيه الجيِّد من الرديء؟ يا لك من مخدوع!

إنّ النقطة الحيوية في مسألة الاختيار، هي أنك قادر على اختيار الأحسن وليس الحسن فقط، وذلك بما وهبه الله تعالى من (عقل) و(إرادة) و(فطرة) و(سمع) و(بصر)، ورسالة هادية محبِّبة للخير ومنفِّرة عن الشر، فالخير أحب إلى طبع الإنسان حتى ولو كان شرِّيراً:

ألم تسمع بأولئك اللصوص الذين جاءوا بالسرقة إلى رئيس عصابتهم قائلين له: قسِّم بيننا بالعدل؟!

ألم تلاحظ أنّ الذي كان يعتدي على عفاف الفتيات في فترة عزوبته، يتحرّك بشدّة عن العفيفة النجيبة إذا قرّر الزواج؟!

ألم تر أنّ شخصاً طلب إلى شخصٍ أن يشهد شهادة زور، ففعل، ثمّ مرّت الأيام، وإذا بذلك الشخص يُصبح قاضياً، ويؤتى له بمشاهد الزور الذي سبق أن سخّره في تزوير الشهادة، أتراه يقبل شهادته؟!

الخيرُ إذاً أصيلٌ في كلّ إنسان، فإذا لم يُمارسه في حياته، ولم يتذوّقه شخصيّاً بالفعل والمزاولة، ولم يُعبِّر عنه في أعماله وعلاقاته ومواقفه، فإنّه يطلبه من الآخرين، فحتّى الحاكم الكاذب المخادع يطالب شعبه أن يكونوا صادقين؛ لأنّه يعرف أنّ الصدق ليس كالكذب.►

ارسال التعليق

Top