• ٢٨ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٨ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

التجارب.. ثـروة الحياة/ ج(1)

أسرة

التجارب.. ثـروة الحياة/ ج(1)
في مستهلِّ حياتك العمليّة، بل وعلى مدار حياتك كلّها يمكنك أن تستفيد من تجربتين: أوّلاً: تجاربك الشخصية والتي تختلف – غنىً وفقراً – من شخص إلى آخر، بحسب خلفيّة كلّ شابّ أو فتاة، وما عاشه كلٌّ منهما في حياته من تجارب ومعاناة وأخطاء، وما اكتسبه من خبرات ومعارف. وليس هناك إنسان قطّ بلا تجارب، فحتّى الطفل الصغير له تجاربه. وتجاربنا ككرة الثلج تنمو مع الأيام باطِّراد. وهناك مَن ينتفع وهناك مَن لا ينتفع من تجاربه. ثانياً: تجارب الآخرين، سواء الشبّان منهم أو الكبار، القريبين أو البعيدين. فكتابُ الحياة مفتوحٌ للجميع، وحقوقه ليس محفوظة، بل هي حقّ مُشاع لأيّ إنسان. وتجربةٌ عاشها أكثر من إنسان، وخلصوا منها بنتائج معيّنة تكفيك مؤونة خوضها من جديد، فلقد قيل: "مَن جرّب المجرَّب، حلّت به النّدامة"، مثلما قيل أيضاً: "إنّ في التجارب علماً مُستفاداً"، أو "في التجارب علمٌ مستأنف". فتجارب الناس الذين عاشوا قبلنا، أو الذين يعيشون معنا، هي معينٌ لا ينضب، يمكن لكلّ شابّ وفتاة أن يغترفا منه، ويستأنفا أو يبدآ حياتهما من عنده ومن خلاله. والتجارب – بعد ذلك – ليست قوالب جامدة، فقد تحتاج إلى بعض التحوير والتطوير لتناسب الوضع الذي نحن فيه، ولكنّها كدروس واستخلاصات ونتائج وعبر، ثروةٌ حريّ بنا أن نستفيد منها، فهي كالحكمة العمليّة أينما وجدناها أخذنا بها، بعد أن ندرس مدى صلاحيّتها وملاءمتها لأوضاعنا وظروفنا. إنّ تجربة شخص كان يعاني الخجل الشديد، وقد تغلّب عليه ضمن خطوات عمليّة معلومة تنفعني كشابّ أو كفتاة أعاني من الخجل. وتجربة آخر نجحَ في دراسته أو تفوّقَ في عمله، تنفعني كإنسان يتطلّع إلى حياةٍ أفضل.. وتجربة مبتكر مبدع، فتح أُفقاً أو آفاقاً جديدة في مجال اختصاصه وحقل عمله، تزيد في وعيي الابتكاري، ذلك أنّ تجارب الناجحين في الحياة هي تجارب قابلة للتعميم، شريطة أن تتوافر الظروف المماثلة، والإرادة القادرة على تذليل الصعوبات نحو النجاح. ولذا، فإنّنا نستوحي القرآن الكريم، حينما ندعو إلى دراسة تجارب الآخرين، أُمماً وأفراداً وجماعات: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ) (الحج/ 46). فمن الضروري لكلّ شابّ وفتاة يريدان أن يتثقّفا بثقافة الحياة، وأن يستفيدا من تجارب الآخرين، أن يقرآ كتب السيرة، والتراجم الذاتية وكتب المذكّرات، فهي خلاصة تجارب حياتيّة تثري حياتنا، فكأنّنا نضيف إلى رصيدنا الفعلي أرصدة أخرى. أمّا قصص الصالحين والناجحين والمبدعين – في مختلف الأزمنة والأمكنة – فهي الأخرى رصيد غني يمكن أن نتوافر على تحصيله باستمرار من الكتب التي تتخصّص في نشره. بل يمكن الإستفادة أيضاً من جلوسنا إلى كبار السن – نساءً ورجالاً – لنغنم من تجاربهم الكثير. فلا يقولنّ شابّ: إنّ جدِّي كبير السن، وقد مضى زمنه، ولي زمني، فلا ينفعني في شيء. ولا تقولنّ فتاة: إنّ جدّتي – لأبي أو لأمِّي – بلغت من الكبر عتيّاً، فما جدوى الاستفادة من إنسانة لا تعيش عصري. فليس المطلوب أن ننسخ تجاربهما نسخاً، لكنّ الكثير من تلك التجارب يحمل أساليب وطرق التعامل الاجتماعي الناضج الذي لا علاقة له بالزمن، فهو يؤتي ثماره الآن وغداً، كما آتى ثماره بالأمس، أو توحي تجاربهما لك بأفكار تنفعك في الجديد من الحياة. وخلاصة القول: إنّ التجارب (معرفة) و(عقل)، وأيّاً كانت معرفة الإنسان وعقله، فهو بحاجة إلى معارف وعقول الآخرين: "مَن شاور الناس، شاركها في عقولها". من هنا جاءت فكرة هذا الموضوع الذي يضع بين يديك بعضاً من تجارب الآخرين في مجالات معرفيّة وعمليّة مختلفة، عسى أن تجد فيها – أو في بعضها – ما يلبّي حاجتك.   1- كيف تتغلّب على الخجل؟

يقول الذين تمكّنوا من مقاومة الخجل في أنفسهم: مهما بلغ بك الخجل، فإنّ باستطاعتك أن تكون جريئاً ومتماسكاً وحازماً.

فهناك أناس بلغوا ذروة المجد، وكانوا من قبل يتوارون من الناس حياءً، ويعتزلون كلّ محفلٍ خجلاً، ولكنهم بحثوا ودرسوا إلى أن اكتشفوا ما تختزن نفوسهم من مواهب، وعرفوا ما يكمن فيها من معانٍ حتّى وفّقوا إلى الانتصار على الخجل. فلقد كان رئيس الولايات المتحدة الأميركية (إبراهام لنكولن)، الذي حرّر شعبه من العبودية، رجلاً خجولاً شديد الخجل، وكذلك كان (غاندي) مُحرِّر الهند. وتؤكِّد تجارب الخجولين أنّ معرفة أسباب الخجل مهمّة في معالجته. كما يؤكِّدون أن عوامل الثبات هي: معرفة أنّك كائن تنطوي على طاقات كامنة كثيرة، والعزم دون المبالاة بالعواقب: "إذا هِبْتَ أمراً فَقَعْ فيه، فإنّ شدّة توقِّيهِ شَرٌّ من الوقوعِ فيه". وينصحون الخجلين بأخذ ورقة وقلم وكتابة تفاصيل ما يعانونه من آلام الخجل، ويقولون لك: حرِّر ذهنك منها.. وسجِّل نقاط القوّة في شخصيتك، فالإيجابيات موجودة في كلِّ إنسان.. نمِّ ثقافتك.. تكلّم بهدوء ووضوح واختصار.. تكيّف بسرعة وفق الحالة الجديدة، فمثلاً لو نقلتَ فكرة وقيل إنّها مطروقة، فيمكنك أن تبادر إلى القول: وما الضير في ذلك.. الكثير من الأفكار مطروق.. ولكن انظروا هل هي صحيحة أو عمليّة؟! أو قل: حسناً.. ولكن هل أنتم معها؟! أو: طَيِّب.. ما رأيكم بإمكانية تطويرها؟ أو: لا بأس.. أنا أذكر ذلك على نحو التذكير.. أو: هذا ما عندي.. دعني أستمع إلى ما عندك.. وما شاكل كثير. ولو ضحكَ الآخرون من خطأ صدر منك أو انتقدوه بشدّة، فعالج الموقف على الفور بالقول: مَن منك لا يُخطئ؟! أو.. ليس المهم أن لا نُخطئ، المهم أن نتعلّم من أخطائنا.. أو.. أنتظر منك تصحيح الخطأ لا السخرية مني!! وما إلى ذلك. ولو سقط من يد فتاة إناء وانكسر، فيمكنها أن تعبِّر عن الاعتذار للضيوف بلباقة، كأن تقول: آسفة.. سأقوم بإصلاح كلّ شيء أو.. لا عليكم.. أكملوا حديثكم وأنا سأتولى الأمر.. أو.. معذرة.. سأستبدله بغيره.. أو إخراج الموقف بطريقةٍ طريفة، كأن تقول: شغلني حضوركم السعيد فنسيت ما دونه.. وهكذا. كما ينصح الذين قاوموا الخجل، أنّك إذا كنت في مجلسٍ، فقُل في البداية أيّة كلمة تكسر صمتك.. قل مثلاً: إنّ الجوّ لطيف.. أو إنّ الجلسة معهم ممتعة.. أو أنّ المكان جميل.. أو أنّها فرصة طيِّبة للإستفادة منهم، أو أي موضوع آخر يسهل عليك الحديث فيه، وإذا لم تكن متكلِّماً جيِّداً، فكن – على الأقلِّ – مُستمِعاً جيِّداً، وسستحسّن الأمور تباعاً.   2- تحكيم الإرادة: كيف تتحكّم بغرائزك؟ وتسيطر على انفعالاتك؟ وتتغلّب على نقاط الضعف في حياتك النفسية؟ هذه بعض الإرشادات التي يُقدِّمها لك مَن تمكّنوا من التحكّم بإراداتهم: - الحقيقة التي أثبتتها التجارب – الرجالية والنسائية – أنّ السيطرة على النفس أمر يمكن تحصيله، والإرادة وحدها التي تجعل المستحيل ممكناً، أي الجهد الواعي لمنع شيء أو اكتساب شيء. - السيطرة على النفس – وكما ثبت بالتجربة – تساعدك في توسيع ممكناتك وخياراتك وإدخال التحسينات التي تريدها على حياتك. ويضربون لك مثلاً: فلو كان أمامك صحن فيه عشر تمرات، وكان بإمكانك التهامها جميعاً، لكنّك اكتفيت بسبعة أو خمسة كتدريبٍ على الضبط النفسي، فإنّك ستربِّي بذلك إرادتك. - وعليك أيضاً الاهتمام المستمر بمراقبة نفسك: هل هي في تطوّر ملحوظ؟ هل هي تتأخر أو تتراجع؟ هل هي مسترسلة مع الغفلة والشهوات؟ هل لديك مفاتيح أو أزرار للسيطرة عليها في قِبال المغريات؟ ففي مجال الجنس يجمع علماء الجنس – ومن خلال تجارب ميدانيّة – على أنّ الامتناع عن العمل الجنسي لمدّة طويلة لا يحدث خطراً على الصحة الفكرية أو الجسمية. وينقل بعض الشبان تجاربهم في ذلك فيقولون: إنّ التقنين الغذائي وتنقيته ممّا يُحرِّك الشهوة من حلوى وتوابل ومواد دهنيّة، وتنظيم أوقات الراحة والعمل، والإنشغال بمهارة أو مهنة أو هواية معيّنة يحبّها الشاب أو الفتاة، والابتعاد – ما أمكن – عن الأجواء المثيرة للغريزة كالأحاديث الشهوانيّة والمطالعات الماجنة، ومشاهد الغرام والإباحية، بالإضافة إلى الرياضة بمختلف أشكالها، نافعة في هذا المجال، وكذلك تربية الوازع الديني والجانب الروحي في الشخصية. وفي مجال الإدمان، فإنّ المدمنين على التدخين، الذين تمكّنوا من الإقلاع عنه يروون تجاربهم فيقولون: - في وسع المدخِّن أن يتجنّب الإفراط في الإستجابة لعادته بأن يضع فواصل زمنية بين لفّافة ولفّافة، ثمّ تتّسع الفواصل يوماً بعد يوم إلى أن ينقطع نهائياً عن التدخين. ثمّ يمتنع عن التدخين يوماً كاملاً في الأسبوع، وأسبوعاً في الشهر، وشهراً في السنّة، على أن يكون التقليص في استخدام اللّفافات (السجائر) مستمرّاً. - وهناك طريقة ثانية وهي الاستعاضة عن عادة التدخين بعادةٍ نافعة تنسخها وتحلّ مع الزمن محلّها، فمَن يتعوّد التدخين في وقتٍ معيّنٍ يُمكنه أن يُمارس التمارين الرياضية في ذلك الوقت، ليألف الرياضة وينفر من التدخين. - وهناك مَن استعاض عن التدخين باستعمال الحلوى، أو تناول أيّ شيء نافع للصِّحّة بدلاً عنها. - لكن أقدر الذين سيطروا على أنفسهم وامتنعوا عن التدخين، أولئك الذين تأمّلوا في أضرارها الكثيرة قياساً بمنافعها الضئيلة، ثمّ اتّخذوا قراراً مصيريّاً بهجران التدخين إلى الأبد. - وإليك هاتين التجربتين ذاتي العبرة والدلالة: فلقد أصابت أحد المؤمنين العاملين للإسلام نزلة صدرية إثر التدخين، فنصحهُ الطبيب بترك التدخين، فقال المؤمن العامل: لا أستطيع ذلك، فقال له الطبيب: إنّك تقول لشارب الخمرة المدمن اتركها فشربها لا يجوز، وتقول للزّاني الأسير لشهوته: اترك الزِّنا فهو حرام، ولا تستطيع أن تحرِّر نفسك من عادة تضرّك؟! يقول المؤمن العامل: فشعرتُ بالحياء والحرج، ولم أعد إلى التدخين من ساعتي! والثانية، أنّ شخصاً شجاعاً، أتعبَ الجلّادين بثباته، ولأنّه كان مدمناً على التدخين، انهار وطلب سيجارة مقابل الاعتراف على جماعته. أرأيت كيف يفعل الإدمان بصاحبه، لتعرف ما معنى الحديث الشريف: "ما أقبح بالمؤمن أن تكون له رغبة تذلّه"؟! ولتحكيم الإرادة والسيطرة على النفس وجه آخر، وهو التمكّن من زرع القيم الصالحة والسلوك المستقيم والعادات السليمة. يقول بعض مَن جرّبوا اكتساب الفضائل الخلقيّة: إنّنا كنّا إذا أردنا اكتساب فضيلةٍ ما، عمدنا إلى ممارستها والعمل بها لمدّة أربعين يوماً متتالية، حتى إذا أصبحت ملكة وعادة جارية، انتقلنا إلى غيرها، وربّما أخذوا ذلك من الحديث الشريف: "مَن أخلصَ للهِ أربعين صباحاً، أجرى ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه". ويقول أحد المواظبين على القراءة، عوّدتُ نفسي على أن أقرأ (50) صفحة من كتاب صباح كلّ يوم بعد الصلاة، وها أنذا منذ شبابي الأوّل ملتزم بذلك. ويقول أحد الذين تغلّبوا على الكذب: منذ أن اطّلعت على قصّة ذلك الفتى الذي طلب النجدة من رفاقه الذين يسبحون معه في النهر فهرعوا لنجدته من الغرق، فاكتشفوا أنّه يكذب عليهم، وحينما كرّر طلب النجدة في حالة الغرق الفعلي لم يستجب له أحد، وأنا مدرك تماماً أنّ الكذب يقوِّض الثقة وأنّ الصدق وحده هو الذي يبنيها، وأنّ الكذب مهما طال حبله فهو قصير. ويقول شخص تغلّب على اغتياب الناس: لقد درستُ الغيبة، فرأيتُ أنّها عمليّة طعن في الظهر، فهي غدر وخيانة، وبالتالي فهي مظهر من مظاهر الجبن، لأنّني لو كنتُ شجاعاً لصرّحتُ بأخطاء وعيوب الآخرين بإهدائها لهم وجهاً لوجه، ولأنّني أكره أن أكون جباناً، آليتُ على نفسي أن لا أتحدّث بسوءٍ عن شخصٍ في غيابه. ويقول (س): كنتُ أعاني من الحسد، لكنّني رحتُ أراقب نتائجه السلبية على صحتي، فرأيتُ أنّ أضراره كبيرة لما يسبِّبه لي من ألم وكآبة، فماذا فعلت؟ رحتُ أوّلاً أقرأ الكتب التي عالجت الحسد، فانتفعتُ من إرشاداتها في أن أقلب (الحسد) إلى (الغبطة) بأنّ أغبط أخي صاحب النقمة ولا أتمنى زوال نعمته، كأن أقول: اللّهمّ ارزقني مثلما رزقته.. اللّهمّ اعطني كما أعطيته وزد لي يا كريم.. اللّهمّ بارك له فيما أعطيته وهب لي مثله وبارك لي فيما أعطيتني.. وقرأت قول الشاعر: لله درّ الحسد ما أعدله **** بدأ بصاحبه فقتله ورجعتُ إلى نفسي، فرأيتُ صدق مقولته وانطباقها عليَّ لما كنتُ أشعر به من حالات التسمّم النفسي الذي يصيبني عند الشعور بالحسد. ثمّ عملتُ على ترقية ما لديَّ من مواهب وطاقات لأرتقي في سلّم الحياة، فلاحظتُ أنّني كلّما تفوّقتُ في جانب تقلّصت مساحة الحسد في نفسي، وعملتُ أيضاً على الاستفادة من تجارب بعض مَن كنت أحسدهم، فعرفتُ الطريق إلى نجاحهم، فسلكتهُ وحصلتُ على ما أريد. وخير طريقة ساعدتني على معالجة الحسد في نفسي، هي التأمل في حقيقة الأشياء، فرأيتُ أنّ بعضها تافهٌ لا قيمة له، وأنّ بعضها أقل قيمة ممّا كنت أتصوّر، وأنّ بعضها يمكن تحصيله بالجهد والإرادة، وأن بعضها يمكن التفوّق به على غيري.   3- محاربة الفوضى:

يقول (ق)، الذي كان مُصاباً بالملل والسّأم من تشابه ساعاته وأيّامه، والفراغ الذي يعانيه، وعدم وجود برنامج معيّن ينظِّم حياته:

قرّرتُ أن لا أنساق مع هذه الحالة طويلاً، لأنّني خشيت إن استمرّ الحال على ما هو عليه من أن يطبع حياتي كلّها بطابعه. وضعتُ في البداية برنامجاً بسيطاً بأن قسّمتُ أوقاتي إلى قسمين: قسم للعمل وقسم للراحة، فانتظمت مشاغلي اليوميّة الدراسية والبيتيّة، كما انتظمت ساعات استراحتي. وفي تطوّر لاحق، رأيتُ أنّ ما كان يضجرني أنّ أعمالي متداخلة ومشتبكة كاشتباك خيوط لعب بها قطّ، فقرّرتُ أن أنصرف إلى عمل واحد في وقتٍ واحدٍ بحيث أهبه نفسي جسميّاً وروحيّاً، فلاحظتُ أن ذلك خفّف على ذهني حالة التشوّش والإضطراب التي كنتُ أعاني منها. وفي تطوّرٍ لاحق رحتُ أنظِّم مواعيدي وأطلب من أصدقائي زياراتي في أوقات محدّدة، وأعتذر عن استقبال مَن يأتيني خارجها. وبمرور الأيام تبددّ الخمول والكسل، وزوال الضجر والملل، وانتهيتُ إلى النتيجة التالية: إنّ الاهتمام الدائم بالنظام، والأسلوب، والتبصّر بالعواقب، يؤدِّي إلى عدم الإنسياق مع التيّار!   4- مقاومة الكسل الروحي: تقول (ف): كنتُ أشعر بعدم الإلتذاذ بصلاتي، وكنت – لهذا السبب – أؤخِّرها أحياناً، بل وكنتُ أشعر بضعف الارتباط بالله سبحانه وتعالى بشكل عام، ولم أكن في البداية أعتبر ذلك مشكلة. وبينما كنتُ أتحادث مع إحدى الأخوات المؤمنات ذات يوم، حتى انتهى الحديث إلى ما أنا فيه، فصارحتها بالأمر، فقالت: لقد كنتُ أعاني ما تعانين، وإليك تجربتي: لقد قرأتُ حديثاً شريفاً يقول: "أحي قلبك بالموعظة"، فرحتُ أستزيد من المواعظ، ورأيتُ أنّ في كلِّ موعظة منشِّطاً روحيّاً. وقرأتُ حديثاً يقول: "خيرُ الأعمال ما داومَ عليه العبد وإن قلّ"، فعرفتُ أنّ المداومة والاستمرار على قليل العبادة، أفضل من الاستغراق فيها لفترة قصيرة ثمّ تركها. وقرأتُ أيضاً: "للقلوبِ إقبال وإدبار، فإن أقبلت فاحملوها على النوافل، وإن أدبرت فاقتصروا بها على الفرائض". فاتّخذتُ قراراً أن لا أثقل على قلبي وأن لا أتركه على هواه، فإن رأيتُ شهيّته مفتوحة للعبادة استزدتُ بأن أقرأ القرآن إلى جانب الصلاة، وإن رأيته على غير ذلك اكتفيت بالصّلاة. وقد رأيتُ أنّ التفكّر بنعم الله وما أراده منِّي وما أريده لنفسي كمسلمة يشعل جذوة حبّ الله في نفسي. وكان لاطِّلاعي على قصص وسير القدوات الصالحة كالأنبياء والرسل والمؤمنين والمؤمنات، ومواقفهم وعباداتهم وعلاقتهم بالله وبالناس وبالحياة، أبلغ الأثر في طرد الكسل الروحي الذي كنتُ أعاني منه. وهنا قالت (ف) لصديقتها: وأحبّ أن أضيف إلى ما قلتِ شيئاً آخر، وهو أنّ اللِّقاء بالأخوات المؤمنات أمثالك عامل آخر من عوامل التنشيط الروحي.   5- التغلّب على الصِّعاب: يقول (ك): منذُ كنتُ طالباً في الإبتدائيّة، تعلّمت درساً كبيراً نفعني طوال حلاتي. فلقد كان من بين الدروس التي تلقّيتها، قصّة ذلك القائد الذي انهزم في إحدى المعارك فاعتزل جيشه لفترة، وبينما هو جالس يتفكّر في وطأة الهزيمة، رأى نملة تحمل حبّة فتسقط الحبّة وتعاود النملة حملها وهكذا مراراً: سقوط من الحبّة متكرِّر.. وحملٌ من النملة متواصل، حتى أوصلتها إلى مسكنها، فالتقط القائد الدرس وعاد إلى المعركة وقاتل حتى انتصر. وحينما بلغتُ سن الشباب، قرأتُ رواية (الشيخ والبحر) بـ(همنغواي)، وكان ممّا لفت نظري فيها إصرار هذا الصياد العجوز على اصطياد سمكة كبيرة تكون حديث الصيادين، وكانت المسافة بين مكان الاصطياد وساحل البحر بعيدة ممّا عرّضه إلى مصاعب جمّة من بينها هجوم أسماك القرش على التهام أجزاء من صيده، بالإضافة إلى وزنها الثقيل الذي جعله يبذل جهداً مضاعفاً لانتشالها، وحين سال الدم غزيراً من يده اليمنى التي كان يجرّ بها السمكة، قال: لا بأس، فما زالت اليسرى بخير.. وبهذه الروح والهمّة العالية تمكّن من الوصول إلى الساحل بعد صراع مرير مع أسماك القرش ومع حديث النفس بالتراخي والهزيمة. ولقد أثّر في نفسي عميقاً جواب أمّ المؤمنين أمّ سلمة (رض) عندما سُئِلت عن سبب تفرّق قبور أولادها في الأرض، فقالت: "لقد باعدت بينهم الهِمَم"!! أي أنّهم كانوا طموحين ذوي إرادات صلبة وأهداف كبيرة. مثلما أثّر فيَّ قولٌ لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع): "قدر الرجل على قدر همّته"، فكنتُ إذا اصطدمتُ بعقبة، أو واجهتني مشكلة، أو منيتُ بخسارةٍ أو هزيمة، تذكرتُ ذلك كلّه لتعود إلى نفسي ثقتها بنفسها.

ارسال التعليق

Top