• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الشيخوخة.. كيف ولماذا؟

الشيخوخة.. كيف ولماذا؟

كيف تحدث الشيخوخة؟ وما هو تفسير العلم لهذه الظاهرة؟ ولماذا ينسحب الشباب ويتوارى ليحل محله مع مرور السنين وهن الشيخوخة؟

أسئلة تدور بالأذهان منذ أقدم العصور وما زال العلم يحاول أن يصل إلى إجابة شافية لها بالتوصل إلى أسرار الشيخوخة حتى يمكن أن يضع حلاً لمشكلاتها التي تثقل كاهل الناس في آخر عهدهم بالحياة بعد سنوات حافلة من الطفولة إلى الشباب والنضج، لكن النهاية بوهن الشيخوخة والمرض والعجز لا تكون في الغالب ختاماً مرغوباً لسيناريو حياة الإنسان منذ القدم.

وكأي من الظواهر التي لا يوجد لها تفسير واضح فقد ظهرت نظريات لتفسير حدوث الشيخوخة، ومعني تعدد النظريات في أي موضوع أن هناك العديد من الاحتمالات لا يمكن القطع بصحّة واحد منها، وبالتالي فإنّ الأمر يحتمل وجهات نظر متعددة، وهذا هو الحال بالنسبة للنظريات الكثيرة التي تحتوي عليها المؤلفات العلمية حالياً كأسباب محتملة لتفسير ظاهرة الشيخوخة.

وبعض النظريات تتناول ظاهرة الشيخوخة من زاوية فلسفية أكثر منها علمية، إذ أنّ الشيخوخة ترتبط بانتهاء عمر الإنسان، ومع حلولها يتزايد احتمال الموت، وفي العصر الحالي بعد أن تغلب الإنسان على العوامل الطبيعية والكوارث التي دأبت على حصد الأرواح بالجملة في الأزمنة السابقة، فلم يعد هناك أمل في حفظ توازن السكان سوى بفعل تقدم السن والشيخوخة التي تنتهي بموت أعداد من سكان العالم لتدع المجال أمام أجيال جديدة، وبدون تلك العملية المستمرة يختل الاتزان ويفقد الأمل على هذا الكوكب!

وينظر البعض إلى الشيخوخة على أنّها إحدى الظواهر الجديدة نسبياً على الإنسان حيث أنّها بدأت في الانتشار مع تقدم العلم والرعاية الصحّية في العقود الأخيرة، وبالتالي فإنّها إحدى علامات النجاح التي حققتها الحضارة الحديثة وهي ظاهرة خاصة بالمجتمع الإنساني التي حققتها الحضارة الحديثة وهي ظاهرة خاصة بالمجتمع الإنساني فقط ولا يوجد مقابل لها في أنواع المخلوقات الأخرى.

وتذكر بعض النظريات القديمة أنّ سبب حدوث الشيخوخة يعزى إلى استهلاك أجهزة الجسم التي ظلت تؤدي وظائفها على مدى السنين والدليل على ذلك ما يلاحظ بالفحص المجهري من تجمع فضلات وبقايا في خلايا وأنسجة المسنين تظهر وتزداد مع تقدم العمر وفي تفسيرات أخرى تعزى مظاهر الشيخوخة إلى تغير حالة الخلايا في جسم الإنسان مع مرور السنين بتأثير تعرضها لعوامل كيميائية من المواد التي تختلط بالغذاء والأدوية والتلوث الذي يتعرض له الإنسان في حياته، أو بتأثير البيئة والمناخ والإشعاع وكلّ هذه العوامل قد تؤثر في خواص الأحماض النووية التي تؤثر بدورها على خواص الخلايا وتعوق أدائها لوظائفها أو تهلك أعداداً منها باستمرار، ويؤدي فقد هذه الخلايا إلى الشيخوخة.

ثمة نظريات علمية أخرى تفسر حدوث الشيخوخة بأنّه نتيجة لتباطؤ انقسام خلايا الجسم بعد سنوات من أداء وظائفها بنشاط وربما كان ذلك هو السبب في بطء التئام الجروح وإصلاح ما يتلف من أنسجة الجسم في كبار السن وتدني مرونة الحركة مقارنة بالوضع السابق في مرحلة الشباب وقد تكون هذه التغييرات في انقسام وحيوية الخلايا في الأعضاء الرئيسية المهيمنة على وظائف الجسم مثل الجهاز العصبي والقلب هي البداية التي يتبعها تداعي وظائف بقية أجهزة الجسم حتى تتكون في النهاية الصورة المتكاملة لحالة وهن الشيخوخة.

كما أنّ هناك ملاحظة علمية تم رصدها بمراقبة بعض الكائنات التي تتميز بالنشاط المفرط خلال حياتها مثل بعض أنواع الحشرات والطيور حيث لوحظ أنّ هذه المخلوقات تستهلك نفسها بسرعة وتصل حالاً إلى نهاية عمرها بعد حياة قصيرة، وقد أمكن التأكد من هذه الملاحظة العلمية بقياس معدل الحركة ودرجة الحرارة والعمليات الحيوية لهذه الأنواع حيث كان يفوق غيرها من الأنواع المماثلة الأطول عمراً ولا ندري هل يصدق ذلك على البشر أيضاً أم لا لكن هناك مَن يقول بأن تراكم ضغوط الحياة ومشكلاتها تعجل بالوصول إلى الشيخوخة، وقد تصدق هذه الملاحظة إذ نرى بين معارفنا أشخاصاً في العقد الرابع أو الخامس من العمر وكأنّهم كهولاً فوق السبعين بفعل ما يثقل كاهلهم من الهموم!

ومن النظريات العلمية للشيخوخة ما يربط بينها وبين مناعة الجسم وهي قدرته الدفاعية ضد المؤثرات الداخلية والخارجية، حيث يعمل جهاز المناعة لدى الإنسان منذ بداية عهده في الحياة وفق آليات معقدة تجعله يتعرف على أني مصدر تهديد للجسم وبعدها يتعامل معه بالأسلوب الملائم لحماية أجهزة الجسم ووظائفه، لكن خللاً ما يعتري وظيفة جهاز المناعة في السن المتقدم فبدلاً من التعامل مع المؤثرات الضارة لحماية الجسم منها تبدأ عناصره في تدمير خلايا الجسد نفسها بعد أن تختل قدرتها على التعرف والتمييز بفعل الزمن وهذا ما ثبت من وجود مواد مضادة لنفس الجسد وليس للمؤثرات الخارجية الضارة كما هو معتاد وتكون النتيجة النهائية هي التداعي والتدهور المميز للشيخوخة بفعل الأمراض التي تسببها الميكروبات حين تستغل فرصة ضعف المقاومة وانهيار جهاز المناعة الذي يدافع عن الجسم، أو بتأثير الخلايا السرطانية التي قد تنمو وتسبب الأورام المدمرة بعد أن كان جهاز المناعة يسيطر عليها ويمنع انتشارها.

والنظرية الأكثر قبولاً لتفسير الشيخوخة هي تلك التي تفترض أنّ العوامل الوراثية هي الأصل في كلّ ما يحدث فالإنسان بصفة عامة له عمر "افتراضي" مثل أي آلة يخطط لها أن تظل تعمل لفترة محددة وعمر الإنسان كذلك هو أمر محدد سلفاً وفق برامج تحملها خلايا جسده منذ تكوينها وهو بعد جنين، وهذه البرمجة ليست حكراً على الإنسان لكنها تنطبق على كثير من المخلوقات، فقد ثبت أنّ الفئران عمرها الافتراضي من 38-40 شهراً، كما أنّ الطيور لم يتعد أي من أنواعها عمر 68 عاماً، بينما يصل عمر بعض أنواع السلاحف إلى 129 عاماً كما تذكر المراجع، لكن يبقى أن نتساءل عن علاقة الوراثة بالشيخوخة وليس فقط بطول سنوات العمر؟

أنّ الدلائل على تأثير الوراثة في توقيت ظهور علامات الشيخوخة أمكن ملاحظتها بوضوح عند دراسة حالة بعض الأطفال المصابين بعلل وراثية نتيجة لخلل في الكروموسومات التي تحمل الصفات والخصائص من جبل الآباء إلى الأبناء ففي أحد هذه الأمراض ويعرف بحالة الطفل المنغولي تظهر علامات الشيخوخة على المصابين في سن مبكرة، وفي حالة أخرى تعرف بمرض "ورنر" ترى المصاب وقد تحول شعره إلى اللون الأبيض وتجعد جلده وأصابته أمراض الشيخوخة المعروفة مثل تصلب الشرايين ومرض السكر والسرطان، كلّ ذلك قبل أن يبلغ الثلاثين من العمر، وهناك حالة أخرى نادرة تصيب الأطفال نتيجة للانتقال الوراثي أيضاً وتتسبب لهم في التخلف العقلي وضعف السمع والبصر، كما تظهر عليهم علامات الشيخوخة المعروفة في العام الثاني من العمر! وهذا من شأنه أن يلفت الانتباه إلى العنصر الوراثي لحالة الشيخوخة بصفة عامة.

ولقد اتجهت الأبحاث التي تحاول كشف أسرار الشيخوخة إلى دراسة تأثير نوع الغذاء الذي يتناوله الإنسان على إطالة سنوات حياته وعلى حالته الصحّية طول هذه السنوات، وتجري التجارب في مثل هذه الحالات على الفئران وقد وجد العلماء أنّ الفئران التي تتناول كمية من السعرات الحرارية أقل من المعتاد تعيش حياة أطول، فعند تقديم نصف أو ثلاثة أرباع كمية الغذاء المعتاد إلى هذه الفئران تطول فترة حياتها من 44 شهراً في الأحوال المعتادة إلى 54 شهراً مع الغذاء قليل السعرات، ليس ذلك فقط لكن فئران التجارب التي تربت على الغذاء القليل كان تبدو في صحّة أفضل ولم تظهر عليها الأمراض المرتبطة بتقدم السن!

وفي دراسات على الفوارض التي تعيش في البيئة الطبيعية التي لا يتوفر فيها الطعام بكميات وفيرة وجد أنّها تعيش عمراً أطول من فئران التجارب التي يقدم لها الطعام بوفرة أو تلك التي تعيش في المنازل!

أما بالنسبة للإنسان فهناك ما يقابل نفس الظاهرة التي ذكرناها والتي تنطبق تماماً كما ثبت من دراسة لأحوال المعمرين في منطقة أوكيناوا باليابان، لقد تبيّن أنّ الناس هناك اعتادوا على تناول غذاء قليل السعرات الغذائية رغم أنّه متكافل في عناصره الأساسية، وفي هذه المنطقة بالذات يلاحظ وجود عدد كبير من المعمرين ممن تتعدى أعمارهم المائة عام، كما أنّ المسنين هناك يتمتعون بصحّة جيدة ولا تنتشر بينهم أمراض الشيخوخة المعروفة، ونفس الأمر ينطبق على المعمرين الذين يعيشون في المناطق الجبلية الفقيرة في وسط آسيا والذين يتمتعون بالصحّة الجيدة حتى بعد سن المائة عام، وهنا أحد الأسرار التي قد يجهلها الكثير من الناس بأنّ القليل من الغذاء قد يكون الوسيلة الأكيدة إلى عمر أطول وصحّة جيدة حتى في سنوات الشيخوخة!

 

الكاتب: د. لطفي الشربيني

المصدر: كتاب خريف العمر (أسرار مرحلة الشيخوخة)

ارسال التعليق

Top