• ٢٤ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٥ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

العلم المستقر= جهل مستقر

العلم المستقر= جهل مستقر
أرأيت إلى جمر الموقد إذا لم يمر به نسيم ولم ينفخ فيه هواء كيف يعلوه الرماد فيخمد حرارة وينطفىء ناراً؟ المنزل وقد أغلقت نوافذه وأبوابه، فسكنت أجواؤه وحبس هواؤه كيف يعشش فيه العفن ويغزوه الفساد؟ الماء. إذا امتنع عن الحركة وتوقف عن الجريان، كيف يصبح مستنقعاً للأسن وحمأة للطين؟

لهذا ينفخون في الموقد كي يتوهج الجمر ويفتحون النوافذ كي يتجدد الهواء ويشقون الأقنية كيلاً يأسن الماء. تجمد الأشياء وتسكن يضرب الموت عليها أطنابه، تتحرك وتتجدد تحيا وتزدهر، هي ذي سنة الحياة، ومن يملك لسنة الحياة تبديلاً؟

الأرض تدور فتصنع الليل والنهار، ومع تغير الليل والنهار تتغير الأشهر والفصول. الرياح تهب، الأنهار تجري، البحار دونما مستقر، هي أبداً بين مد وجزر، كلها حركة موارة دائبة لا توقف فيها ولا سكون. فبغير رياح لا تتحرك الغيوم، وبغير حركة الغيوم لا يحدث برق أو رعد ولا تهطل أمطار أو ثلوج. وبغير جريان الماء لا تروى حقول ولا تزدهر حياة، وبغير المد والجزر تسكن البحار وربما تموت. والإنسان ابن الطبيعة وفق نظامها يعيش ومن قوانينها يستمد الحياة، فكيف إذن لا يكون ديناميكية وحركة دائمتين؟ وإذا كان هكذا فرداً، فإنّه كذلك تجمعاً، يقتله الجمود ويقضي عليه السكون. في الماضي حمل العرب مشعل الحضارة علماً ومعرفة إلى العالم أخذوا عمن قبلهم ليعطوا من بعدهم، لكنهم لم يقفوا عندما أخذوا بل أضافوا وجددوا، بدلوا وطوروا. لم يكن قبل العرب كيمياء فأوجدوا علماً لها سرعان ماشق طريقه قدماً ليصبح أهم علوم الأرض، ولم يكن قبلهم جبر فابتكرو قوانين ومعادلات تحل أعسر المعضلات... كذلك طوروا علم الصيدلة والنبات، الفلك والجغرافية وجاء الأدريسي ليرسم أول مصور للأرض المعروفة حينذاك، كما فعلوا ذلك في الفلسفة والطب وفي العلوم الأخرى كافة ليتركوا بصمتهم الحضارية في كل حقل وميدان، عملاً وابداعاً، تجديداً أو تطويراً. لقد دفعوا بحركة العلم إلى الأمام، نفخوا حجر الموقد، فتحوا النوافذ على مصاريعها للهواء شقوا الأقنية للماء، لكي تكون الحركة ويكون التجدد فتبؤوا أرفع الأمكنة تحت الشمس وارتفع بهم مشعل الحضارة عالياً متوهجاً. كانوا يعلمون أنّه لا توقف مع الزمان ولا جمود مع الحياة ولا سكون مع العلم فانطلقوا حثيثاً يحركون ويجددون. لكن ما إن توقف سعيهم ذاك، ما ان بدؤوا يجترون ما قدم لهم الأسلاف حتى سكنت الحركة وهمد التقدم وتوقف الانجاز، ليبدأ بذلك عصر انحطاط طويل أرجع أمتنا قروناً إلى الوراء تاركاً إياها في مؤخرة الركب.

 وما الانحطاط؟ إنّه الانكفاء والتقوقع حين تسكن حركة العلم والمعرفة، وينطفئ أوان الخلق والابداع فيراوح القوم في مكانهم وهم بالحقيقة، يتأخرون، ذلك أنّ الزمن يتقدم باستمرار وحركة التاريخ إلى الأمام دائماً، وحين لا تواكب حركة التاريخ فانك تنفصل عن التاريخ، وحين لا تتقدم فإنك تتأخر لا محالة.

وكيف يكون التقدم؟ انّه بالعلم المتحرك ذاك الذي لا يعرف سكوناً ولا قراراً. انّه بالمعرفة تلك التي لا تقوم الا على التجديد والتغيير. أنّه بالإبداع الدائم وما الابداع الا خلق للبديع الجديد، إنّه بالابتكار المستمر، وما الابتكار الا خرق للسكون والجمود. و"المعرفة" إذ تفتح الباب على مصراعيه لكل باحث ومفكر، أديب وعالم يكنه الاسهام في دفع الحركة الثقافية وتحريك عجلة العلم لتمتلىء ساحة المعرفة حركة ونشاطاً وتنفتح النوافذ كلها للشمس فذلك ليقينها التام أنّ الحياة حركة والسكون موت وانّ الجدل والنقاش، الأخذ والعطاء، هي وحدها طريق المعرفة والعلم. بها نرتقي ونتطور وبغيرها نسكن ونموت. لقد قيل قديماً "العلم المستقر هو الجهل المستقر" فكيف لا تسعى "المعرفة" لأن تكون حركة دائمة وتجدداً مستمراً فكيف لا تبذل المستحيل كي تطور نفسها وترتقي بذاتها فلا تكون يوماً من الأيام "على مستقراً" وبالتالي "جهلاً مستقرا"؟

ارسال التعليق

Top