• ٢٥ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٦ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

القراءة والمخ

د. سهير الدفراوي المصري

القراءة والمخ

المخ هو الحاسوب المركزي للفرد، وهو يتكون من ملايين الخلايا العصبية الصغيرة التي تقوم بوظائفه. فكل خلية تتكوَّن من جسم، ومنه تتفرع تفرعات عدّة تُسمّى "الزوائد الشجرية"، ومنه أيضاً يتفرع الذيل ويُسمّى "الأكسون"، الذي ينتهي هو أيضاً إلى أفرع.

حين يتعرض فرع من أفرع الزائدة الشجرية لتنبيه ما – مثلاً عن طريق منبه يأتي من أفرع أكسون خلية عصبية أخرى – ينتج عن ذلك تيار كهربائي ضعيف جداً في فرع الزائدة الشجرية.

كلما تفاعلت أفرع أكسون الخلايا الأخرى مع خليتنا هذه، ينتج عن ذلك تيارات كهربائية ضعيفة تتجمع وتسير في الأكسون لتكون تياراً كهربائياً قوياً. وعندما يصل هذا التيار إلى فرع من الأكسون، وإذا كان بالقوّة الكافية، سيستطيع أن ينتج تياراً كهربائياً ضعيفاً في زائدة الخلية العصبية المجاورة التي يتصل بها، وهكذا ينتقل التيار الكهربائي من خلية عصبية إلى أخرى، ويصل التنبيه الذي يحمله هذا التيار الكهربائي من منبعه إلى الجهة أو الجهات المختصة به في المخ.

على سبيل المثال، إذا نظرت العين إلى شيء مضيء فإنّ شعاعاً ضوئياً من هذا الشيء يرتطم بشبكة العين وينتج تياراً كهربائياً ضعيفاً في العصب البصري، ويسير هذا التيار في الأكسون متجهاً إلى مؤخرة المخ.

وإذا كانت العين تنظر إلى أحرف وكلمات متناثرة، ينتقل النشاط العصبي من مؤخرة المخ إلى المنطقة الصدغية في المخ، المنطقة التي تختص بحل شفرة الأحرف والكلمات.

فإذا كانت العين تنظر إلى كلمات تصف منظراً أو صورة، سينتقل التيار بعد ذلك، إلى المنطقة الجدارية في المخ حيث يتم تقييم واستيعاب ما يقرأ، وإذا كانت العين تنظر إلى كلمات أو صورة لها ذكرى عند المشاهد، فالتيار سينتقل الآن إلى منطقة الجبين في المخ حيث تتمركز الذاكرة التي عن طريقها يحاول المشاهد استرجاع تلك الذكرى، وهكذا، بسرعة فائقة تتحول الصورة إلى فهم، إلى أفكار، إلى أحاسيس، إلى إسترجاع ذكريات.

 

- كيف نعرف أنّ منطقة ما من المخ تتنبه أثناء قيامها بوظيفة ما؟

عندما تتنبه وتنشط منطقة في المخ، فهي تستهلك الأوكسجين الذي يجلبه الهيموجلوبين ويظهر هذا على شكل تغير في الصفات المغناطيسية في هذه المنطقة الذي يرصد بطريقة (FMRI). فعلى سبيل المثال، إذا أشععنا الضوء على العين، نجد منطقة مؤخرة الرأس تظهر نقطة مضيئة أو حمراء، دليل على نشاط هذه المنطقة.

كيف يتعرف التيار الكهربائي على طريق سيره؟ كيف يعرف بعد أن نبَّه مؤخرة الرأس بالحروف والكلمات المضيئة أن يذهب الآن إلى المنطقة الصدغية في المخ لكي يتم حل شفرة الأحرف والكلمات التي قرأها المشاهد، وألّا يتجه إلى جهات أخرى من المخ؟

يكتظ المخ بملايين الخلايا العصبية التي تتواصل مع بعضها بآلاف الملايين من الاتصالات عن طريق الزوائد وفروع الأكسون، فمن الممكن عن طريق وصلة أو وصلات متعددة أن تتصل أي خلية عصبية في المخ بأي خلية أخرى؛ ولكن هذا لا يحدث، لأن هناك مسارات كهربائية مفضلة تتكون نتيجة عملها، فإذا لم يستعمل اتصال لفترة طويلة فتبتعد مكوناته (مثلاً الزائدة وفرع الأكسون) عن بعضهما ويختفي الاتصال، والعكس صحيح: إذا اقتضت الحاجة إلى وجود وصلة فعّالة، فإنّ فرع الأكسون والزائدة القريبين من بعضهما ولكنهما غير متصلين يمتدان حتى يلتقيا، ويحدث هذا لأنّ المخ يتصف بالمرونة ويتغير حسب الحاجة، وهو جهاز ينظم نفسه ذاتياً ويتحكم في نفسه، وتعتبر صفتا المرونة والتنظيم الذاتي من أهم مميزات المخ.

وأيضاً، عندما تتبين خلية عصبية أهمية صلة ما، فإنها تستمر في استعمالها وتشجع الخلايا الأخرى على استعمالها أيضاً. وبمرور آلاف السنين في عملية التطور الإرتقائي، فإنّ بعض الخلايا العصبية المتماثلة تتجمع لتكوِّن حزمة غليظة من الخلايا العصبية التي يكون لها وظيفة معينة.

وهكذا على مرّ آلاف السنين تجمعت الخلايا العصبية لتكوِّن العصب البصري وانتهت إلى غرسه كعامل وراثي في الجسم، وأصبحت الرؤية صفة وراثية عند المخلوق ذي العصب البصري.

وتختلف القراءة عن الرؤية في أنها لا تُنقل عن طريق عصب العين أو عن طريق مسار عصبي مخصص لها، حيث إنّ القراءة قد ظهرت حديثاً في تاريخنا الانساني. ونحن، كبشر لم نظهر على الساحة إلّا أخيراً. وبناءً على ذلك، فإنّ بعض الصفات الخاصة بنا مازالت شديدة الحداثة وشديدة الهشاشة، ومن الممكن عدم ثبوتها في العوامل التي نتوارثها فتبدد بمرور الزمن.

 

- كيف أثرت القراءة في المخ وفي التفكير أثناء التطور؟

يذكر العلم أنه منذ ما يقرب من 000/30 إلى 000/35 عام مضت ظهر الإنسان العصري: كان يصنع الزخارف وأشياء أخرى يتجمل بها، أي أنه كان يمتلك حسّاً جمالياً، وينقش رسومات على جدار الكهف الذي يعيش فيه أي أنه كان يمتلك حسّاً فنّياً، ويدفن موتاه ويضع معهم احتياجاتهم أي أنه كان يمتلك حسّاً روحانياً، ويعتقد في الحياة بعد الموت.

ومن المعتقد علمياً أنّ التغيير الذي حدث في مخ الانسان العصري أو في أحباله الصوتية قد أتاح له استعمال الكلمة والجملة كوسيلة للاتصال، ومن غير المعروف إذا كان التغيير قد حدث أوّلاً في الأحبال الصوتية مما أتاح له القدرة على الكلام والاتصال، وأثر هذا بشكل ثانوي على مخه، أم أنّ التغيير حدث أوّلاً في مخه، وثانوياً تأثرت أحباله الصوتية، وعرف الكلام. وفي كلتا الحالتين، هكذا ظهر استعمال الكلام كوسيلة للاتصال عند الانسان العصري.

 

- العلامة البداية:

وجد العلماء في بلاد الرافدين ما يفيد بأنّ الانسان منذ 7000 – 000/10 عام مضت كان يستعمل علامات خطية على الصلصال ليعبر بها عن أشياء مثل عدد الأغنام، كان هذا دليلاً على قدرته الذهنية أن يفسر كونه ويعبر عن فكره بطريقة تجريدية. ومن قبله، فإنّ الانسان الذي كان يرسم الحيوانات على حوائط الكهوف كان أيضاً يفسر كونه؛ ولكن تفسيره لم يكن يرقى إلى درجة الفكر التجريدي.

منذ حوالي ستة آلاف سنة، تقدم السومريون والمصريون خطوةً إلى الأمام عندما استنبطوا الأبجدية الخاصة بكل منهم، فاستعمل السومريون الخط المسماري والمصريون الخط الهيروغليفي، وفي كل لغة منهما كان يوجد الكثير من الحروف.

وقد بدأت كل من الأحرف المسمارية والهيروغليفية على هيئة صور لأشياء أو لأنشطة عادية، وبمرور السنين تطور بعضها إلى عروض صوتية أكثر تجريداً. ومن المعتقد أنّ طريقة عرض كل حرف من تلك الأبجديات المعقدة إمّا كصوت أو كشيء أو كنشاط، ومثل هذا العدد المتزايد من الأحرف قد أثقل على المخ وجعله يتباطأ في عملية فك الشفرة.

 

- المشافهة الأُولى:

في كثير من الثقافات، كانت هناك فترة مشافهة أولى، تراجعت عندما بدأت الشعوب في استعمال الكلمة المكتوبة على نطاق واسع. وقد اهتمّ العلماء منذ زمن بمعرفة حقيقة ما إذا كانت القراءة والكتابة تحدثان تغيراً في طريقة تفكير الانسان أم لا، ومن أوائل مَن اهتمّ بهذا السؤال كان مؤسس علم النفس الإدراكي العالم الروسي (ألكساندر لوريا).

استجوب لوريا في سنة 1930 مجموعتين من الفلّاحين من أوزبكستان وقيرغيزستان: مجموعة من الأُمّيين ومجموعة ممن تعلموا القراءة والكتابة حديثاً، فوجد أنّ الفلّاحين الأُمّيين لديهم طريقة تفكير "وظيفية – تخطيطية" تختفي فور تعلمهم القراءة. ففي وصف اللون الأبيض، يقول الأُمّي: "لون القطن في الأزهار"، وعندما يُعرض عليه صور الفأس والبلطة والمنشار وكومة خشب ثمّ يُطلب منه تحديد ثلاثة أشياء متشابهة لا يستطيع إخراج كومة الخشب من المجموعة، فبالنسبة له الثلاثة أدوات تُستعمل في قطع الخشب. إذاً، فالأربعة أشياء متشابهة. وأيضاً، عندما يُعرض عليه أربع صور لثلاثة رجال وصبي، ثمّ يُطلب منه استبعاد الصورة الغريبة لا يستطيع إخراج صورة الصبي، وعندما يُسأل لماذا؟ يقول لأنه يجب أن يبقى الصبي مع الرجال لمساعدتهم. وهكذا نجد أنّ الأُمّيين البدائيين يفكرون بأسلوب تخطيطي ووظيفي وليس بأسلوب تجريدي.

واستناداً إلى دراسات عدّة مثل دراسات لوريا، قام الفيلسوف الأمريكي (ولتر أونج) بتحليل جليّ للعقل الشفهي استنتج من خلاله أنّ المتعلِّم يمكن أن يقلِّب في ذهنه الأفكار بطريقة مجردة؛ ولكنّ الانسان الذي يعيش في عصر المشافهة، الذي لا يكتب ويريد الحفاظ على أفكاره في ذاكرته، يلجأ إلى نوع الأفكار التي تساعده على التذكر، فيبالغ فيما يقول حتى يضمن توصيل قوله للآخرين.

ونلاحظ هذه المبالغة في أبطال ملاحم الثقافة الشفهية مثل أبو زيد الهلالي، وأبطال الملحمة الإغريقية "الإلياذة" والملحمة السومرية "جلجاميش" التي كتبت بالخط المسماري على الألواح الطينية.

وفي المشافهة نجد الأبطال خارقي البطولة، والأكلاشيهات، كذلك نجد الوصف الحماسي للعنف البدني. وقد لاحظ أونج أنّ انتحال مؤلفات الآخرين كان مقبولاً في المشافهة؛ ولكنّ الغوص في الأمور وتحليلها كان غير مستحب، ذلك لأن في التحليل مخاطرة بأسس أفكار الأكلاشيهات التي هي عنصر أساسي في المشافهة. كذلك، لأحظ أنّ للتطويل وللإعادة أهمية في المشافهة لأنهما ترسخان أفكار المشافهة.

ولاحظ أونج في الثقافة الشفهية أنّ ما يقال الآن هو تماماً ما يُؤخذ به. أمّا ما قيل قبل ذلك، فليس له أهمية. لذلك نجد أنّ المجتمعات المتعلمة هي التي تنظر نظرة انتقادية إلى الأحداث، وتهتم بتعليل المتناقضات في تاريخها، وفي هذه المجتمعات يبتعد التاريخ عن الأساطير.

وفي عام 750ق.م، استنبط الإغريق أبجدية بسيطة بها عدد قليل من الأحرف، يستطيعون من خلالها أن يعبروا عن كل رمز صوتي بحرف أو حرفين فقط. كان هذا حدثاً علمياً كبيراً لأنه جعل في مقدور أي شخص أن يتعلم القراءة، بدلاً من أن تبقى القراءة مقصورة على الكتبة المهرة.

 

- ما تأثير تقدم اللغة الإغريقية المكتوبة؟

نتج عن تقدم وتطور الأبجدية واللغة المكتوبة عند الإغريق أنهم لم يعودوا محتاجين إلى حفظ قصصهم شفهياً، وأصبح في إمكانهم الحفاظ على تقاليدهم وكامل ثقافتهم في كتاباتهم، ويقال إنّ عدم وجود ضرورة ملحة للحفاظ على الملعومات في الذاكرة قد ساعد على تحرر العقل وساعد الإغريق على الفهم والتفكير، وكان هذا سبب ازدهار حضارتهم.

فهل هذا يعني أنّ الأبجدية المعقدة والتي تتكوَّن من آلاف الأحرف مثل أبجدية الصين أو اليابان لا تحرر عقل أصحابها وتمنع ازدهارهم الحضاري؟ لا أتفق مع هذا الرأي، بل أعتقد أنّ ميزة الأبجدية الإغريقية هي ديمقراطية القراءة والكتابة. فالصينيون واليابانيون يبذلون كثيراً من الجهد لحفظ الأبجدية الخاصة بهم؛ ولكن ما إن يتخطوا هذه العقبة يصبح في إمكانهم القراءة والكتابة بنفس سهولة الإغريق أصحاب الأبجدية البسيطة، وبالفعل يمكن القول إنّ المجهود الذي يبذلونه في تعلم أبجديتهم مكسب لهم لأنه يزيد من عملية اتصالات الخلايا العصبية في مخهم. وبذلك يكون سبباً في ازدهار حضارتهم، ودليل هذا توصل الصينيون على مرّ السنين إلى إختراعات عديدة مثل صناعة الورق، والطباعة بالأحرف المتحركة، والبارود، والحرير، والساعات، والمعكرونة، والأرقام العربية، والموازين والمقاييس الموحدة.

والحضارات في مجملها تتتابع، فبعد الحضارة الإغريقية جاءت مجموعة من الحضارات مثل حضارة وادي الهندوس والحضارة الصينية والرومانية ومن بعدهم الحضارة العربية والإمبراطورية العثمانية وعصر النهضة إلخ...

أضافت كل من هذه الحضارات شيئاً للتقدم الانساني، فأثناء الأزمنة الفرعونية والهيلينية كان الكتبة يكتبون على ورق البردي أو الجلد أو الحجر، لذا لم تكن الكتابة شيئاً عملياً يساعد على الانتشار في نطاق واسع.

وقبل القرن التاسع، اخترع الصينيون الورق والطباعة بقالب الخشب، كما اخترعوا الطباعة بالحروف المتحركة؛ ولكن لأن هناك حوالي ألفي حرف أبجدي في اللغة الصينية فلم يستطع الصينيون الاستفادة من اختراع الورق أو الطباعة بالحروف المتحركة. وعندما فاز العباسيون في معركة تالس في قيرغيزستان وهزموا الصينيين عام 751، أسروا بعض الصينيين الذين دربوهم على صناعة الورق، وبدورهم ساعد العباسيون على انتشار الورق عن طريق تحويل صناعته من الطاقة اليدوية إلى الطاقة المائية.

وفي منتصف القرن الخامس عشر، حدث تقدم علمي مهم آخر وهو اختراع جوتنبرج لآلة الطباعة بالحروف المتحركة، وهو اختراع الصينيين نفسه من مئات السنين؛ ولكن هذه المرّة لأنّ الحصول على ورق زهيد الثمن للكتابة كان متيسراً، نتج عن هذا ديمقراطية في وسيلة الحصول على الكتب، وأصبح في مقدور الكثيرين ليس فقط قراءة الكتب، بل أيضاً امتلاكها. وهكذا، بدأت طفرة جديدة في عالم القراءة، وبدأ هذا العالم في الازدهار.

 

- التلفاز والقراءة:

في منتصف القرن العشرين، ظهر التلفاز الذي أثر على صلتنا بالقراءة وعلى طريقة معيشتنا. ولكي نقيِّم ما حدث إثر ظهور التلفاز، يجب أن نفحص كيف ننمو كأفراد. في رحلة نضوجه من جنين إلى إنسان ناضج، كيف تتطور وظائف مخه التي لها صلة بالقراءة؟

أثناء تطور الجنين، تهاجر الخلايا المعنية بتكوين المخ إلى البؤرة التي يبدأ فيها نموّ المخ، ويبدأ هذا النمو من الداخل إلى الخارج من خلال إعادة أداء التطور الارتقائي، لذا فأوّل الأجزاء التي تنمو في جسم الجنين هي التي تكوِّن المخ البدائي (النخاع وما تحت المهاد)، ثمّ تليها الطبقات الداخلية لقشرة المخ وبعد ذلك الطبقات المتوسطة، وأخيراً الطبقات الخارجية التي تختص بالوظائف العليا للمخ أي التفكير الأرقى (مثل الفكر التجريدي).

هذه الطبقات الخارجية هي المؤشر الذي يفرق البشر عن المخلوقات الأخرى، وهي أيضاً أكثر الخلايا رقة وهشاشة، فمعظمها يموت أثناء الانتقال إلى حافة القشرة المخية. كذلك، وجودها في السطح الخارجي للمخ يعرضها للإصابة بسهولة وتعتبر كل هذه الأسباب أسباباً إضافية لهشاشة النوع البشري.

بعد الولادة، يفكر الطفل الرضيع بالصورة نفسها مثله مثل الحيوان، ويستخدم كل مخه بطريقة غير مخصصة للتفكير. من هذا المنطلق نجد صور الـ (FMRI) للطفل أشبه بصور الحيوان أكثر منها بصور الرجل البالغ.

وعندما تُكثر الأُم من الكلام لطفلها، فهي تعلمه كيف يجمع بين الصور وما يوازيها من كلمات، ومع هذا الجمع يلقن الطفل مخه الأيسر على التفكير بالكلمات. بعد ذلك، عندما يتعلم القراءة ويبدأ في فهم رموز الحروف يتمركز حل شفرة الكلمات ومعانيها في المنطقة الصدغية اليسرى من مخه، ويتمركز تقييم ما يقرأ في المنطقة الجدارية اليسرى من مخه.

إنّ الإنسان هو الجنس الوحيد الذي يوجد به اختلاف وظيفي بين نصفي المخ، اليساري واليميني، والانسان هو الجنس الوحيد أيضاً الذي ينظم الكلمات في جمل ليعطي أفكاراً معقدة ويقرأ، فالقراءة وتوصيل جمل وأفكار معقدة هي دلالة إنسانيتنا، ونلاحظ أنّ شعار إنسانيتنا هذا قد أصبح مهدداً بظهور التلفاز الذي أدخلنا فيما أسماه الفيلسوف (أونج) بالمشافهة الثانية.

 

- المشافهة الثانية:

المشافهة هي الحالة التي تنتقل فيها الثقافة شفهياً بين الأجيال، وكما رأينا فمشافهتنا الأولى حدثت في قديم الزمن عندما لم يكن الانسان يعرف القراءة. أمّا مشافهتنا الثانية، فهي تحدث في وجود الكتابة رغماً عنها، وهي مرهونة بوجود التلفاز والسينما والفيديو والتليفون إلخ...

ومن بين كل هذه العناصر، فربما يكون التلفاز هو الأكثر تأثيراً لأنه في بيوتنا، وتحت تصرفنا في كل ساعات النهار والليل، وهو لا يحتاج أحد غيرنا ويشبع حواسنا بصوره المتحركة والمتكلمة.

وقد كشف ظهور التلفاز عن الخلاف القوي التنافسي بين الكلمات والصور المتحركة. لم يكن هذا الخلاف معروفاً من قبل. وقد تبين فيما بعد أنّ الأولاد الذين يشاهدون التلفاز لساعات طويلة يتخلفون في موادهم الدراسية وفي القراءة والرياضيات ويصبحون عندما يكبرون بما يُسمّى بـ "أليتريت" أي أنهم يستطيعون القراءة، فهم بالطبع ليسوا أُمّيين؛ ولكنهم لا يستمتعون بنعمة القراءة حيث إنهم ليس لديهم الصبر عليها، خاصةً إذا كان ما يقرأونه لا يحتوي على صور!!

كذلك أظهرت الدراسات أنّ الأطفال الذين يقضون ساعات طويلة أمام التلفاز يفقدون خاصية الإبداع، لأنّ التلفاز يقدم لهم صوراً مسبقة التصنيع تجعل تخيلهم يكسل فلا يتخيلون ولا يبدعون.

وفي دراسة أُجريت في مصر قام بها قسم طب الأطفال في جامعة عين شمس، ظهر أنّ معدل ساعات المشاهدة للتلفاز بين الأطفال جاوز الأربع ساعات يومياً، وذلك أثناء السنة الدراسية حيث يُفترض أن تقل نسبة مشاهدتهم.

يبدأ الخلاف التنافسي بين الكلمات والصور المتحركة مبكراً في حياة الأطفال، فعندما يشاهد الأطفال من سن 8 إلى 16 شهراً التلفاز أو الـ "دي.في.دي" أو الفيديو يومياً، ينتقص هذا من مجموع مفردات لغتهم، من 6 إلى 8 كلمات عن كل ساعة مشاهدة يومية. ولوجود هذا الخلاف التنافسي في فترة تعلم الكلام، فقد أوصت الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال في عام 1999 بعدم مشاهدة الأطفال للتلفاز إذا كان عمرهم سنتين فما أقل، وساعتين فقط يومياً إذا كانوا أكبر من سنتين.

لقد قامت مؤسسة (الوقف القومي للفنون) الأمريكية بمقارنة الصفات العامة لفئة القارئين ولغير القارئين، فوجدت أنّ القارئ يميل أكثر إلى ممارسة الرياضة، أو التمارين الرياضية، وإلى زيارة المتافف والذهاب إلى المسارح، وحضور الحفلات الموسيقية، وهي مقارنةً بغير القارئ، يتطوع أكثر وينتخب بانتظام أكثر، أي أنه أكثر إيجابية في حياته، ولا يخشى التغيير، وقد يرجع ذلك إلى الإيجابية في الخيال الذي تضفيه القراءة، أو إلى أن عزلته مع كتبه أثناء القراءة تعطيه الثقة الكافية للانطلاق، فتصبح بذلك القراءة نموذجاً للخيال وللحرّية.

 

· كاتبة من مصر

ارسال التعليق

Top