• ٢٨ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٨ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

القرية النائمة

صورية إبراهيم

القرية النائمة

حط "علي" الرحال بالقرية الصغيرة؛ ليقيم فيها مع عائلته في المسكن الوظيفي التابع للمدرسة التي عيّن معلماً بها، وبعد أن ساعد زوجته في ترتيب أغراض البيت، توجه إلى القرية يتعرف عليها. كانت صغيرة بشوارع ضيقة ومنازل بسيطة، ولم يكن بها سوى محلات ومقاهٍ قليلة ومدرسة واحدة تكفي لضم كل الأطفال.
كان علي يستطلع المكان، والدجاج يتسابق أمامه؛ باحثاً على الغذاء في دعة وأمان، بينما تبدو قطعان الغنم من بعيد ترعى تحت وهج الشمس الساطعة على أرض شاسعة لبست فستانها الأصفر إحتفالاً بمقدم الخريف.
بعد جولته السريعة، عاد علي إلى المدرسة، وفي فنائها وقف يتأمل الأقسام الستة بالرسومات الساذجة التي تزين جدرانها ونوافذها، ودخل مكتب المدير، وهو غرفة صغيرة تحوي مكتباً بسيطاً وبعض الأدراج، تؤدي إلى غرفة أخرى أكثر إتساعاً جعلت لإجتماعات المعلمين.
الهدوء يعم المكان، وبرغم إرتياح علي لهذه القرية الهادئة بأهلها البسطاء، إلا أنّه تمتم وهو ينظر إلى الأفق الممتد أمامه:
"مكان رائع لمن يبغي الراحة، وهدوء الأعصاب، وأروع بكثير للمتقاعدين والأموات!!!..". عمل علي بالتعليم سنوات عديدة في مدينة كبيرة، فلما يئس من العثور على مسكن مستقل قبِل ما عرض عليه، وانتقل إلى هذه القرية، حيث حصل على مبتغاه بجوار المدرسة، فارتاح بذلك من عناء إستئجار البيوت وتعب المواصلات والمصاريف التي تستنزف جيوبه شهريّاً.
في مسكنه الجديد جلس يشاهد التلفاز مع أطفاله الثلاثة، سألته زوجته:
"هل أعجبتك البلدة؟".
رد دون أن يرفع بصره نحوها:
"لن نجد صعوبة في العيش هنا... إن تأقلمنا بسهولة، وسنقيم بها إلى الأبد..".
فقالت الزوجة بإصرار:
"يجب أن نبقى من أجل هذا المسكن الذي جمع شتاتنا وأراحنا من عبء عظيم، وحتى نتمكن من إدخار بعض المال، فربّما اشترينا مسكناً آخر يكون ملكاً لنا أو قطعة أرض نبني عليها البيت الذي نحلم به".
وافقها الرأي، فلابدّ أن يفكر بعقله وليترك عاطفته جانباً، ولا يهم إن أعجبه المكان أم لا.
قال ابنه البكر ذو العاشرة:
"هل سأدرس في هذه المدرسة؟!..".
فقال الأب:
"نعم.. فطبيعي أن تذهب لأقرب مدرسة من بيتك".
فقال غاضباً:
"لكنني أريد العودة إلى مدرستي ومعلمي وأصدقائي".
فرد علي في رفق:
"هنا أيضاً سيكون لك معلم طيب وأصدقاء جدد وستحب مدرستك حتماً".
فصرخ الطفل قائلاً:
"لا أريد أن أحبها.. أرجوك يا أبي، أعدني إلى حيث كنت... أرجوك..".
اقترب منه الأب محاولاً إفهامه:
"إنّك صغير يا بني، وعندما تكبر ستعرف أنّ الظروف كثيراً ما تجبر الإنسان على فعل ما لا يريد. إنني لم أختر المجيء إلى هنا، ولكن لابدّ من ذلك إن كنا نحرص على مستقبل أفضل لنا جميعاً".
نهض علي قبيل أذان الفجر، توضأ إستعداداً للصلاة، وجلس يقرأ ما تيسر من القرآن الكريم، ولم يرفع بصره عن المصحف، حتى رأى خيوط الصبح تتسلل عبر نافذة الغرفة، وتعجب كيف لم يسمع صوت المؤذن. في اليوم المقبل أرهف السمع ينتظر أذان الفجر، لكن دون جدوى، فصلى في البيت وعندما طلع الصباح توجه إلى مسجد القرية الوحيد وسأل عن إمامه فلم يجده، فانصرف إلى المدرسة، وعند صلاة الظهر اقترب علي من المؤذن، وسأله:
"هل أذنت لصلاة فجر هذا الصباح؟".
فأجابه المؤذن دون أن يلتفت إليه:
"لا..".
"وأمس أيضاً؟!!..".
فنظر إليه المؤذن – وهو كهل قارب الستين – وقال:
"أنا لا أؤذن للفجر منذ مدة طويلة!!!..".
فدهش علي للأمر، وسأل مستفسراً:
"ولماذا؟؟!!!..".
رد دون إكتراث:
"الإمام لا يأتي ليقيم الصلاة، فلماذا أؤذن، فيأتي الناس سدى!!..".
سأل علي، وهو يزداد دهشة:
"ولماذا لا يأتي الإمام لإقامة الصلاة؟!!..".
فحدجه المؤذن بنظرة غاضبة لكثرة أسئلته، وقال منصرفاً:
"هو أمامك... اسأله..".
توجه إليه عليّ، وبعد أن ألقى السلام بادره بالسؤال:
"هل لي أن أسأل: لِمَ لا تقام صلاة الفجر في هذه القرية؟!..".
تشاغل الإمام بحبيبات سبحته يعبث بها بين أصابع يمناه، وتمتم بكلمات غير مفهومة، فلما سمع سؤال محدثه توقف عن الهمس، وجمع سبحته في كفه وقبلها، ثمّ قال وهو يتفحص عليّا من خلال نظارته السميكة:
"ومن أنت حتى تسألني هذا السؤال؟!..".
فقال عليّ محترماً وقار الإمام وكبر سنه:
"أنا مصلٍّ حرصت طوال حياتي على صلاة الفجر، وعندما أقمت حديثاً بقريتكم عجبت كيف لا تقام هذه الصلاة، ولا يؤذن لها أصلاً".
رد الشيخ متصنعاً الهدوء:
"كنا نقيمها فيما مضى من الزمان، لكن الناس لا يحضرونها أبداً، وكنت أجد نفسي دائماً وحدي مع المؤذن فقط، لذلك لم أعد أقيمها لكبر سني وملازمة المرض لي".
استغرب عليّ لمنطق الرجل، وتفكيره الغريب، فقال:
"ولِمَ لا ترتاح الآن، ويستخلفك إمام شاب يتولى هذه المسؤولية عنك؟!..".
أوشك الإمام الشيخ أن يهجم عليه لسماعه هذه الكلمات، لكنه تماسك قائلاً:
"أنت تعرف شباب اليوم لا يستقرون على حال، وليسوا أهلاً لتحمل أي مسؤولية، ثمّ إنني إمام هذه القرية منذ أكثر من أربعين عاماً، ولن يرضى أهلها بغيري إماماً لهم..".
ومشى منصرفاً يتكئ على عصاه، كأنّه يخشى أن يمطره علي بأسئلة أخرى تعجزه عن الجواب.
بقي علي مشدوهاً، وتأهب للإنصراف حين أمسك به المؤذن هامساً في أذنه:
"لا تصدق كلامه.. إنّه يكذب!!..".
والتفت حوله، حتى إذا اطمأن أنّ المكان خالٍ واصل يقول:
"لقد ورث الإمامة أباً عن جد، وهو لن يتنازل عنها إلا إذا سيق إلى القبر، وطالما اشتكى منه أهل القرية لكن دون جدوى... هل تصدق أنّه حين يحصل على عطلته السنوية ككل الموظفين لا تطأ قدمه المسجد، حتى تنتهي عطلته!!!... وفي أثناء موسم البرد والصقيع يركن إلى بيته ويخشى الخروج إلى الصلاة!!... هكذا كانت البداية مع صلاة الفجر، ثمّ محاها من القائمة لتصبح الصلوات الخمس عنده أربع صلوات، وليس خمسا!!!..".
وصمت قليلاً ثمّ أضاف قائلاً:
"لا تعتقد أننا ساكتون عنه، لكن قريتنا صغيرة كما ترى والإمام له أبناء غلاظ جهلة، ومن مس أباهم بسوء دفنوه حيّاً!!..".
وانصرف بعد أن أوصى عليا بكتمان ما سمعه منه؛ خوفا من دعاء الإمام عليه، أو بطش أبنائه به!!... في المقاهي والشوارع، كان الناس يتحدثون عن محصول الأرض والآبار المحفورة وعن مشقة الزراعة والرعي وقطعان الغنم والأبقار، فإذا انتهوا من هذه الأحاديث انصرفوا إلى تناقل أخبارهم متحسرين على حاضرهم آسفين على مستقبلهم، وحاول علي أن يندمج معهم فلم يستطع، فعاد إلى بيته يلازمه أغلب الأوقات.
بدأ الموسم الدراسي، فشعرت عائلة علي ببعض الحياة تدب في أوصال القرية الميتة، و أحدثت أصوات الأطفال المصطخبة ضجيجاً أشبه بضجيج المدينة التي اشتاقوا إلى ضوضائها وصخبها.
انطلقت الدراسة بوتيرة بطيئة، واعتقد علي أنّها ستتسارع، لكن وجد نفسه المعلم والمدير والحارس أحياناً في مدرسة لا يأتيها أحد!!..
كان المدير ومعلمو المدرسة يقطنون المدينة المجاورة، ومع تردد غياب المدير كثر غياب المعلمين بحجة المواصلات والسكن والمرض وحجج أخرى كثيرة، وأصبح علي المعلم الوحيد الذي يمارس عمله بصورة طبيعية، محافظاً على الوقت، حريصاً على تعليم تلاميذه، وهو يستشعر رقابة الله، وكلما فتح فاه بالإستنكار قال زملاؤه:
"لو منح لنا سكن مثلك لحرصنا على عملنا مثل حرصك، لكن ماذا عسانا نفعل؟!..".
صبر علي أشهراً طويلة يسعى لإصلاح حال القرية، مسجدها ومدرستها، وتغيير ما بعقول كبارها، وزرع بذور الخير والصلاح في قلوب صغارها، وكان كلما خطا خطوة للأمام شعر بقوة خفية تعيده للوراء بعشرات الخطوات، وتسلل اليأس إلى قلبه، وتملكه الملل من هذه القرية الظالم أهلها، وبعد تفكير طويل قرر الرحيل.
فاجأ زوجته ذات يوم قائلاً:
"سأكمل العام هنا من أجل تلامذتي فقط، وسنرحل مع عطلة الصيف، من المستحيل البقاء في هذه البقعة المقفرة".
فذعرت الزوجة، وقالت:
"والمسكن، وادخال المال، وبيت المستقبل؟؟!!..".
آسف لضياع هذه الأحلام، وقال:
"يجب أن نضحي بشيء من أجل أشياء أخرى.. هناك إستقرار يدفع للإنتاج والعمل، أمّا إستقرارنا بهذه البلدة فيعني الموت البطيء... لا مستقبل لنا ولا لأولادنا هنا، ولابدّ من الرحيل..".
بدا الحزن على وجه الزوجة، فقالت:
"ولكن..".
فقاطعها علي، قائلاً:
في المدينة لم يكن لدينا الوقت لكثرة أشغالنا، وتعدد الأماكن التي نرتادها، أما هنا فلدينا متسع من الوقت، ولكن ماذا عسانا نفعل؟!... أشهر عديدة مرت، ولم أستطع زحزحة ذلك الإمام عن مكانه، وعجزت عن إيجاد حل لمشكلة صلاة الفجر حتى الآن، والتلاميذ الأبرياء في المدرسة يضيعون أمام عيني، ولن أستطع فعل شيء، وبسبب كل هذا ضميري يعذبني وضيق صدري يشتد علي، فلماذا أبقى؟!.. ليضيع عمرنا كله سدى؟!!..".
كانت الزوجة تشعر بالضيق نفسه، لكنها لم تكف عن إقناع نفسها بالصبر من أجل تحقيق تلك الآمال الجميلة، فلما حدثها زوجها عن آلامه تفهمته ولم تجد بدّاً من الصمت واثقة مما يقرره.
أوشك العام الدراسي على الإنقضاء، وانتشر في القرية خبر مرض الإمام الذي عاجله الموت بعد أيام قليلة، وفوجئ علي بأهالي البلدة يجلسون إليه بعد صلاة العشاء من أحد الأيام، وقال أحد الشيوخ بابتسامة مشرقة:
"اتفقنا جميعاً على جعلك إماماً لقريتنا خلفاً للمرحوم، فماذا تقول؟".
همّ بالكلام معترضاً، فقال المؤذن والفرحة تتلألأ في عينيه:
"سأؤذن اليوم لصلاة الفجر، وستكون أوّل من يقيمها بعد أشهر طويلة من النوم في أحضان الجهل والظلم".
أمسك علي لسانه، ومنع نفسه من إخبارهم برحيله، وقال يحدث نفسه:
"كيف أقتل هذا الأمل الجديد في حياتهم، وأنا ألمس فرحتهم وسعادتهم؟!..".
في صباح اليوم المقبل أمّ علي الناس في صلاة الفجر، وشعر بطعم الحياة يعود إليه، وازدادت فرحته حين صافحه المصلون، قائلين:
"إنّنا سعداء بك إماماً لنا ومعلماً لأبنائنا".
لم يكن علي يحلم يوماً أن يكون إماماً، لكن ثقة الناس به ملأته قوة ويقيناً، فشمر عن ساعديه، ومضى يجاهد بكل طاقته، محاولاً ما استطاع أن يكون كالغيث أينما وقع نفع.
المصدر: كتاب الأرض الجريحة (قصص قصيرة)

ارسال التعليق

Top