• ٢٨ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٨ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

المجتمع المتوازن دنيوياً

د. محمود البُستاني

المجتمع المتوازن دنيوياً

◄يبدأ أفراد المجتمع حياتهم بالعلاقات الزوجية، بصفتها العلاقة التي تضمن استمرارية المجتمع البشري، ويتمّ انتخاب الزوجين وفق النوع والكم، وتبدأ حياتهما المشتركة بقوامية الرجل وإطاعة المرأة، وتعاونهما في تنشئة الذرية، وتبدأ الذرية بإطاعتها للأبوين، وباحترام الأصغر للأكبر منهم: حيث يتمّ في هذا النطاق الاجتماعي أول (توازن) بين أفراد الأسرة...

ومع بلوغ الذريعة سن الرشد، تبدأ الذرية بممارسة نفس الدور الاجتماعي للأبوين من حيث الحياة المشتركة الزوجية، وامتداداتها...

ويتجاوز أفراد الأسرة نطاق علاقاتهم، ليتّجهوا إلى (الأقرباء)، ولتبدأ علاقات جديدة تقوم على التزاور وتكافل بعضهم مع الآخر، حيث يتمّ توازن اجتماعي آخر بين (الأقرباء)...

ويتجاوز هؤلاء علاقاتهم النسبية (الأسرة والأقرباء) ليتّجهوا إلى من يحيط بهم هم (الجيران) لينشئوا فيما بينهم علاقات تقوم على عدم إيذاء الجار لجاره، ومع فرضية الإيذاء يصطبر الجار فيتلافى بذلك حدوث أي توتر في العلاقات بينهم، وتتعمّق العلاقات من خلال التعاون بين الجيران (مساعدة بعضهم للآخر)، وبذلك يتمّ توازن اجتماعي آخر بين الجيران...

ويتجاوز هؤلاء (الأسرة والقرابة والجار) نطاق علاقاتهم النسبية والمكانية ليتّجهوا إلى ما هو خارج عنها... حيث أن حاجاتهم إلى (الانتماء الاجتماعي) من جانب، والمصالح المشتركة التي تعتمد (التبادل) فيما بينهم من جانب آخر، تفرض عليهم أن ينشئوا علاقات (عاطفية ونفعية) مع مجموعة من الأفراد تتناسب مع حجم المصالح العاطفية والنفعية، متمثلة في (الأصدقاء)... فهؤلاء يتزاورون فيما بينهم، ويتحادثون ويبثّ أحدهم للآخر كلّ ما يواجهه من القضايا ليُسهم في حل مشكلة مثلاً، ويتكافلون فيما بينهم: يقضي أحدهم حاجة الآخر، ويتسابقون في ذلك ومع حدوث أي سلوك سلبي، يحاول كلّ واحد أن يتجاوز عن ذلك، وأن يرشده إلى الصواب، ويستبق إلى مصالحته في حالة حدوث قطيعة، وبذلك يتلافى كلّ واحد استمرارية التوتر في العلاقات العاطفية...

وبهذا يتمّ توازن اجتماعي له أهميته في نطاق الصداقة المشار إليها، حيث تكون هذه الحاجة قد أشبعت مستكملة بذلك سلسلة العلاقات النسبية والمكانية التي تتظافر مع علاقات الصداقة في إشباع الحاجات الرئيسة للأفراد: عاطفياً ونفعياً... ويتجاوز هؤلاء نطاق العلاقات الشخصية إلى العلاقات (العامة) أي: مطلق المجتمع الإسلامي، ليتعاملوا – في حالات خاصة – أطراف اجتماعية بعضها يتسم بالمواجهة أو المباشرة كـ(المجلس) واستتباعها التوازن العبادي والدنيوي، وبعضها يتسم بعدم المباشرة متمثلة في مبدأ (المؤمنون أخوة) ومبدأ (التداعي العضوي)، حيث يحقق هذا النوع من التواصل الاجتماعي: توازناً عامّاً من خلال كونه يحسس كلّ طرف بعلاقته العاطفية والنفعية مع الآخر، فكما أن جماعة الأصدقاء مثلاً تتكافل فيما بينها، كذلك فإن معرفة أحدهم بوجود جائع مثلاً، يحمله على مساعدته، وهكذا...

ثمّ يتجاوز هؤلاء (الأسرة، القرابة، الجار، الصداقة) علاقاتهم العاطفية المصطبغة بقدر من (النفعية) أيضاً، ليتّجهوا إلى (علاقات نفعية) تصطبغ بما هو (عاطفي)، أي العكس حيث يتجهون إلى أطراف اجتماعية تحقق إشباعهم لحاجات ضرورية، منها ما هو ثقافي ومنها ما هو مادي، وحينئذٍ يتعاملون مع المدرسة والسوق والمؤسسة الإدارية، في النطاق الدراسي: التلميذ يحترم أستاذه، يستمع إليه، لا يقاطعه، لا يخالف رأيه، والأستاذ يعطف على تلامذته يساوي فيما بينهم... وبهذا يتمّ توازن اجتماعي من خلال الإشباع العلمي المصحوب بالإشباع العاطفي أي (عاطفة الاحترام للأستاذ والعطف على التلميذ) حيث تحقق هذه الآلية العاطفية توازناً  كليّاً من حيث أنها تستكمل التوازن الذي يحققه الإشباع العلمي...

وفي النطاق الإداري، يتم التعامل وفق أخلاقية تقوم على المجاملة والبشاشة في الوجوه... وبهذا يتمّ توازن اجتماعي بين طرفي التعامل من خلال المجاملة التي يستتبع قضاء الحاجة بالنسبة إلى صاحبها، وتستتبع حصول (التقدير الاجتماعي) الذي يتطلّع إليه الموظف أو العامل أو ألخ...

وفي نطاق السوق، فإنّ التسابق إلى تناول المشتري والبائع عن حقه، وسهولة كلّ منهما في التعامل مع الآخر، يحقق توازناً اجتماعيّاً بين طرفي التعامل...

وبهذا النمط من العلاقات القائمة على (المجاملة) و(التنازل) والاحترام والعطف يتحقق الإشباع (النفعي) الذي تتطلبه ضرورة الحياة المشتركة بين أطراف اجتماعية لا ترتبط بعلاقات عاطفية ذات ثبات واستمرارية بقدر ما ترتبط بما هو (نفعي) وطارئ، حيث يستكمل هذا الإشباع النفعي بإشباع عاطفي أي: (أخلاقية التعامل)، ومن ثمّ يتم التوازن في هذا النطاق من العلاقات...►

 

المصدر: كتاب الإسلام وعلم الاجتماع/ موسوعة الفكر الإسلامي (3)

ارسال التعليق

Top