• ١٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

نموذج المجتمع المسلم

أسرة البلاغ

نموذج المجتمع المسلم

◄1- خصائص المجتمع المسلم في القرآن:

أ- الوسطيّة:

قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) (البقرة/ 143).

-          أُمّة الإسلام أُمّة الاعتدال والتوازن، والمجتمع الإسلامي مجتمع الوسطية، وقد أهَلت هذه السمة المجتمع المسلم أن يكون (حجّة) و(معياراً): حجّة على الأُمم المتطرِّفة، ومعياراً يُرجع إليه في معرفة ما هو الاعتدال وما هو التطرّف.

والشهادة في الآية شهادتان: شهادة الأُمّة المتوازنة في توسّطها على سائر الأُمم، وشهادة النبيّ (ص) على أُمّته في ضبط حركة سيرها لئلّا تشذّ أو تشطّ عن التوسّط في مركزيّتها. وبذلك يمكن ضمان وسطيّة المجتمع الإسلاميّ ذاتياً وموضوعيّاً، كما يمكن محاكمة الأُمم المغالية في تطرّفها بالنموذج الإسلامي الذي ينبذ التطرّف بكلّ أشكاله، ويعتمد الوسطيّة في شتّى مناحي الحياة. قال سبحانه: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) (الحج/ 78).

ب- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

قال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) (آل عمران/ 110).

-         الأُمّة المسلمة خير الأُمم، لأنّها أنفع الناس للناس، فالإخراج بما ينطوي على إرادة ربّانيّة كان لأجل الإنسانيّة ورفداً لمصلحتها، ووجه الخيريّة في أُمّة الإسلام هو الإيمان العمليّ ممثلاً بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في حين كانت الأُمم السابقة لا تتناهى عن منكر فعلته، ولا تتداعى لمعروف تأخذ به.

ت- الاستقامة:

قال تعالى: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) (هود/ 112-113).

-            الاستقامة هنا ليست منفصلة عن خطِّ الوسطيّة لجهة ثباتها على الاعتدال والتوازن بقرينة قوله سبحانه: (وَلا تَطْغَوْا) و(وَلا تَرْكَنُوا).

كما أنّها ليست منفكّة عن الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر في عرضهما من المحافظة على استقامة الحياة في الدعوة إلى ما يُنمِّيها ويُطوِّرها من الأمر بالمعروف، وما يُنقِّيها ويُخلِّصها من التلوّث والشوائب والمفاسد في النهي عن المنكر.

ولا تكون استقامة لمجتمع ما إلّا باستقامة قيادته، ولذلك جاء النِّداء بالاستقامة موجّهاً للاثنين معاً: القيادة والقاعدة، بأن لا يتجاوزا حدود الله بإجحافٍ أو تجنٍّ أو طغيانٍ أو تطرُّفٍ أو ميلٍ للانحراف نحو الظّلم.

ث- الوفاء بالعهود والعقود والمواثيق:

قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنْعَامِ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (المائدة/ 1-3).

-             ميزة المجتمع المسلم أنّه يفي بكلّ عقد وعهد بينه وبين ربّه، وبينه وبين سائر الناس والأُمم، أي إنّه إذا وعدَ وفى، وإذا آمنَ بصدقٍ أخذَ بما فُرضَ عليه في الكتاب من تكاليف وأحكام ومسؤوليّات، وعرف حدّه ووقف عنده، فلا يستحلّ حرمات الله ولا يتعدّى حدوده، أي شرائعه التي حدّها ورسمها لعباده، ولا يستحلّ قتال القاصدين إلى بيت الله، ولا يحمله بغض قوم كانوا قد صدّوهم عن المسجد الحرام أن يُقابلوا ذلك بالاعتداء عليهم، وهو مجتمع التعاون على البرِّ والتقوى والخيرات والإصلاح والإحسان، ونبذ المفاسد والشرور والمنكرات.

سمة المجتمع الإسلامي أنّه مجتمع رباني يستمدّ حقيقة وجوده، وزخم حركته، ونبل مقاصده من هدفه الأعلى وهو الله تبارك وتعالى.

ج- الهجرة والجهاد:

قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (البقرة/ 218).

-          إنّ من بين سمات المجتمع الإسلامي أنّه إذا ضاقت عليه الأرض في مساحة أو بقعة أو قطر، هاجر إلى مساحة أوسع ومجال أرحب، يُمارس فيهما دينه وطقوسه ودعوته إلى الله، وينطلق منهما لجهاد أعدائه الذين نفوه من دياره أو كانوا سبباً في إقصائه وتشريده، ولذلك فالترابط بين (الهجرة) وبين (الجهاد) وثيق، فليست دار الهجرة دار سياحة واستراحة وسكون واستجمام، بل هي محطّة للتزوّد بالوقود ريثما تحين فرصة مقارعة العدوّ وكسر شوكته وإعلاء كلمة الله في الأرض.

ولذلك كانت لهجة المسلمين مختلفة تماماً في خطابهم لنبيِّهم (ص)، ففي حين قال بنو إسرائيل لموسى (ع): إذهبْ أنتَ وربّكَ فقاتِلا إنّا هاهنا قاعدون، قال المسلمون للرسول (ص): إذهبْ أنتَ وربّك فقاتِلا إنّا معكم مُقاتلون.

إنّ أبناء المجتمع المسلم يعرفون أنّ ثمّة ضرائب إيمانيّة يتعيّن عليهم دفعها بالهجرة ومفارقة الأهل والأوطان من أجل الدِّين، وبالجهاد والتضحية من أجل الدِّين، أي أنّ دين المسلم أثمَنْ لديه من حياته.

ح- التوافر على المزايا والفضائل والخصائص العُليا:

قال تعالى: (مُحمَّدٌ رَّسُول اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) (الفتح/ 29).

-          القيادة في المجتمع الإسلاميّ والقاعدة من سنخ واحد: أبرار، أخيار، متراحمون فيما بينهم، متعاونون، متكافئون، متضامنون، بعضهم أولياء بعض، يُظهرون لِمَنْ خالف نهج الله ودينه غلظة وشدّة وصلابة، يركعون ويسجدون لله في كثرة صيام وقيام، لأنّهم يرون أنّ المواجهة مع المصاعب والمتعصِّبين تحتاج إلى شحن نفسي وروحي، وإلى شحذٍ للهِمَم في جنبات الميدان، ولذلك يصدق عليهم أنّهم (رهبان) في اللّيل و(فرسان) في النهار، ولهم نظراء في التأريخ رصدتهم التوراة والإنجيل في الولاية لله والنصرة لدينه، ولم يخلو تأريخ الرِّسالات من نماذج مشرِّفة قادت مجتمعاتها إلى سواحل العزّة والانعتاق.

إنّهم (عباد الرّحمن) الذين استحقّوا أن يُنسبوا إليه، فقال في صفتهم:

(وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا * وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا * وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا * أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا * خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا) (الفرقان/ 63-76).

-             إنّهم مجتمع (عباد الرّحمن)، المجتمع الصالح الذي يمشي أبناؤه بوقار وتواضع فلا يختالون ولا يتبخترون، وإذا خاطبهم السّفهاء بغلظة وجفاء ردّوا بلطف وسماحة، وإن جهل عليهم الجاهل حلموا وترفّعوا، وتراهم يحيون ليلهم بالصلاة والتقرّب إلى الله، فهم يطيعونه باللّيل في العبادة، ويطيعونه في النهار بخدمة العباد، ومع ذلك فهم يعملون الصالحات وهم على وجل من النار ويبتهلون إلى الله بدفعها عنهم، وهم يُنفقون باعتدال فلا إسراف ولا تبذير ولا تضييق وتقصير، إنّهم عباد الله المخلصون الذين لا يقتلون النفس التي حرّمها الله إلّا بالحقِّ، ولا يزنون بعد إحصان، أي بعد أن أمّن لهم سبحانه سُبُل الزواج ليعصموا به أنفسهم، ولا يشهدون الشهادة الباطلة التي يضيع فيها وتُهدر الحقوق، وإذا مرّوا بمجالس اللّغو وأماكن ارتكاب القبيح تنزّهوا ومرّوا مُعرضين مكرمين أنفسهم عن أن يخوضوا مع الخائضين. وإذا ما وُعِظُوا بآيات الله وخُوِّفوا بها، استمعوا إليها بإصغاء وبنفسيّة منفتحة، وهم في دعاء موصول بأن يهبهم الله أزواجاً وبنين صالحين ويجعلهم قدوة صالحة للمُقتدين من الهُداة والمتّقين.

 

2-    المجتمع المسلم الصالح كما تُصوِّره (سورة الحُجرات):

قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ * وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ * يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ * قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم * يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (الحجرات/ 1-18).

-             لابدّ من الإشارة في البداية إلى أنّ سورة الحجرات ترصد إيقاع العلاقات والآداب الاجتماعية التي تحكم المجتمع الصالح سواء في علاقته بالله وبرسوله أو في العلاقات الداخلية بين المسلمين أنفسهم، وقد قيلَ إنّها تُركِّز قواعد الاستقرار الاجتماعي من خلال المبادئ الأخلاقية التي تحكم الواقع، وتتحرّك العلاقات ضمنها.

وعلى الرّغم من أنّنا سنفردُ حديثاً خاصّاً عن آداب المجتمع الصالح، لكنّ التوقّف هنا عند سورة الحجرات ليس توقّفاً أخلاقيّاً فقط، بل هو تلمُّس لحركة العلاقة بين كلّ الدوائر الاجتماعية المُشار إليها، ومن جميل ما أشار إليه بعض المفسِّرين في استهلال السورة أنّها تثير الحسّ التربوي في المجتمع الإسلامي على اختلاف أوضاعه، على صعيد الحياة والإنسان، ليتفاعل الإيمان مع الواقع في عملية تزواج روحي وعملي يتحوّل فيه الإسلام إلى موقف.

-             تُحدِّد سورة الحجرات أدب وأسلوب التعامل مع الله ورسوله، باحترامهما عند المخاطبة، وأن لا يتقدّم المجتمع المسلم باقتراحاته على الله ورسوله، فهما يتحرّكان ضمن برنامج دقيق لا يغفل عن تغطية حاجات المجتمع الصالح في مختلف الجوانب والإتِّجاهات.

وتدعو إلى وجوب التثبّت من شخصية المُخْبِر، وطبيعة الخبر قبل إصدار الحكم، وأن لا يقف المسلمون من موقف الصِّراع بين طائفتين من المسلمين موقف المتفرِّج، بل يتعيّن عليهما فضّ النِّزاع بالإصلاح والأساليب الدّبلوماسيّة الحكيمة، وأن يُقاتلوا الفئة التي تصرُّ وتستكبر وتبغي على الأخرى.

وتنهى عن أن يسخر بعض المسلمين من بعضهم الآخر مهما كانت دوافع السخرية، فما يدريهم لعلّ الذين يسخرون منهم هم أقرب عند الله منهم، وتنهى كذلك عن التعبير بالألقاب المُخجلة، وتدعو إلى اجتناب الكثير من سوء الظنّ، لأنّه يدعو إلى التجسّس، وهذا بدوره يقود إلى الاغتياب وتشويه صورة الإنسان المسلم في نظر الآخرين.

وسورة (الحجرات) تدعو المسلمين إلى أن يعيشوا الانفتاح على التنوّع البشريّ فيما قسّم الله الناس إليه من شعوب وقبائل، ليكون ذلك أساساً للتعارف والتفاعل والتبادل الثقافي والعلمي والحضاري، بدلاً من أن يكون سبباً للنِّزاع والاحتراب والعصبيّة، وأن يؤكِّدوا الإيمان كعُمق للإسلام الذي ينتمي إليه المسلمون الذين يرون في الإسلام نعمة من الله عليهم لا منّةً منهم على رسوله.

وباختصار، فإنّ سورة الحجرات بمضامينها الإدارية والتربوية والأخلاقية والعلاقاتية، تُمثِّل صورة المجتمع الإيماني الصالح، مجتمع الأخوّة والتآخي. ► 

ارسال التعليق

Top