• ١٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

وعينا بقيمة الوقت

عمار كاظم

وعينا بقيمة الوقت

قال تعالى: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا) (العصر/ 1-3). الوقت عنوان الوجود، وفسحة الإنسان في الحصول على الدرجات التي توهِّله للدخول إلى الجنّة. هو أنفس وأثمن ما يملكه، ذلك لأنّه وعاءٌ لكلِّ عمل، وساحة لكلِّ نشاط إنساني، لذا يُعتبر رأس المال الحقيقي للإنسان فرداً ومجتمعاً، فهو نِعمة كبيرة امتن الله تعالى بها على عبده، بل يمكن اعتباره أصلاً من أُصول تلك النِّعَم. قَسَّم الإمام عليّ (عليه السلام) الوقت إلى أربع حصص (ساعات)، حيث رُوِي عنه أنّه قال: «اجتهدوا أن يكون زمانكم (يومكم) أربع ساعات: ساعة لطلب المعاش، وساعة لمُناجاة الله، وساعة للقاء بإخوانكم الثقاة الذين يُعرِّفونكم عيوبكم، وساعة لملذّاتكم في غير محرّم وفي هذه الساعة تقدرون على تلك الساعات». فـ(طلب المعاش): هو كلّ المساعي المبذولة لتأمين الاحتياجات الأساسية من الغذاء والمسكن والملبس والدواء وسائر المقتنيات، و(مُناجاة الله): هي الوقت المخصَّص للعبادة سواء أكانت صلاة مفروضة أم أيّة أعمال يَتقرَّب بها الإنسان إلى الله ويُنمِّي فيها جانبه الروحيّ.. وأمّا (لقاء الإخوان): فهو الوقت الذي يُقضى بصُحبة الأصدقاء والأقرباء والجيران والزُّملاء الصالحين الذين ينفعون بصُحبتهم ولا يضرّون.. وتبقى ساعة الملذّات المباحة، أو الاستمتاع بأوقات الفراغ، أو ممارسة الهوايات، أو التنزُّه بين أحضان الطبيعة، أو التريُّض وقتاً مُهمّاً للترويح، وتجديد النشاط، والتخفُّف من الأعباء، بما في ذلك ساعات النوم والاسترخاء.

وهذا التقسيم ليس تقسيماً آليّاً، أي إنّه لا يعطي أوقاتاً متساوية لكلِّ عملٍ، وإنّما هو يُوزِّع الأعمال والاهتمامات بحسب ما تتطلَّبه - من حيث طبيعتها - من وقت؛ فلا يطغى عملٌ على عملٍ، ولا يُهمَل عملٌ لأجل عملٍ، وهو بالنتيجة توزيع للأولويات على مدى اليوم، بل وعلى امتداد الحياة، علماً أنّ كلَّ واحدٍ من الأُمور الأربعة (مُتجدِّد) و(مُتنوِّع) و(مُتغيِّر)، فكثيراً ما يُغيِّر الإنسان عمله، وكثيراً ما يُخصِّص أوقاتاً عبادية لأعمال يتوفّر فيها شرط القُربة إلى الله، وليست بالضرورة عبادةً منصوصاً عليها، والإخوان يزدادون ويتقلَّصون ويتغيَّرون بحسب الانتقال من منطقةٍ إلى منطقة، ومن وظيفةٍ إلى أخرى، وهكذا الاستمتاعات مُتعدِّدة ومُتجدِّدة أيضاً.

إنّ مراقبة الأوقات لا تعني استثمارها استثماراً جيِّداً فقط، بل الخروج من رتابتها أيضاً، فـ(المغبون مَن تساوى يوماه) بلا أيّ تطوّر أو تقدّم أو زيادة في الخير والعطاء. ومَن لا يعرف الزِّيادة في نفسه فهو في نقصان. ومراقبة الوقت تعني كذلك تقسيمه بما يؤمِّن الاحتياجات كلّها، لذلك قيل: إنّ ليلك ونهارك لا يستوعبان لجميع الحاجات: فاقسمها بين عملك وراحتك. سُئِل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عمّا كان في صُحُف إبراهيم (عليه السلام)، فقال: «كان فيها: على العاقل – ما لم يكن مغلوباً على عقله – أن يكون له ساعات: ساعة يُناجي فيها ربّه عزّوجلّ، وساعة يُحاسِبُ نفسه، وساعة يتفكَّر فيما صنعَ الله عزّوجلّ إليه، وساعة يخلو فيها بحظِّ نفسه من الحلال، فإنّه هذه الساعة عون لتلك الساعات واستجمام للقلوب وتوزيع لها»! والساعة تعبير عن الوقت، أي وقت للعمل ووقت للعبادة، ووقت للعِلم، ووقت للراحة وتجديد النشاط.

الوقت الضائع يعني ضياع فُرص ثمينة كان يمكن أن تنجِّي الإنسان من العذاب وتُقرِّبه من الجنّة: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (الزلزلة/ 7-8). الذي يعرف قيمة الوقت ويُحسن إدارته، يعلم أنّ ما يتخلله من فراغ يُعدّ قيمة إضافية. والمسلم يعي ذلك جيِّداً حيث إنّ شغله وفراغه عبادة يتقرَّب بها إلى الله عزّوجلّ، وبناءً على ذلك لا يتصوَّر وجود وقت مستقطع، يذهب سُدىً في حياة المسلم، لأنّ فراغه عبادة، ووجوده عبادة، ونشاطه عبادة، وجميع أوقاته سفينة تحمل قانون الاستخلاف، الذي جعله الله عزّوجلّ للإنسان في كلّ لحظة على الأرض يؤدِّي دوره ليحتسب ذلك طاعة لله عزّوجلّ وهو يقوم بعمارتها، ولهذا نظَّم الإسلام حياة المسلم، فجعل منها وقتاً للراحة، ووقتاً للعمل، وله في كلّ ذلك طاعة وقُربة إلى الله.

ارسال التعليق

Top