• ١٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

التقوى وإشكاليات الاختلاف والوحدة

أ. د. علي القريشي *

التقوى وإشكاليات الاختلاف والوحدة
◄مفهوم التقوى: التقوى مشتقة من الوقاية التي تعني التحفظ والمهابة. وهو منهج سلوكي يقوم على عدم الطغيان وإيثار الآخرة ووقوف الإنسان أمام أهوائه وتهوساته، بنحو يغدو الصدق وتحرى الحقيقة ونشدان الحق والسعي لبلوغ الاستقامة وتحصيل السداد، ممارسات حيوية تستمد أصالتها من عمق الخشية ودوام التعبد لله والالتزام بتعاليمه وأحكامه. والتقوى أساساً هي حالة روحية قوامها الاستشعار الدائم بأنّ الله تعالى رقيب على كل شيء (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) (غافر/ 19). وحيث إنّ التقوى بمقياسها الإسلامي تتعامل مع كل مفردات الحياة فردية كانت أو اجتماعية، فهي بهذا تمثل حالة تربوية شاملة تعمل على صون الذات وتحقيق نموها، بما يقضى إلى التورع والاجتهاد في السير على الطريق القويم بأقصى قدر مستطاع (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (التغابن/ 16). وليس الاختلاف على صُعُد الفكر والعقيدة والفقه والسياسة الذي يمكن حدوثه فيما بين المسلمين إلا أحد القضايا التي تتأثر منهجياتها واتجاهاتها بما يملكه المختلف من تقوى. والتقوى في صياغتها لمنهج الاختلاف ورسمها لاتجاهاته وسلوكياته تنطوي على جملة من المضامين والمعطيات التربوية التي يمكن تحديدها وتحليلها بما يلي: المضمون الروحي للتقوى وأثره التربوي في سلوكيات الاختلاف: إقامة المسلم للفروض والطاعات وممارسة التفكير والخشية والدعوات، واستحضاره الدائم ليوم الحساب، إنّما يمثل تربية تنعكس ولا شكّ على السلوك في مختلف الاتجاهات، ومثل هذه التربية بطبيعتها، وبحكم ما تستخدمه من وسائل عبادية وتأملية، ستجعل من الذات مركزاً لفعل الوقاية والتطهير والمجاهدة، مما يمنحها دوراً مهمّاً في تحديد نمط العلاقة مع الآخرين في مختلف الحالات. فإذا جئنا إلى حالة الاختلاف التي يمكن أن تنشأ مع المسلم الآخر فيمكننا أن نتوقع مساراتها من خلال معرفتنا بأنّ الانشغال بعيوب الذات والتوجه نحو اتهامها ولومها – بصفته المنطلق الذي تؤكده التربية الروحية (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي) (يوسف/ 53)، سيوفر بطبيعته مناخاً يدفع إلى التركيز على عيوب الذات وأوجه قصورها قبل التركيز على عيوب الآخرين وأوجه قصورهم، الأمر الذي سيجنب المرء الاستعجال في إصدار الأحكام السلبية ضد المخالفين، ومنع استحلال الممارسات المستكرهة معهم؛ ذلك أنّ ملكة التوقف ستحكم مسالكه، بخاصة فيما لا علم أو وضوح له فيه، كما أنّ التربية الروحية بما توفره من سمو وإشراق كفيلة بدعم هذا المنحنى المتحفظ، بل والدفع به باتجاهات أكثر إيجابية. "فالدعاء" بصفته أحد وسائل هذه التربية – سيسهم في ذلك بما يرسخه في القلب من مشاعر صافية تجاه المؤمن الآخر (وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (الحشر/ 10)، بل وبما يدفع إليه من تغليب لروح التفاهم وفض أي شجار يمكن حدوثه بين الطرفين (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ) (الأعراف/ 89). وحتى في الحالات التي قد ينجر فيها المتقي إلى بعض الاختلاف المذموم فإنّه سرعان ما يحاول الاستدراك مصححاً وعائداً إلى السواء ودونما انحراف (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) (الأعراف/ 201)، وهكذا تشكل معالم الشخصية الروحية في علاقاتها مع المسلمين الآخرين. الزهد وأثره التربوي في سلوكيات الاختلاف: من أبرز ما قد تتمخض عنه التقوى سلوكية الزهد. والزهد هو الاستغناء بالله عن أي شيء استغناء يمنح القدرة على التحرر والتحكم وامتلاك ناصية التعالي على الغوايات والفتن وزخرف الأشياء. والمنطلق الأساسي للتربية على الزهد هو التبصير بحقيقة الدنيا بصفتها مرحلة عابرة ودار فناء أدنى من أن تمتلك القلب الذي آمن بالآخرة وبالحساب (أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ) (التوبة/ 38). وبهذا تتم المساعدة على مواجهة دوافع المنافسة والشهرة والبحث عن المصالح والاستئثارات النفعية التي كثيراً ما يختفي وراءها الاختلاف المذموم. ولا شك أنّ الاتجاهات التفريقية تزدهر كلما ازدهرت هذه الدوافع التي يسعرها احتدام التضاد. وليس الاختلاف حول المسائل الفرعية أو الهامشية في حقيقته إلا حالة يعيشها ضعاف الورع وقليلو المعرفة ممن تقودهم تلك الدوافع التي قد تتلبس أردية الدين وتوهم بالدفاع عن مقتضياته. إنّ التربية على الترفع والامتلاء بحقيقة أنّ (وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى) (القصص/ 60)، كفيل بوقاية المرء من الانجراف إلى مثل تلك الاختلافات التي لا طائل من ورائها. كما أنّ البساطة والتواضع والابتعاد عن الكبر والغرور وتجنب تزكية الذات – وهي من صفات الشخصية الزاهدة – من شأنها أن تمنح القدرة على قراءة الآخر وتفهمه بشكل موضوعي أمين، وكلما نمت مشاعر الزهد وترسخت سلوكياته كلما برزت ملكة التحفظ وسلوكية مراعاة الآخرين. وبالتالي فإنّ أي اختلاف يتم في إطار الشخصية الزاهدة لا يتحرك إلا ضمن الأهداف السامية وما يمليه الشعور بواجب إيضاح الحقائق أو الدفاع عنها، أو بما تقتضيه ضرورات إثراء الحوار المفيد. والزاهد لا يختلف – إذا ما اختلف – إلا وهو يوجه لنفسه التساؤلات التالية: عمَّ اختلف؟ ولِمَ اختلف؟ وما الغاية من اختلافي؟ وكيف ينبغي أن أختلف؟ وما حدود ذلك وما ضوابطه؟ ثمّ ما جدوى ممارسة الاختلاف؟ فإنّ وجد أجوبة مقنعة يؤسسها الشرع أو العقل أو الواقع الموضوعي خاض اختلافه بكل نزاهة وهدوء (فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا) (الجن/ 14). ومثلما يظهر الأثر الإيجابي للزهد في سلوكيات الاختلاف في أبعادها الفكرية أو الفقهية أو الاجتماعية، فإنّ الزهد في المجال السياسي ستكون له أهمية أخطر، بخاصة حين تتوفر قيمته عند من يمتلك القوة وهو يواجه معارضيه، فالزهد بالسلطة من منطلق التقوى يمثل قيمة مهمة من شأنها أن تؤثر في سلوكيات الاختلاف لدى أطراف المجتمع السياسي بشكل صحي محمود. مبدأ المسؤولية الإنقاذية وأثره التربوي في سلوكيات الاختلاف: التقوى ليست صفة احتكارية، فالمؤمن الحق يسعى إلى إشاعة شروطها في معتقدات الناس وسلوكياتهم كافة، وما تحمل تبعات الدعوة والإرشاد عند المؤمن إلا تعبير عن الشعور بالناس وبالمسؤولية الإنقاذية اتجاههم. والشعور الإنساني إزاء الآخرين ينطوي على "المحبة" التي تدفع إلى "الإحسان" (حس وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) (النساء/ 128). كما أنّ التعود على الإحسان ينطوي ضمناً على فضائل "التقبل" و"المراعاة" و"التسامح" التي تشكل مفردات ضرورية في ضبط سلوكيات الاختلاف بخاصة في الحالة التي قد يلحق بها المرء سوء فهم أو يجابهه أثناءها خطأ قد يصدر بحقه من قِبَل الآخرين. لهذا فإنّ المتقي الذي يتعمق لديه ذلك الشعور لا يستهدف فضح المخالف أو تعريته. وهذا ما كان يعلمه الرسول لأصحابه حتى في لحظة إقامة الحد على من أخطأ، حيث رد على من قال عمن أقيم عليه حد شرب الخمر "أخزاك الله" بقوله (ص): "لا تعينوا عليه الشيطان". إنّ التنشئة على تحمل مسؤولية الهداية ستطبع المؤمن على أن لا يدير اختلافاته مع الآخرين إلا بمبررات شرعية أو موضوعية، ولا يتبع معهم إلا الحكمة والمنطق والموعظة الحسنة ولا يجادلهم إلا بالتي هي أحسن، وبالتالي فإنّه لا يكون مسروراً إذا ما خسر الآخرون فرصة معرفة الحقيقة أو رؤية الطريق المؤدي إليها ولو بعد حين. لهذا لا تجتمع التقوى مع نزعة الإقصاء التي تستعجل إصدار الأحكام الباترة لمجرد الاختلاف في فهم أو تفسير أو اجتهاد، ففي ظل التربية على الشعور بمسؤولية الهداية والإنقاذ سيترسخ منطق التعامل السليم مع موضوعات الاختلاف ومفرداته، بحيث لا يطغى فرع على أصل، ولا جزئية على كلية، ولا هامش على متن، الأمر الذي يترتب عليه توفير مستوى جيِّد من الفهم والتمييز بين مستويات الاختلاف من جهة، وإبقاء منطق الأخوة وحسن الظن والتعامل سائداً بين المختلفين من جهة أخرى. ومن المنطقي أن نقول بأن نمو الشعور بالمسؤولية الإنقاذية ستكون له من الانعكاسات ما يساعد على ازدهار قيم التفاهم والحوار بين مختلف الأطراف، خلاف ما إذا تضاءل مثل هذا الشعور وسادت الاستهانة بقيمة تلك المسؤولية، حيث سيُستهل التنازع ويفشو الخلاف دون تقدير لما قد يترتب على ذلك من نتائج سلبية أو أضرار. التقوى وأخلاقيات الاختلاف: من الأهداف العامة للتربية الإسلامية بناء الفرد المسلم السليم القلب المُبرء من خبث الدوافع وسوء المسالك وفساد الغايات والذي تحكم اتفاقاته واختلافاته القيم الأخلاقية المتصلة بهذا الخصوص. ويُعد الصدق والأمانة من أبرز تلك القيم، سواء كان ذلك مع النفس أو مع الآخرين، وتتجلى أهمية الالتزام بهاتين القيمتين فيما تبلوره من سلوك يأبى الكذب والافتراء والتقول والتجني والبهتان والتحايل والتزوير والتحريف ضد الآخرين، إذ لا يمكن لمن خاف مقام ربه ونهي النفس عن الهوى أن يجعل من تلك الوسائل مبررات لبلوغ الغايات أو تحقيق المآرب. أما قيمة العدل التي يقررها الإسلام في تنظيم علاقة المسلم بالآخرين فتضعها التربية الإسلامية في أعلى سلم قيم التعامل، حتى في الحالة التي يبلغ فيها الاختلاف مع الآخر حدود العداوة فالعدل قيمة حاكمة في كل حال (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (المائدة/ 8). والعدل مطلوب، وإن جاء على حساب الذات (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ) (النساء/ 135)، ومن الطبيعي حين تسود هذه القيمة في أي سلوك اختلافي ستعني توفير قدر كبير من الموضوعية والنصفة وحفظ ما يستحقه الآخرون من حقوق. كما تعتبر عفة اللسان ذات أهمية بالغة في ضبط سلوكيات الاختلاف، فمن يتحلى بهذه الصفة لا يلجأ مع غيره إلى أساليب اللعن أو السب أو الإقذاع أو التحقير أو استخدام الألفاظ الجارحة أو السخرية أو الهمز أو اللمز أو تتبع العورات أو الجهر بالسوء دون حق، ذلك أنّ الغاية التي يسعى إليها المختلف الملتزم لا تبرر له مثل هذه الأساليب.. وإذا جئنا إلى خصلة التواضع فيمكننا القول بأنّ من يتحلى بها مُحصن من لوثة الادعاء والتعالي والزهو على الآخرين (إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) (لقمان/ 18)، "إنّ الله أوصى أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد" وما من شك في أنّ الاغترار والعجب برأي أو اجتهاد مدعاة لحجب الرؤية التي تحول دون الاعتراف بالآخر واستبعاد اعتباره من أهل الرأي أو الصواب، وفي ذلك استبداد يأباه خلق التواضع والتعامل السليم. ومن الأخلاقيات التي أكدتها التعاليم الإسلامية؛ الرحمة قال تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) (آل عمران/ 159)، ففي ظل التنشئة على الرحمة تنبع سلوكية الرفق "إنّ الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع عن شيء إلا شانه". لهذه فالقسوة والغلظة ليست من أخلاق المتقين في شيء، ويظل اللين والحسنى في أي خطاب أو تحاور مطلوبين، حتى ولو كانا مع غير المسلمين. أما التسامح فهو النقيض الجذري للتعصب والاستبداد، ويرتبط بمعاني الرحابة والصفح والعطاء، وتأكيد حق المغايرة، وقبول الآخر على المستويين الفكري والاجتماعي، وهو كقاعدة من قواعد السلوك يرتبط بنسبية المعرفة حتى في دائرتها الدينية على اعتبار أن ما يجري في استنباط أو تأويل أو اجتهاد خارج ما هو قطعي من الدين لا يمثل إلا محاولة لا يملك أحد الادعاء بأنها تمثل الحقيقة الدينية المطلقة، لهذا لابدّ من تقدير الآخر وقبول حضوره في الساحة دون مصادرة أو تعسف أو إقصاء. وإنّه لمن التقى التحرز في إصدار الأحكام القاطعة ضد المغايرين في الإطار المذكور، والتعود على ترك ذلك إلى الله تعالى: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلا) (الإسراء/ 84)، (إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (المائدة/ 105). إنّ التسامح الذي تؤكده التعاليم الإسلامية ينطوي ولا شك على قيمة عملية تتجلى في إمكانية إبقاء الباب النفسي مع الآخر مفتوحاً على نحو قد يشجعه على استئناف الحوار إن لم يحثه على التراجع إن كان مخطئاً، أو العودة إلى الصواب إن كان ضالاً أو مشتطاً (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (الزخرف/ 89)، وهذا ما يصحح معنى التسامح بصفته سلوكاً لا يقصد به القبول بالخطأ أو السكوت عن الحق. في ضوء ما عرضناه نتساءل: هل يمكن للإنسان أن يتحلى بالقيم الأخلاقية المذكورة عند اختلافه مع الآخرين حتى ولو لم يكن تقيّاً؟ الجواب: إنّه من الممكن ذلك، غير أنّ الواقع كثيراً ما يثبت أنّ أهل الاختلاف حين يفتقرون إلى التقوى فإنّه من الصعب عليهم الالتزام بتلك القيم التزاماً كاملاً وفي كل الأحوال، ذلك أنّ المرء الذي لا تقترن عنده الأخلاق بالعقيدة قد يسهل عليه التنصل والتجاوز، لهذا كان الاقتران المذكور هو الضمانة الأقوى لاستمرارية تلك الأخلاقيات وثباتها، وبالتالي ممارستها بشكل دائم مع الآخرين. التقوى والضبط العاطفي عند الاختلاف: الاختلاف أيّاً كانت موضوعاته أو مفرداته يتيح بطبيعته المجال للعواطف أن تتسرب لتغطي بألوانها وضمائمها جوانب معتبرة من مساحات الاختلاف، وعلى نحو قد يمس بشكل سالب مبادئ العدالة والموضوعية وحسن التعامل. هنا تبرز قيمة التقوى بما توفره من قدرة على ضبط حركة العواطف والحيلولة دون تدفقها الساخن الذي قد يجرف السلوك باتجاهات غير مقبولة، فالتقوى تكف أو تكيف العواطف بما يخدم الموقف الموضوعي، وبما يحول دون جعل الاختلاف نهباً للانفعالات المحمومة التي قد تدفع نحو التحيز أو باتجاه المواقف المتطرفة أو السلوكيات الحمقاء. ومن هنا تمثل التربية التي تستند إلى التقوى أداة قوية من أدوات التحكم في آليات الفعل ورد الفعل، ومنهجاً سلوكيّاً ضابطاً يمنع من الانخراط في هوجات التعصب والتعصب المضاد. ومن الجدير بالذكر أنّ المبادئ الإسلامية وهي تقرر جملة من الحقوق والواجبات للمسلم على المسلم الآخر، تبرز أهمية الحث على الصبر والتحمل والتجمل التي من شأنها المساعدة على ضبط عواطف الاختلاف وحمايتها من الخروج على المرعي من حدود أو آداب. وفي إعلاء التربية الإسلامية لقيمة الصبر مع المخالف تنطوي أهمية بالغة في ترشيد عواطف المختلف عبر السيطرة على حالات الغضب أو الثأر أو الانتقام (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) (النحل/ 127-128)، (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران/ 134). ومن تجليات الضبط العاطفي لدى أهل التقوى امتلاكه أنفسهم وكبحهم جماحها حتى في لحظات تحقق الانتصار. فالانتصار في جدل أو مناظرة أو حوار أو حتى فيما هو أبعد من ذلك حين يكون مع مسلم لا يمكنه أن يتحول إلى حالات من الزهو أو الغرور أو التشفي، ناهيك عن البغي أو الطغيان. ولقد ضرب الإمام عليّ بن أبي طالب (ع) القدوة الحسنة في هذا المستوى من الضبط في مختلف مواجهاته، فمثلاً حين سمع قوماً من أصحابه يسبون أهل الشام إبّان معركة صفين نهاهم عن ذلك، وقال لهم: "إنّي لأكره لكم أن تكونوا سبابين، ولكنكم لو وصفتم أعمالهم وذكرتم حالهم كان أصوب في القول وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبكم إياهم: اللّهمّ احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم؛ حتى يعرف الحق من جهله ويرعوى عن البغي والعدوان من لهج به". وهكذا فإنّ عواطف المرء الذي يختلف على أساس الالتزام بشروط التقوى لا يمكن أن تطفح بالطعن أو اللعن أو السب أو التشهير أو المهاترة، كما لا تدفع إلى الجهر بالسوء دون حق، ولا حتى بمقابلة السلوك السيء بمثله، ناهيك عن أن تجنح إلى الإلغاء أو المحو أو إصدار الاحكام الباترة؛ لأنّ عواطفاً كهذه لا يحركها هوى أو حقد، ولا تقودها عدوانية أو روح شقاق، فمنطق الورع بما ينطوي عليه من عقلانية وانضباط يحول دون الاندفاع نحو تلك المنحدرات (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا) (الفرقان/ 63). التقوى والسلوك الوحدوي: إنّ التأليف بين العباد قوة في أداء العبودية وصلاح للدين، وأدعى للحفاظ عن أمن المجتمع وتحقيق مصالحه. وليس من شك أنّ التفريق مدعاة لتمزيق آصرة الأخوة وإضعاف للروابط وتفكيك للكيان، ولا يتفرق المسلمون إذا تفرقوا إلا عندما يتحكم بهم الجهل، أو تتلاعب بهم الأهواء أو المصالح الضيقة؛ لذلك فإنّ خير ضامن ينأى بالعباد عن الوقوع في حفر التنازع والانغماس في ظلامات الفتن هو اللجوء إلى الله تعالى وتقوية الصلة به (أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى) (الحجرات/ 3). وإذا كان التثقيف بالثوابت الإسلامية التي لا يمكن الاختلاف حولها و"المتغيرات" التي يجوز عندها الاختلاف يقود إلى الوعي بحق الاختلاف بشرط الوحدة وخطر التفريق وحرمته، فإنّ التقوى علاوة على كونها التزام بهذا الوعي الديني الذي أساسه المعرفة المكتسبة، فهي مجاهدة تفيض "بالعرفان" الذي يساعد على الرؤية الشفافة التي تقي من المنزلقات (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا) (الأنفال/ 29)، (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) (العنكبوت/ 69). لقد كان هارون أخو النبي موسى (ع) على وعي بمسؤولياته الوحدوية إزاء قومه حين لم يستعمل معهم الشدة حتى وهو يدعوهم إلى الانصراف عن عبادة العجل (قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي * قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) (طه/ 92-94). لقد جعل خوفه من إحداث الفرقة عذراً يعفيه من التشديد عليهم، حيث لا ينفع التشديد. وكثيراً ما كان السلف الصالح يأخذ بالمفضول ويترك الأفضل مراعاة للائتلاف وتجنبا لمأزق الخلاف؛ ذلك أنّ منطق الوحدة في معيار التقوى يعلو على أي منطق آخر؛ لهذا يخطئ من يصر على نشر بعض السنن والمستحبات، أو يحاول فرض بعض الآراء أو الأحكام الاجتهادية دون التحسب لإمكانية ظهور رد فعل سلبي عند البعض الآخر، لقد كان الشيخ حسن البنا يضرب المثل في إدراك الأولويات الشرعية حين قيل له ذات مرة: ادرك شيخنا أنّ المصلين في المسجد يوشك أن يتقاتلوا، قال: لم؟ قيل: بعضهم يريد أن يصلوا التراويح ثمان ركعات، وآخرون يريدون صلاتها عشرين ركعة. قال: ثمّ ماذا؟ قيل: هم بانتظار فتواك. أجاب: فتواي أن يغلق المسجد فلا تصلى فيه التراويح؛ لأنّ التراويح "نافلة" بينما وحدة المسلمين "فريضة" ولا يمكن أن تنهض نافلة على هدم فريضة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا...) (آل عمران/ 102-103). إنّ التربية على أساس التقوى من شأنها في النهاية أن تروض على سلوكيات الصبر والتواصي بالحق والبعد عما من شأنه أن يؤدي إلى إحداث الوقيعة والشقاق.   خاتمة: من كل ما تقدم يتبين لنا أنّ التقوى بمضامينها وأبعادها الروحية والأخلاقية والفكرية تمثل تربية مميزة لها من المعطيات ما تنضبط في سياقها حالات الاختلاف وتترشد في إطارها سلوكياته على النحو الذي يضعها في مقدمة العوامل الأساسية التي تسهم في حل إشكاليات الاختلاف والوحدة على النحو السليم، ولا شك أنّ الممارسات العبادية والالتزامات الأخلاقية والوعي بمخاطر الفرقة وتأكيد حرمتها ووجوب الوحدة وإدراك أهميتها هي من العناصر التربوية التي من شأنها إحكام الرقابة على حركات التعامل والتجاذب وضبط كل سلوك اختلافي، حتى ليمكننا القول بأنّه كلما قويت صلة الإنسان بربه وتعمقت في صدره تقواه، كلما ابتعد عن سلوكيات التعصب والكراهية والتفريق، وبالتالي كان أقرب إلى المحبة وقيم الحوار والاعتراف بحق الاختلاف المشروع.   * أستاذ بجامعة عمر المختار، ليبيا – البيضاء. المصدر: مجلة المسلم المعاصر/ العدد 99 لسنة 2001م

ارسال التعليق

Top