• ٣ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٤ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

دور العقل في فهم القرآن الكريم

د. قاسم الجوادي

دور العقل في فهم القرآن الكريم

  إنّ حجة الإنسان الأولى هي الفكر الذي أكرمه الله بعائدته، فهو على ضوئه وبميزانه يستخبر حقائق الكلام الذي يسمعه، ويحاكمه بأصوله، فيقبل منه ما استصوبه حكمه، ويرفض ما خف وزنه في معياره، وهذه الحجة الذاتية واصبة الحضور والتأثير في الإنسان كقطب الرحى بلا انقطاع، ولا تحيد عن دورها المركزي فيه وهو دور الزمام قيد انملة، وإذا غابت عنه في مرحلة من مراحل حياته، أو لم يعطها حقها من الاهتمام والتعويل تعرضت إنسانيته للخسران بحجم ذلك الغياب أو عدم الاكتراث.

انّها هي السر الكامن وراء تفضيل الإنسان على سائر الموجودات، وبها تكون حجة فوق كل الحجج، وهو بدونها في دوامة اللاتكليف سواء على صعيد الشرائع السماوية أو الأنظمة الوضعية كهباءة سابحة في الفضاء بلا قرار. وان انضواء الإنسان تحت لواء التوحيد والرسالة والقرآن لا يكون إلا بالزامات تلك الحجة وبراهينها. ويأتي بعد دور هذه الحجة الأساسية دور الحجج الأخرى التي تلازم هذا المخلوق العاقل المستخلف المكرم بالمسؤولية ما كر عليه الجديدان، يفيد منها رشده وسداده، ويغنم بها خيره وصلاحه، ويقع في رأسها حسب وجهة نظر الإسلام – القرآن الكريم – الذي وصفه النبي الأكرم بالثقل الأكبر، وهو أحد الثقلين المتلازمين اللذين لا ينفك أحدهما عن الآخر حتى يردا عليه (ص) يوم القيامة، وهو إضافة إلى كونه الأصل المتين المصون، فهو منارة الطريق في زحمة التعارض والتضاد، ومن هنا أطلق الهداة الميامين أوامرهم الرشيدة لنا بأن لا نقبل ما خالف القرآن، وافهمونا سلام الله عليهم انّهم لم يقولوا قط ما يعارض القرآن، وبينوا لنا اننا ملزمون بأن نأخذ عنهم ما وافق الكتاب المجيد. هذه وغيرها كلها دليل باهر على حجية القرآن القاطعة التي لا مراء فيها، وكونها سيدة الحجج والأسس الفكرية التي تم الالزام الأكيد بأن يعتمدها الإنسان المسلم في مساره الرسالي، ويستمسك بعروتها الوثقى في مضلات الفتن ومتاهات الشبهات ما اعتقبت العصور والأزمان، ما دام هو أي القرآن لم ينزل لزمان دون زمان، بل لكل المديات المذخورة لعمر البشرية منذ نزوله إلى قيام الساعة، ويبقى فيها حياً، طرياً، نابضاً بالحلاوة والطلاوة، مفعماً بالحياة المتجددة والعطاء المتواصل، ومن هنا يلزمنا بذل الجهود الحثيثة بلا كلل أو ملل للوصول إلى أقصى درجات الفهم السليم للقرآن، ومن خلال كل السبل والمنافذ الصحيحة التي تعيننا على إدراك المفاهيم القرآنية السامية، والفوز بنيل حقائق الوحي التي أراد لها منزلها ان تكون رائد الهدى، وطريق السداد، ومعراج المسيرة الإنسانية إلى كمالها في السبحات الغامرة لوحي الله الخالد. من الطبيعي جدّاً في هذا الصدد التأكيد على عدم صواب الغفلة عن دور الحضور القلبي، وتأثير الشواهد الوجدانية في فهم المراد القرآني التي يقع الفكر في طليعة الأسباب الواصلة بفيوضها، وكم من فهم قرآني هو في أرقى درجات الاستكناه لخطاب السماء – كان مصدره الفؤاد الذي اتخذ مع معين الطهارة الباطنية، وتزكية النفس، وسيلته المثلى إلى ضالته المنشودة وهي الورود على ساحل الحقيقة القرآنية. على انّ هذه الأهمية البالغة للمعرفة القلبية لا يمكنها أبدا أن تكون ملزمة لما سوى من حباه الله بها، ولا يحق له أن يسوق الآخرين إلى التزام ما التزمه من الفهم القرآني بدواعيها والطافها، لأنّ الإنسان مجبول على أن لا يصدق إلا ما استوعبه عقله، ووثق به فكره، ومن هنا تكون منطقية تلك المعادلة التي تقول انّ درجة القبول للأفكار منوطة بمستوى فهمها واستيعابها، وعلى هذا لا يصح من الإنسان أن يرد كلاماً بلا دليل مقنع، ولا أن يقبل كلاماً بلا سلطان بين من البرهان، وهو كما يقع تحت طائلة المساءلة والمؤاخذة عند اعراضه عن قول بلا حجة منطقية، يكون معرّضاً لتلك المساءلة والمؤاخذة عند قبوله ذلك القول بغير الظهير المكين من الدليل المتين، ولهذه الأهمية المتميزة لدور الفكر في المسيرة الإنسانية ركز القرآن الكريم على ضرورة التزام الإنسان منحى العقل والمنطق في تدبر الحقائق وتشخيص المعالم، أليس هو القائل: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (يوسف/ 2)، والقائل: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (الزخرف/ 3). إنّ الله سبحانه قد حبا هذا الإنسان بمكرمة النهى ليفهم بها كل شيء حتى القرآن، وتأسيساً على هذا لا معنى لأن يتم ربط الفهم القرآني بحقبة زمنية معينة دون أخرى، ليكون اطلاق فهم عصر معيّن أو فرد محدد من غير المعصومين حجة على الآخرين ما دام لا يمتلك دليلاً قاطعاً، ولا برهاناً ساطعاً، ولذلك جعل الله سبحانه هلاك الناس ونجاتهم معصوبين بالدليل والبرهان: (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) (الأنفال/ 42)، وقد الزمهم أن لا يتحدثوا ويطرحوا وجهات نظرهم بلا حجة واضحة: (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (النمل/ 64). وان مما يجب التوجه إليه ما دمنا بصدد قضية الهلاك والنجاة ببينة البرهان كما تؤكد الآية الشريفة هو انّه إذا كان القرآن الكريم يعتبرهما تابعين للدليل، وهو يستقبح بشدة اطاعة السادات والكبراء، ويستهجن هذا العمل الشنيع، فإن مؤدى ذلك انّه لا يجوز التوجس من نقد أي كلام يصدر من الأكابر، ولا يصح قبول كل كلامهم على عوانه وان كان عارياً عن الدليل الرصين. انّ الكلام لا يكون متيناً الا حين يكون وثيقاً، ولا يكون الكلام حكيماً الا حين يكون موسوماً بالاستحكام، وليس الفرد هو الذي يهب الكلام وسام الشأنية، وانما الكلام هو الذي يزين الفرد بشارته وبهائه، وإذا أراد الإنسان أن يأمن الهلاك فما عليه الا أن يركن إلى قبول كلمة الحق  لسيدة، وان ينأى بنفسه عن ضدها ومن هنا نفهم ان كلام الحق والحكمة ممكن الوجدان في كل مكان، وهو ضالة المؤمن على طول المدى، فأينما وجده أخذه ولو من لسان المنافق. إنّ صميم ما تم ذكره فيما سلف يتجلى في أنّ العقل هو حجة الإنسان التي تفضي به حتى إلى قبول أصل الأصول وهو التوحيد، وان هناك حجج أخرى قد وضعت في متناول استنارته واستهدائه، أهمها القرآن الكريم الذي يستدعي إدراك عطائه التسديدي بذل منتهى الجد في فهمه والاحاطة بمراده، مع الأخذ بنظر الاعتبار ان ملاك الحقانية ليس في الكلام التليد، وان ملاك البطلان ليس من نصيب الكلام الطارف. ولو كانت الجدة علامة البطلان لما كان للتوراة أو الانجيل والزبور أو القرآن مجال لان تكون مضان لطف الله في هداية عباده، فلا ريب في ان كلا منهم جديد زمانه، وانّ الغابرين لم يفكروا بدلاً عنا، ولم يؤدوا وظائفنا العقلية، وانما نحن المسؤولين عن فكرنا ونشاطنا، نفكر بآليات فكرنا، ونعمل على أساس ذلك الفكر لصلاح واقعنا، ولكن هذا لا يعنى اننا يجب أن ننسى أو نتغافل ارث الأقدمين، وان عدم نسيانه لا يعني قبوله على كل حال ولو خلا من ميزة البرهان، وعلى هذا تكون وظيفتنا أن نباشر عملية التفكير والتحقيق لأنفسنا، ونبذل وسعنا في فهم الحقيقة القرآنية، وثقافة أسلافنا الميامين حولها بوسيلة البصيرة والاستدلال والتدبر المنير، وعلى هذا المسار الساعي إلى ان يعيننا على فهم مراد القرآن الحقيقي.   المصدر: مجلة الرياحين/العدد 63 لسنة 1432 هجري

ارسال التعليق

Top