• ٢٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٢٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

تركيب الفرد المسلم في واقعنا المعاصر

السيِّد محمّدباقر الصدر

تركيب الفرد المسلم في واقعنا المعاصر

◄كما توجد قدرات هائلة للدولة الإسلامية تنبع من تركيبها العقائدي كذلك تتميز بقدرات عظيمة أيضاً تنبع من التركيب العقائدي والنفسي والتاريخي لواقع إنسان العالم الإسلامي في يومنا الحاضر فإنّ أي نظام اجتماعي لا يمارس دوره في فراغ وإنما يتجسّد في كائنات بشرية وعلاقات قائمة بينهم وهو من هذه الناحية تتحدّد درجة نجاحه وقدرته على تعبئة إمكانات المجتمع وتفجير الطاقات الصالحة في أفراده تبعاً لمدى انسجامه إيجاباً أو سلباً مع التركيب النفسي والتاريخي لهؤلاء الأفراد.

ولا نقصد بذلك أنّ النظام الاجتماعي والإطار الحضاري للمجتمع يجب أن يجسّد التركيب النفسي والتاريخي لأفراد المجتمع ويحوّل نفس ما لديهم من أفكار ومشاعر إلى صيغ منظّمة فإنّ هذا لا يمكن أن يكون صحيحاً بالنسبة إلى مجتمعات العالم الإسلامي التي تشكو من أعراض التخلّف والتمزّق والضياع وتعاني من ألوان الضعف النفسي لأنّ تجسيد هذا الواقع النفسي المهزوم ليس إلّا تكريساً له واستمراراً في طريق الضياع والتبعية وإنما الذي نقصده أنّ أي بناء حضاري جديد لمجتمعات التخلّف هذه إذا كان يستهدف وضع أُطر سليمة لتنمية الأُمّة وتعبئة طاقاتها وتحريك كلّ إمكاناتها للمعركة ضد التخلّف فلابدّ لهذا البناء عند اختيار الإطار السليم أن يدخل في الحساب مشاعر الأُمّة ونفسيتها وتركيبها العقائدي والتاريخي وذلك لأنّ حاجة التنمية الحضارية إلى منهج اجتماعي وإطار سياسي ليست مجرد حاجة إلى إطار من أُطر التنظيم الاجتماعي ولا تكفي لسلامة البناء أن يدرس الإطار ويختار بصورة تجريدية ومنفصلة عن الواقع بل لا يمكن لعملية البناء أن تحقّق هدفها في تطوير الأُمّة واستنفار كلّ قواها ضد التخلّف إلّا إذا اكتسبت إطاراً يستطيع أن يدمج الأُمّة ضمنه حقّاً وقامت على أساس يتفاعل معها فحركة الأُمّة كلّها شرط أساسي لإنجاح أي عملية بناء حضاري جديد وأي معركة شاملة ضد التخلّف لأنّ حركتها تعبير عن نموها وإرادتها وانطلاق مواهبها الداخلية وحيث لا تنمو الأُمّة لا يمكن لأي منهج أو صيغ محنطة أن تغيّر من الواقع شيئاً.

(إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد/ 11).

فنحن حين نريد أن نختار منهجاً أو إطاراً عاماً لبناء الأُمّة واستئصال جذور التخلّف منها يجب أن نأخذ هذه الحقيقة أساساً ونفتش في ضوئها عن مركب حضاري قادر على تحريك الأُمّة وتعبئة كلّ قواها وطاقاتها للمعركة ضد التخلّف.

ولن تستطيع أي دولة أن تقدّم هذا المركب الحضاري لإنسان العالم الإسلامي سوى الدولة الإسلامية التي تتخذ من الإسلام أساساً لعملية البناء وإطاراً لنظامها الاجتماعي ونستعرض فيما يلي عدداً من النقاط التي تؤكّد ذلك وتبرهن على قدرات التحريك والبناء الهائلة التي بالإمكان توفيرها عن طريق الدولة الإسلامية.

أ- الإيمان بالإسلام

لا شك في أنّ إنسان العالم الإسلامي يؤمن بالإسلام بوصفه ديناً ورسالة من الله تعالى أنزلها على خاتم أنبيائه ووعد مَن اتبعها وأخلص لها بالجنّة وتوعّد المتمردين عليها بالنار وهذا الإيمان يعيش في الجزء الأعظم من المسلمين عقيدة باهتة فَقَدت عبر عصور الانحراف كثيراً من اتقادها وشعلتها وبخاصّة بعد أن دخل العالم الإسلامي عصر الاستعمار وعمل المستعمرون من أجل تذويب هذه العقيدة وتفريغها من محتواها الثوري الرشيد ومن أجل ذلك لم يعد المسلمون تعبيراً عن الأُمّة الإسلامية التي جعلها الله أُمّة وسطاً لتتولى الشهادة على العالم وكانت خير أُمّة أُخرجت للناس لأنّ الأُمّة الإسلامية ليست مجرد تجميع عددي للمسلمين، وإنما تعني تحمّل هذا العدد لمسؤوليته الربانية على الارض فالأُمّة الإسلامية مسؤولة داخلياً بأن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر أي بأن تحوّل عقيدتها إلى عملية بناء.

(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ) (آل عمران/ 110).

وقد جعل الإيمان بالله الخصيصة الثالثة للأُمّة الإسلامية بعد الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر تأكيداً على أنّ المعنى الحقيقي للإيمان ليس هو العقيدة المحنطة في القلب بل الشعلة التي تتّقد وتشع بضوئها على الآخرين والأُمّة الإسلامية مسؤولة خارجياً عن العالم كلّه بحكم كونها أُمّة وسطاً وشهيدة عليه.

(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) (البقرة/ 143).

فما لم يكن المسلمون على مستوى هاتين المسؤوليتين فلا أُمّة إسلامية بالمعنى الصحيح وما لم تتخذ العقيدة الإسلامية مركزها القيادي كأساس لممارسة هاتين المسؤوليتين في كلّ جوانب الحياة فلا رسالة إسلامية في واقع الحياة بالمعنى الصحيح.

وهذه العقيدة الإسلامية الباهتة تشكّل على الرغم من خفوتها وعدم اتقادها عاملاً سلبياً تجاه أي إطار حضاري أو نظام اجتماعي لا ينبثق فكرياً وإيديولوجياً من الإسلام لأنّها تؤمن ولو نظرياً على الأقل بأنّ كلّ إطار أو نظام لا يستمد قواعده من الإسلام فهو غير مشروع وهذا الإيمان حتى ولو لم يترجم إلى صيغ عملية محددة يشكّل موقفاً ورفضاً ضمنياً لكلّ عمليات التحريك الحضاري التي تمارسها تلك الأنظمة والمذاهب الاجتماعية وكثيراً ما ينجح أحد تلك الأنظمة والمذاهب في تسلم السلطة وقيادة المجتمع ولكنّه سرعان ما يجد نفسه بعد فترة قليلة مُرغماً على ممارسة ألوان من الإكراه إذ يدرك عجزه عن تجميع قوى الأُمّة تحت لوائه ما لم يمارس الإكراه وكلّما توغل في هذه الممارسة أكثر فأكثر ازدادت الأُمّة سلبية واقتناعاً بعدم شرعيته وهكذا يُبدد الجزء الأعظم من طاقات الأُمّة في عمليات الإكراه والاقناع المتوتر عصبياً من جانب وعمليات رد الفعل الصامت وما تستوجبه من جهد ومقاومة من جانب آخر.

ويختلف الموقف اختلافاً أساسياً حينما يواجه الناس أطروحة الدولة الإسلامية والنظام الإسلامي تحمّلها أُمّة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله إيماناً حيّاً مسؤولاً إذ سرعان ما تتحوّل تلك العقيدة الباهتة من عامل سلبي إلى عامل إيجابي في عملية البناء الحضاري الجديد لأنّ الناس يجدون حينئذ في أطروحة الإسلام تجسيداً عملياً لعقيدتهم ولئن كان الكثير من هؤلاء ليسوا على استعداد للتضحية وتحمّل الأذى في سبيل هذا التجسيد، فإنّهم عند تحقّقه يجدون فيه أملهم الكبير وعقيدتهم المقدّسة وطموحهم الديني وسرعان ما يلتحمون معه التحاماً روحياً كاملاً وسرعان ما تتحوّل تلك العقيدة الباهتة إلى عقيدة مشعة مُمتلئة حيوية وحركة ونشاطاً وهكذا تجنّد طاقات الأُمّة في عملية البناء الكبير بدون إكراه بل بروح الإيمان والإخلاص.

وتكفي بعض الأمثلة الصغيرة لتوضيح أبعاد هذا التحوّل المرتقب فالإسلام في ظل العقيدة الباهتة كان قادراً باستمرار أن يقنع الملايين من المسلمين بدفع الفرائض المالية المترتبة عليهم طواعية مع أنّ هؤلاء أنفسهم يتهربون بمختلف الوسائل عن دفع الضرائب الرسمية مع ما تتمتع به من إلزام قانوني وعقوبات صارمة للمتخلفين عن دفعها فما ظنّكم بمدى قدرة الإسلام على تأمين دفع ضرائب الدولة الإسلامية ومتطلبات عمليات التنمية حينما يتم أخذ هذه الضرائب والمتطلبات باسم الإسلام.

والإسلام في ظل العقيدة الباهتة أثبت قدرته مرّات عديدة على أن يجمع بطريقة عفوية وباسم الجهاد وتحت راية الإسلام أعداداً هائلة من المقاتلين الذين يلبّون الدعوة استجابة لعقيدتهم الدينية بينما نرى أنّ الدولة الاعتيادية لا تستطيع أن تجمع هذه الأعداد لأي معركة إلّا باستعمال أقسى أساليب الضبط والسيطرة فما ظنّكم بهذا الإسلام إذ امتلك القيادة الاجتماعية في الأُمّة؟ وما هو التحوّل العظيم الذي سوف ينجزه في مجال تعبئة الطاقات القتالية للأُمّة؟

وبقيام الدولة الإسلامية يوضع حدّ لمأساة الانشطار والتجزئة في كيان الفرد المسلم التي تفرض عليه ولاءات متعارضة في حياته فإنّ المسلم الذي يعيش في ظل أنظمة تتعارض مع القرآن والإسلام يجد نفسه في كثير من الأحيان مضطراً إلى ممارسة التناقض في حياته باستمرار إذ يرفض في المسجد وبين يدي الله ما يمارسه في المتجر أو المعهد أو المكتب ويرفض في حياته العملية ما يقدّسه في المسجد ويعاهد الله على الوفاء به ويظل في دوامة هذه الولاءات المتعارضة لا يجد حلاً للتناقض إلّا بالتنازل عن المسجد فيقاسي فراغاً روحياً يهدده وبالتالي يهدّد المجتمع بالانهيار أو بالتنازل عن دوره في الحياة العامّة وبهذا يتحوّل إلى طاقة سلبية ويفقد المجتمع بالتدريج قدرات أطهر أبنائه وأنظف أفراده؛ ولكن إذا قامت الدولة الإسلامية واتحدت الأرض مع السماء والمسجد مع المكتب ولم يكن الدعاء في المسجد تهرباً من الواقع بل تطلعاً إلى المستقبل ولم تكن ممارسة الواقع منفصلة عن المسجد بل مستمدة من روحه العامّة فسوف تعود إلى الإنسان وحدته الحقيقية وانسجامه الكامل ويؤدي به ذلك إلى الإخلاص في دوره والصبر على متاعب الطريق.

ب- وضوح التجربة والارتباط العاطفي بتأريخها

إنّ أهم عامل يدفع الإنسان إلى البذل والعطاء للدعوة إلى بناء جديد هو أن تقدّم له هذه الدعوة مثالاً واقعياً واضحاً للبناء الذي تدعوه إلى المساهمة في تشييده، ومن هنا كانت الدعوات التي تستورد أمثلتها ومُثلها العليا من تجارب عاشت أو تعيش خارج نطاق العالم الإسلامي وتاريخ المسلمين تواجه صعوبة كبيرة في إعطاء رؤية واضحة للفرد المسلم عن مثلها الأعلى ومثالها الذي تحتذيه وتدعو إلى تجسيده بين المسلمين لأنّه غريب عنهم لا يملكون عنه إلّا رُؤى باهتة ومتهافتة. فالديمقراطية والاشتراكية والمادّية والشيوعية وما إلى ذلك من المذاهب والاتجاهات الاجتماعية مارسها الإنسان خارج العالم الإسلامي وتجسّدت في أشكال مختلفة واتخذت صيغاً متفاوتة؛ ولهذا فهي لا توحي إلى الفرد المسلم بصورة محددة واضحة المعالم، بل إنّه يجد أشد الحكومات تعسفاً ودكتاتورية تحمل كلمة الديمقراطية كجزء من اسم الدولة ويجد أشد الحكومات دوراناً في الفلك الاشتراكي تعاني من تمييزات لا حد لها ويجد المثل الأعلى لأُمّة من الناس يتهاوى بعد ذلك ويكفر به أولئك الناس أنفسهم وإذا بستالين الذي ألهّه شعبه يطرد من الجنّة بعد موته وتنتزع منه أوسمة المجد وإذا بـ(ماو) يتحوّل في أقل من ربع قرن من مطلق في مقاييس الثوريين إلى رجل تجب مراجعته من جديد.

إنّ كلّ هذا التنوّع في مجال الممارسة لتلك المفاهيم والشعارات، وكلّ هذا القلق في تقييم الممارسات والممارسين لا يساعد الفرد المسلم على أن يحدّد في نفسه مثالاً واضحاً وصورة دقيقة لما يراد منه أن يساهم في بنائه بعرقه ودمه وحياته.

وعلى العكس من ذلك الدولة الإسلامية فإنّها تقدّم للفرد المسلم مثالاً واضحاً لديه وضوح الشمس قريباً من نفسه مُندمجاً مع أعمق مشاعره، وعواطفه مستمداً من أشرف مراحل تاريخه وأنقاها وأعظمها تألقاً وإشعاعاً وأي مسلم لا يملك صورة واضحة عن الحكم الإسلامي في عصر الرسول وفي خلافة الإمام عليّ (ع)، وفي معظم الفترة الممتدة بينهما وأي مسلم لا تهزه أمجاد تلك الصورة وروعتها وأي مسلم لا يشعر بالزهو والاعتزاز إذا أحسن بعُمق أنّه يعيد إلى الدنيا من جديد أيام محمّد وعليّ وأيام أصحاب محمّد الميامين ملأوا الدنيا عدلاً ونوراً.

إنّ الدولة الإسلامية لا تسير بالناس من ظلام ولا تلوح بيدها إلى نقاط بعيدة يعجز الفرد المسلم عن إبصارها بوضوح ولا تزج به في مجموعة من المتناقضات التي تحمل شعاراً واحداً ولا تتفق على محتواه.

إنّ الدولة الإسلامية تسير بالناس في النور وتلوح بيدها إلى القمة التي لا يوجد مسلم لا يراها أو لا يملك صورة محددة عنها وهذا يجعل الفرد المسلم في إطار التعبئة الحضارية الإسلامية مُطمئناً إلى طريقة واثقاً بهدفه وقادراً في نفس الوقت على تمييز سلامة المسيرة أو الإحساس بانحرافها لأنّ المثال والمثل الأعلى ما دام واضحاً لديه فهو يملك المقياس الموضوعي الذي يحكم على أساسه باستقامة المسيرة أو انحرافها وهذا كلّه يهيء الجوّ النفسي للاستجابة الكاملة لعملية البناء الكبير وتعبئة كلّ فرد لطاقاته في هذا السبيل لا بوصفه آلة تسير وفقاً للخطة، بل بوصفه واعياً على الخطّة مُدركاً معالمها ومثلها الأعلى في واقع الحياة.

ج- نظافة التجربة وعدم ارتباطها بالمستعمرين

إنّ الأُمّة في العالم الإسلامي عانت من الاستعمار ألواناً من الغدر والمكر والالتفاف منذ وطأ الرجل الأبيض الغربي أرضنا الطاهرة بأسلحته وأفكاره ومناهجه وبلّورت لديها هذه المُعاناة المريرة شعوراً نفسياً خاصاً تعيشه تجاه الاستعمار يتسم بالشك والاتّهام ويخلق نوعاً من الانكماش لدى الأُمّة عن المعطيات التنظيمية للإنسان الأوروبي وشيئاً من القلق تجاه الأنظمة المستمدة من الاوضاع الاجتماعية في بلاد المستعمرين وحساسية شديدة ضدها وهذه الحساسية تجعل تلك الأنظمة حتى لو كانت صالحة ومستقلة عن الاستعمار من الناحية السياسية غير قادرة على تفجير طاقات الأُمّة وقيادتها في معركة البناء فلابدّ للأُمّة إذن بحكم ظروفها النفسية التي خلقها عصر الاستعمار وانكماشها تجاه ما يتصل به أن يقيم نهضتها الحديثة على أساس نظام اجتماعي ومعالم حضارية لا تمت إلى بلاد المستعمرين بنسب.

وهذه الحقيقة الواضحة هي التي جعلت عدداً من التكتلات السياسية في العالم الإسلامي تفكّر في اتّخاذ القوميات المختلفة لشعوب العالم الإسلامي فلسفة وقاعدة للحضارة وأساساً للتنظيم الاجتماعي. وبذلت جهوداً كثيرة في محاولة لتطوير العرق القومي حرصاً منهم على تقديم شعارات ثورية منفصلة عن الكيان الفكري للاستعمار. والقومية رابطة تاريخية ولغوية وليست فلسفة وعقيدة، بل حيادية بطبيعتها تجاه الفلسفات والمذاهب الاجتماعية والعقائدية والدينية وهي لذلك بحاجة إلى الأخذ بوجهة نظر معينة تجاه الكون والحياة وفلسفة خاصّة تصوغ على أساسها معالم حضارتها ونهضتها وتنظيمها الاجتماعي.

وهنا برز فارق كبير بين مناهج الإنسان الأوروبي والغربي التي ترتبط في ذهن الأُمّة بإنسان القارتين المستعمرتين مهما وضعت لها من إطارات وألوان ظاهرية وبين المنهج الإسلامي الذي يتمتع بنظافة مطلقة من هذه الناحية لأنّه لا يرتبط في ذهن الأُمّة بتاريخ أعدائها بل بتاريخ أمجادها الذاتية ويُعبّر عن أصالتها ولا يحمل بصمات أصابع المستعمرين فإنّ شعور الأُمّة بهذه النظافة في الإسلام، وبأنّ الإسلام هو تعبيرها الذاتي وعنوان شخصيتها التاريخية ومفتاح أمجادها السابقة والحقيقة التي بذل المستعمرون كلّ وسائلهم في سبيل تشويهها، إنّ شعور الأُمّة بكلّ ذلك يُعتبر عاملاً ضخماً جدّاً لانفتاحها على عملية البناء الحضاري التي تقوم على أساس الإسلام وثقتها بهذا البناء وبالتالي تحقيق المزيد من المكاسب في المعركة ضد التخلف.

أضف إلى هذا أنّ عملية البناء لن تبدأ من الصفر لأنّها ليست غريبة على الأُمّة بل لها جذور تاريخية ونفسية ومرتكزات فكرية بينما أي عملية بناء أخرى تنقل مناهجها بصورة مصطنعة أو مهذبة من وراء البحار لكي تطبّق على العالم الإسلامي سوف تضطر إلى الابتداء من الصفر والامتداد بدون جذور.

د- امتصاص المحافظين لحركة البناء الجديد

إنّ أي حركة تجديد في العالم الإسلامي تصطدم حتماً بعدد كبير من الأعراف والسنّن الاجتماعية والتقاليد السائدة التي اكتسبت على مر الزمن درجة من التقديس الديني وأصبح من المستحيل بالنسبة إلى جزء كبير من الأُمّة أن يتخلى عنها بسهولة وهذا يؤدي بكلّ حركة تجديد تستهدف بناء الأُمّة من جديد إلى مواجهة توتر نفسي كرد فعل على ما تمارسه من عملية التغيير وتحفز ديني للمعارضة وصمود في وجه القيم والمفاهيم الجديدة.

وحركة التجديد في هذه الحالة تكون بين خيارين فإمّا أن تحاول استئصال الجذور النفسية لهذا التحفز الرافض والتوتر الصامد باقتلاع العقيدة الدينية من النفوس باعتبارها الأساس التقليدي لمشاعر المحافظة والتمسك بالتقاليد، وإمّا أن تحاول فصل الدِّين عن هذه التقاليد وتوعية الجماهير على حقيقة الدِّين ودوره في الحياة، والخيار الأوّل لا يحل المشكلة بل يزيدها تعقيداً إذ سوف تسفر الحركة التجديدية عن وجهها العدائي الصريح للدِّين وتطرح نفسها كبديل عنه وهذا - بقطع النظر عن التقييم الموضوعي للدِّين - يكلّف عملية البناء جهداً كبيراً ويبدد طاقات هائلة ويعرّضها لأشد الأخطار من قبل الجزء الأعظم المحافظ في الأُمّة، وأمّا الخيار الثاني فهو ليس عملياً بالنسبة إلى حركة التجديد التي تقوم على أُسس علمانية وترتبط بأيديولوجية لا تمت إلى الإسلام بصلة لأنّ حركة من هذا القبيل لا هي قادرة على تفسير الإسلام تفسيراً صحيحاً ولا هي قادرة على إقناع الجزء الأعظم من الناس بوجهة نظرها في تفسير الإسلام ما دامت لا تملك أي طابع شرعي يبرر لها أن تكون في موقع التفسير للإسلام ومفاهيمه وأحكامه.

وعلى العكس من ذلك حركة التجديد التي تقوم على أساس الإسلام وترتبط ارتباطاً وثيقاً بمصادره الحقيقية في الأُمّة، وتجسّد هذا الإسلام في دولة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فإنّ هذه الحركة قادرة على امتصاص الجزء الأعظم من المحافظين لمصلحة البناء والتجديد، لأنّها بحكم إدراكها العميق للإسلام ووعيها الثوري عليه قادرة على تفسير الإسلام، والتمييز بينه وبين السنّن والأعراف الاجتماعية التي خلقتها العادات والتقاليد، ومختلف العوامل والمؤثرات المتحركة في المجتمع كما أنّها بحكم ارتباطها بالمصادر الشرعية للإسلام في الأُمّة، وبحكم ما تمارسه بوضوح من خطوط الإسلام الصالحة التي تجمع الأُمّة على إسلاميتها، كتحريم الخمر وتنفيذ فريضة الزكاة وأمثال ذلك تكون قادرة على إقناع الأُمّة، والجزء الأعظم من المحافظين فيها بالتفسير الصحيح للإسلام وفصله عن كلّ أوضاع التخلف من عادات وسنّن وأخلاق، وبهذا تتحوّل كثير من الطاقات السلبية إلى طاقات إيجابية في عملية البناء، فمثلاً أوضاع التخلف التي تسيطر على المرأة المسلمة وعلى علاقاتها بمجتمعها وبالرجال بدلاً من محاربتها على أساس مفاهيم خلع الحجاب ومواقف الحضارة الغربية من علاقات المرأة بالرجل. الأمر الذي يصنف الجزء الأعظم من أفراد الأُمّة في الصف المعارض يجب أن تحارب على أساس ديني وانطلاقاً من توعية المسلمين على التمييز بين الأعراف والأوضاع الاجتماعية التي سببت هذا التخلّف للمرأة وبين الإسلام الذي لا صلة له بتلك الأعراف.

وعن هذا الطريق يمكن أن نصحح القيم الخلقية الدينية التي اكتسبت طابعاً سلبياً من خلال أوضاع التخلف ونحوّلها من طابعها السلبي إلى طابعها الإيجابي الإسلامي الصالح، فالصبر مثلاً قيمة خلقية إسلامية عظيمة؛ ولكنّه اتخذ طابعاً سلبياً نتيجة لأوضاع التخلف في العالم الإسلامي، فأصبح الصبر عبارة عن الاستكانة وتحمل المكاره بروح اللامبالاة، وعدم التفاعل مع قضايا الأُمّة الكبيرة وهمومها العظيمة، ولن تستطيع الأُمّة أن تحقق نهضة شاملة في حياتها ما لم تغيّر مفهومها عن الصبر وتؤمن بأنّ الصبر هو الصبر على أداء الواجب وتحمّل المكاره في سبيل مقاومة الظلم والطغيان والترفع عن الهموم الصغيرة من أجل الهموم الكبيرة.

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) (آل عمران/ 142).

(وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) (آل عمران/ 146).

ولن يستطيع أي مذهب اجتماعي سوى الإسلام نفسه أن يعيد الصبر إلى نصابه ويبني أُمّة صابرة بالمفهوم الإسلامي الصحيح.

هـ- التطلّع إلى السماء ودوره في البناء

يختلف الإنسان الأوروبي عن الإنسان الشرقي اختلافاً كبيراً فالإنسان الأوروبي بطبيعته ينظر إلى الأرض دائماً لا إلى السماء، وحتى المسيحية - بوصفها الدين الذي آمن به هذا الإنسان مئات السنين - لم تستطع أن تتغلب على النزعة الأرضية في الإنسان الأوروبي، بل بدلاً عن أن ترفع نظره إلى السماء استطاع هو أن يستنزل آله المسيحية من السماء إلى الأرض ويجسده في كائن أرضي.

وليست المحاولات العلمية للتفتيش عن نسب الإنسان في فصائل الحيوان وتفسير إنسانيته على أساس التكييف الموضوعي من الأرض والبيئة التي يعيش فيها أو المحاولات العلمية لتفسير الصرح الإنساني كلّه على أساس القوى المنتجة التي تمثّل الأرض وما فيها من إمكانات ليست هذه المحاولات إلّا كمحاولة استنزال الآله إلى الأرض في مدلولها النفسي، وارتباطها الأخلاقي بتلك النظرة العميقة في نفس الإنسان الأوروبي إلى الأرض، وأن اختلفت تلك المحاولات في أساليبها وطابعها العلمي أو الأسطوري، وهذه النظرة إلى الأرض أتاحت للإنسان الأوروبي أن ينشيء قيماً للمادّة والثروة والتملك تنسجم مع تلك النظرة.

وقد استطاعت هذه القيم التي ترسخت عبر الزمن في الإنسان الأوروبي أن تُعبّر عن نفسها في مذاهب اللذة والمنفعة التي اكتسحت التفكير الفلسفي الأخلاقي في أوروبا، فإنّ لهذه المذاهب بوصفها نتاجاً فكرياً أوروبياً سجّل نجاحاً كبيراً على الصعيد الفكري الأوروبي لها مغزاها النفسي ودلالتها على المزاج العام للنفس الأوروبية.

وقد لعبت هذه التقييمات الخاصّة للمادّة والثروة والتملك دوراً كبيراً في تفجير الطاقات المختزنة في كلّ فرد من الأُمّة، ووضع أهداف لعملية البناء والتنمية تتفق مع تلك التقييمات، وهكذا سرت في أوصال الأُمّة حركة دائبة نشيطة مع مطلع الاقتصاد الأوروبي الحديث لا تعرف الملل أو الارتواء من المادّة وخيراتها وتملّك تلك الخيرات.

وبنفس الدرجة التي استطاعت النظرة إلى الأرض لدى الإنسان الأوروبي أن تفجر طاقاته في البناء أدّت أيضاً إلى ألوان التنافس المحموم على الأرض وخيراتها ونشأت أشكال من استغلال الإنسان لأخيه الإنسان لأنّ تعلق هذا الكائن بالأرض وثرواتها جعله يضحي بأخيه ويحوّله من شريك إلى أداة.

وأمّا الشرقيون فأخلاقيتهم تختلف عن أخلاقية الإنسان الأوروبي نتيجة لتاريخهم الديني، فإنّ الإنسان الشرقي الذي ربّته رسالات السماء، وعاشت في بلاده ومرّ بتربية دينية مديدة على يد الإسلام، ينظر بطبيعته إلى السماء قبل أن ينظر إلى الأرض، ويؤخذ بعالم الغيب قبل أن يؤخذ بالمادّة والمحسوس.

وافتتانه العميق بعالم الغيب قبل عالم الشهادة هو الذي عبّر عن نفسه على المستوى الفكري في حياة المسلمين باتجاه الفكر في العالم الإسلامي إلى المناحي العقلية من المعرفة البشرية دون المناحي التي ترتبط بالواقع المحسوس.

وهذه الغيبية العميقة في مزاج الإنسان الشرقي المسلم حدّدت من قوة إغراء المادّة للإنسان المسلم وقابليتها لإثارته الأمر الذي يتجه بالإنسان في العالم الإسلامي حين يتجرد عن دوافع معنوية للتفاعل مع المادّة وإغرائه باستثمارها إلى موقف سلبي تجاهها يتخذ شكل الزهد تارة والقناعة أخرى والكسل ثالثة.

ولكن إنما يمكن أن تؤدي نظرة إنسان العالم الإسلامي إلى السماء قبل الأرض إلى موقف من هذه المواقف السلبية إذا فصلت الأرض عن السماء، وأمّا إذا ألبست الأرض إطار السماء وأعطي العمل مع الطبيعة صفة الواجب ومفهوم العبادة، فسوف تتحول تلك النظرة الغيبية لدى الإنسان المسلم إلى طاقة محرّكة وقوّة دفع نحو المساهمة بأكبر قدر ممكن في رفع مستوى الحياة وهذا بالضبط ما تصنعه الدولة الإسلامية فإنّها لا تنتزع من الإنسان نظرته العميقة إلى السماء وإنما تعطي له المعنى الصحيح للسماء وتسبغ طابع الشرعية والواجب على العمل في الأرض بوصفه مظهراً من مظاهر خلافة الإنسان لله على الكون، وبهذا تجعل من هذه النظرة طاقة بناء وفي نفس الوقت تحتفظ بها كضمان لعدم تحوّل هذه الطاقة من طاقة بناء إلى طاقة استغلال.

فالمسلمون الذين يمارسون إعمار الأرض بوصفها جزءاً من السماء التي يتطلعون إليها ويساهمون في تنمية الثروة باعتبارهم خلفاء عليها أبعد ما يكونون عن الزهد السلبي الذي يقعد بالإنسان عن دوره في الخلافة وأقرب ما يكونون إلى الزهد الإيجابي الذي يجعل منهم سادة للدنيا لا عبيداً لها ويحصنهم ضد التحول إلى طواغيت لاستغلال الآخرين.

(الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ) (الحجر/ 41). ►

 

المصدر: مجلة الحوار الفكري السياسي/ العدد33 لسنة 1986م.

ارسال التعليق

Top