• ٣ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٤ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الرياضات الروحية

ضياء الدين أحمد

الرياضات الروحية
    إنّ النفس الإنسانية تتعرض إلى حالات فتور في عبادتها وضعف في استجابتها أحياناً، وانها تمل وتسوف وتتباطأ أحياناً في مقام العبادة. وهي كما يصفها الشاعر البوصيري:

والنفس كالطفل أن تتركه شب على       حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم

وكما انّ الأبدان تنمو وتقوى بممارسة التمارين الرياضية والاستمرار عليها، فيتعافى بواسطتها الجسد وتكبر العضلات وتشتد، ويكون هذا الجسد قادراً على تحمل العمل الشاق والمجهد، كذلك النفس فإنها تقوى وتشتد وتنمو وتتهذب وتزكو بالارتياض.

وقد أوجد الإسلام في وسائله لتربية النفس وتزكيتها أساليب وطرق عديدة للرياضات النفسية التي يمكن أن تزكو بها النفس وحث في الأخذ بها والعمل وفقها ووعد الله تعالى فاعلها بنعيم عظيم في الدنيا والآخرة.

وفي كل الديانات الأرضية "كالبوذية والبرهمية مثلاً" والسماوية كالمسيحية واليهودية، يوجد تركيز كبير على الرياضات الروحية باعتبارها طريقاً لتهذيب النفس، واعتبرت هذه الأديان مسألة الرياضات الروحية من أهم الأعمال التي يجب على الإنسان القيام بها ليسعد في الدنيا في الأديان الأرضية وليسعد في الدنيا والآخرة في الأديان السماوية.

ولكن الفارق كبير بين المفهوم الإسلامي للرياضات هذه وبين مفاهيم تلك الأديان من حيث الكم والكيف.

ففي تلك الأديان المنحرفة غير الإسلام يكون هدف الرياضات الروحية قتل الغرائز لدى الإنسان والقضاء عليها وكذلك تكون طرقها وأساليبها عنيفة جدّاً ولا تنسجم مع الفطرة وطبيعة النفس الإنسانية، وتعزل الإنسان عن ممارسة دوره في الحياة على الساحة الاجتماعية وتعتبر هذه العزلة والابتعاد عن المجتمع وعدم التفاعل معه أو الاقتراب منه من أهم الفضائل التي يجب أن يبدأ بها المرتاض حتى يتمكن من تحقيق هدفه.

وانّ الكتب المقدسة لهذه الديانات مشحونه بتفاصيل ذلك.

بينما في الإسلام رسالة الله الخاتمة والخالدة تكون هذه الرياضات من أجل تهذيب الغريزة وتنظيم عملها وفقاً لمقتضات الفطرة لأنّ الإسلام دين الفطرة.

وهذه الرياضات تنفذ بطريقة منسجمة مع طبيعة النفس الإنسانية، وإمكاناتها، قال تعالى:

(لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا) (البقرة/ 286).

وتسعى هذه الرياضات لأن يمارس المرتاض المسلم دوره الفاعل في الحياة الإنسانية ووظيفته الكاملة على الصعيد الاجتماعي باعتباره حاملاً لمشعل السماء لهداية الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور، ويعتبر الإسلام أولئك المسلمين الذين يمارسون الرياضات الروحية وينعزلون بها عن ممارسة دورهم على الساحة الاجتماعية يعتبرهم منحرفين عن الخط الرسالي الأصيل ومخالفين لسنة سيد المرسلين كما انّه يعتبر الذين يمارسون الأنواع العنيفة والشاقة من الرياضات الروحية والتي تحطم الغرائز وتقتلها منحرفين كذلك.

فقد روي عن الإمام علي (ع) انّه قال:

"إنّ جماعة من الصحابة كانوا قد حرّموا على أنفسهم النساء والإفطار بالنهار والنوم بالليل فأخبرت أم سلمة رسول الله (ص) فخرج إلى أصحابه فقال: أترغبون عن النساء؟ فإني آتي النساء، وآكل بالنهار وأنام بالليل فمن رغب عن سنتي فليس مني".

هذه هي نظرة الإسلام للرياضات، وطريقته في أدائها، والآن ما هي هذه الرياضات الروحية التي حث عليها الإسلام وطلب من المسلمين عامه القيام بها لتهذيب أنفسهم؟!

إنّ من أهم هذه الرياضات:

أ) الاعتكاف: وهو عبادة إسلامية ورد الحث الكبير على فعلها وكان الرسول وأهل بيته (عليهم السلام) يفعلونها، فقد روي عن الإمام الصادق (ع) انّه قال: "اعتكف رسول الله (ص) في شهر رمضان في العشر الأوّل ثمّ اعتكف في الثانية في العشر الوسطى، ثمّ لم يزل يعتكف في العشر الأواخر". وقال (ع) أيضاً: "كان رسول الله (ص) إذا دخل العشر الأواخر (يعني من شهر رمضان) اعتكف في المسجد، وضربت له قبة من شعر، وشمّر الميزر، وطوى فراشه وقال بعضهم، واعتزل النساء! قال (ع): أما اعتزال النساء فلا". وقال تعالى: (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (الحج/ 26).

وللاعتكاف شروط هي: الإيمان، العقل، نية التقرب إلى الله، الصوم، أن يكون في المسجد الجامع أو مسجد البلد العام ولا يصح بمسجد الحي أو الأسرة، وأن لا يقل عن ثلاثة أيّام، وأن يكون المعتكف دائم الوجود في المسجد طيلة فترة الاعتكاف.

وللاعتكاف آداب وتفاصيل محلها كتب الفقه المعروفة فمن أراده فليراجعه في محل.

ب) الصوم: والمقصود هنا هو الصوم المستحب وليس الواجب لأنّ ترك الواجب يوجب عقاب النار، فقد ورد الحث الكبير على الصوم المندوب وكان ذلك من سنة أهل البيت (عليهم السلام)، حيث روي عن محمّد بن مروان قال سمعت أبا عبدالله (ع) يقول: "كان رسول الله (ص) يصوم حتى يقال: لا يفطر، ويفطر حتى يقال: لا يصوم، ثمّ صام يوماً وأفطر يوماً، ثمّ صام الاثنين والخميس، ثمّ آل من ذلك إلى صيام ثلاثة أيام في الشهر: الخميس في أوّل الشهر، والأربعاء في وسط الشهر، والخميس في آخر الشهر، وكان (ص) يقول: ذلك صوم الدهر".

ومن الصيام المستحب صيام شهري رجب وشعبان.. وغيره مذكور في محله.

ج) الصلوات النوافل وبالأخص قيام الليل: لكلِّ صلاة من الصلوات اليومية الواجبة نافلة، فنافلة الصبح مثلاً ركعتان تؤدى قبل أدائها ولكلِّ صلاة يومية أخرى نافلة.. ومن الصلوات المستحبة صلاة جعفر بن أبي طالب (رض) وصلوات أخرى كثيرة مذكورة في مظانها من كتب الفقه وأعمال الأيّام والليالي، ولكن من أهم هذه النوافل هي صلاة الليل التي تؤدى بعد منتصف الليل ومما ورد في فضلها قوم الإمام الصادق (ع): "شرف المؤمن قيام الليل وعزه استغناؤه عن الناس" وروي عن الرسول الأكرم (ص) قوله: "ما تجرع عبد جرعتين أحب إلى الله من جرعة غيظ ردها بحلم وجرعة مصيبة يصبر الرجل لها، ولا قطرة بقطرة أحب إلى الله تعالى من قطرة دم أهريقت في سبيل الله وقطرة دمع في سواد الليل وهو ساجد ولا يراه إلا الله...".

د) الإقلال من النوم والطعام والاكتفاء بما يسد الحاجة فقط: قال الإمام الصادق (ع):

"طوبى لعبد جاهد نفسه وهواه، ومن هزم جند هواه ظفر برضاء الله، ومن جاوز عقله نفسه الأمارة بالسوء بالجهد والاستكانة والخضوع على بساط خدمة الله – تعالى – من النفس والهوى، وليس لقتلهما وقطعهما سلاح وآلة مثل الافتقار إلى الله، والخشوع، والجوع والظمأ بالنهار، والسهر بالليل، فإن مات صاحبه مات شهيداً، وإن عاش واستقام عاقبته إلى الرضون الأكبر، قال الله – عزّ وجلّ –: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت/ 69). كما انّ كثرة الطعام والنوم لهما أضرار من الناحية الصحية على الجسد، كذلك لهما آثار سلبية على النفس فلابدّ للمرتاض الذي يجاهد نفسه ويريد أن يزكيها أن يقلل نومه وطعامه ويكتفي بأقل ما يمكنه منهما.

 

المصدر: كتاب نظرات في تزكية النفس

ارسال التعليق

Top