• ٣ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٤ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

«تربية القابليات»

مرتضى مطهري

«تربية القابليات»
   إنّ التعاليم الإسلامية تشير إلى أنّ هذه المدرسة الإلهية المقدسة تهتم اهتماماً بليغاً بكلّ أبعاد الإنسان الجسمية والروحيّة، المادية والمعنويّة، الفكرية والعاطفيّة، الفردية والاجتماعيّة، ولم تكن لم تهمل أي جانب منها فحسب، بل انّها كانت تعتني بصورة خاصة بتربيتها جميعاً على أساس خاص. ونشير هنا بصورة مجملة إليها جميعاً:

 

تربية الجسم:

قد شجب الإسلام بشدة "تربية البدن" بمعنى "تربية النفس" وحب الشهوة ولكنه اعتبر تربية الجسم بمعنى المحافظة على سلامته وصحته من الواجبات واعتبر كلّ عمل من الأعمال الضارة بالجسم حراماً. ويسقط الإسلام التكليف بأمر واجب "كالصوم" إذا ظهر انّه مضر بالجسم أحياناً بل يعتبر مثل هذا الصوم حراماً، وكلّ إدمان يضرّ بالجسم حرام في نظر الإسلام، وقد وضع كثير من الآداب والرسوم في الإسلام رعاية للصحة وسلامة الجسم.

ومن الممكن ألا يميز البعض بين "تربية الجسم" التي هي أمر صحي وبين "تربية البدن" بمعنى تربية النفس والهوى والتي هي أمر خلقي، ويتصوروا أنّ الإسلام يخالف تربية الجسم، يخالف صحة الجسم، إذاً فعدم الاهتمام بالمحافظة على السلامة، والأعمال المضرة بصحة الجسم وسلامته تعتبر عملاً أخلاقياً في نظر الإسلام. وهذا خطأ فاحش خطير. فأين تقوية الجسم وسلامته وصحته من تربية البدن وإراحته؟

إنّ تربية النفس والهوى وحب الشهوة الذي يشجبه الإسلام فهو كما أنّه مخالف لتربية الروح ويؤدي إلى مرضها، فهو يخالف لصحة الجسم وتربيته الصحيحة أيضاً، ويؤدي إلى المرض الجسمي لأنّ حب النفس والشهوة يؤدي إلى الإفراط، والإفراط مصدر الاختلالات الأساسية في الأجهزة البدنية.

 

تربية الروح:

إنّ تربية العقل والفكر والحصول على الاستقلال الفكري ومكافحة الأمور المخالفة لاستقلال العقل مثل تقليد الأجداد، والأكابر والشخصيات، وسلوك الأكثرية وأمثال هذه الأمور أصبحت موضع اهتمام الإسلام جدّاً.

فتربية الإرادة وتملك النفس والحرية المعنوية من حكومة الرغبات المطلقة هي أساس كثير من العبادات الإسلامية وسائر التعاليم الإسلامية. فتربية الشعور بالبحث عن الحقيقة وطلب العلم تربية العواطف الخلقية، تربية الشعور بالجمال، تربية الشعور بالعبادة كلّ هذه الأمور أصبح موضع اهتمام الإسلام السديد.

 

دور الإنسان المؤثر في بناء مستقبله:

تنقسم موجودات العالم إلى كائنات حية وغير حية، فالموجودات غير الحية لا دور لها في بناء أنفسها أبداً، فالماء والتراب والحجر والنار لا روح لها ولا دور لها في تكوين أنفسها أو تكميلها بل تتكوّن بمجرد وقوعها تحت عوامل التأثير الخارجية، وتكتسب أحياناً نوعاً من الكمال تحت تأثير نفس العوامل، ولم تشاهد في هذه الموجودات أي سعي ونشاط من أجل بناء أنفسها أو تجليتها.

ولكن الكائنات الحية كالنبات والحيوان والإنسان يشاهد فيها سلسلة من الجهود من أجل حفظ أنفسها وصيانتها من الآفات، ومن أجل جذب المواد الأخرى، ومن أجل الإنتاج والنسل.

ويوجد في النباتات عدد من القوى الطبيعية لها الأثر في بناء مستقبلها، وتوجد فيها قوة أوقوى تجذب المواد من الأرض أو الهواء، وقوة أوقوى تنميها من الداخل عن طريق المواد المجذوبة وقوة أوقوى تمكن فيها توليد المثل.

ويوجد في الحيوان جميع هذه القوى مضافة إلى عدد من القوى الشعورية كحس الباصرة والسامعة واللامسة وغير ذلك وأمثال الميول التي ذكرت آنفاً. والحيوان يحافظ على نفسه بهذه القوى من الأذى والآفات من جهة، ويهيء موجبات نموه الفردي وبقاء نوعه من جهة أخرى.

ويوجد في الإنسان جميع القوى الطبيعية والقوى الشعورية الموجودة في النبات والحيوان مضافة إلى عدد من الميول الإضافية التي شرحناها آنفاً مضافة إلى قوة العقل والإرادة الخارقة التي تسلم تقرير مصيره بيده إلى حد كبير، فيختار مستقبله بنفسه ويصنعه.

ويتضح مما قيل أنّ بعض الموجودات لا دور لها في بناء أنفسها أبداً (الجمادات).

والبعض الآخر له دور في بناء مستقبله إلّا أنّ هذا الدور لا يصدر عن وعي وحرّية، بل انّ طبيعة قواه الداخلية تستخدمه بصورة لا شعورية ولا عن وعي لصيانته وبقائه وحفظه في المستقبل (النباتات).

والبعض الآخر له دور أكبر، والدور هذا عن وعي وإن كان غير حر. أي أنّه يتمتع بنوع من الشعور بنفسه وبمحيطه ويسعى تحت تأثر جاذبة عدد من الميول الشعورية في سبيل صيانة نفسه في المستقبل (الحيوانات).

ولكن للإنسان دوراً أكثر نشاطاً وتأثيراً أوسع من ذلك في بناء مستقبله وانّ دور الإنسان يصدر عن وعي وحرية، أي أنّ الإنسان يعي نفسه ومحيطه، وهو يتمكن – بالنظر إلى المستقبل – بحكم قوة العقل والإرادة من أن يختار مستقبله كيف ما يريد.

وانّ منطقة نفوذ دور الإنسان أوسع بكثير بالنسبة للحيوان. وينبع اتساع منطقة بناء الإنسان بالنسبة لمستقبله من مميزات ثلاثة في الإنسان:

1- اتساع منطقة النظرة والوعي. انّ الإنسان يجتاز بمنطقة نظرته ووعيه من ظواهر الطبيعة ومستواها بقوة العلم ويوسّعها إلى أعماق باطن الطبيعة ويعرف قوانينها وتنبسط يد الإنسان بمعرفة قوانين الطبيعة لبناء الطبيعة بالشكل الذي يتلأم مع حياة الإنسان؟

2- اتساع الرغبات في قسم الإنسان والحيوان فهما "موجود ذو أبعاد".

3- قابلية بناء النفس الخاصة بالإنسان، ولا مثيل له في هذه الجهة في أي موجود آخر.

وبيان أنّ بعض الحيوانات الأخرى لها قابلية بناء النفس إلى حدّ قليل، ويمكن إيجاد تغييرات فيها بواسطة "عوامل تربوية خاصة" كما يشاهد في عوالم النباتات والحيوانات. ولكن أوّلاً: لم يبتنِ أي منها على يد نفسها أبداً والإنسان هو الذي يبنيها، وثانياً، أنّ قابليتها للتغيير قليلة جدّاً بالنسبة للإنسان.

إنّ الإنسان موجود بالقوة من ناحية الخصال والأطباع، أي أنّه يفقد الطبع والخصلة في بداية الولادة، بعكس الحيوانات التي يولد كلّ منها مع عدد من الخصال الخاصة ولما كان الإنسان يفقد كلّ طبع وخصلة وله قابلية تقبل الخصلة والطبع من جهة، يبني لنفسه عدداً من "الأبعادة الثانوية". بالإضافة إلى الأبعاد الفطرية بواسطة الخصال والطباع التي حصل عليها.

والإنسان هو الموجود الوحيد الذي سلّم قانون الخلقة قلم، رسم وجهه بيده ليرسمه كيفما شاء. أي إنّ أعضاء الإنسان النفسية التي يعبر عنها بالخصال والطباع والملكات الأخلاقية تبني بعد الولادة إلى حدٍّ كبير جدّاً بعكس أعضائه الجسمية التي يتم بناؤها في مرحلة الرحم، وبعكس الخصال الروحية والأعضاء النفسية لدى الحيوانات التي تتم أيضاً في مرحلة ما قبل الولادة.

ولهذا فإنّ كلَّ موجود – حتى الحيوان – هو ما صنعوه، ولكن الإنسان هو ما يريد أن يكون، ولهذا السبب فأنّ كلَّ نوع من أنواع الحيوانات تتشابه أعضاء جميع أفراده النفسية وخصالها النفسية كما تتشابه أعضاؤها الجسمية. انّ جميع أفراد القطة لها خصلة واحدة وجميع أفراد الكلاب لها نوع واحد، وجميع أفراد النمل لها خصلة أخرى، وإذا كان هناك فرق فقليل جدّاً. ولكن الفرق الخصالي والأخلاقي بين أفراد الإنسان كبير إلى ما لا نهاية. ولهذا فإنّ الإنسان هو الموجود الوحيد الذي عليه أن يختار "نفسه" كيف يكون.

جاء في الأخبار الإسلامية أنّ الناس يحشرون يوم القيامة وفق الخصال الروحية المكتسبة لا الأعضاء الجسمية الظاهرة. أي إنّ الناس يحشرون من الناحية الأخلاقية المكتسبة المشابهة لأي نوع من الحيوان على شكل ذلك الحيوان وصورته وأعضائه. والذين يحشرون على صورة الإنسان هم الأشخاص الذين تتناسب أخلاقهم وطباعهم الاكتسابية وأبعاد روحهم الثانوية مع الشأن والكمالات الإنسانية، وبعبارة أخرى: تكون أخلاقهم أخلاقاً إنسانية.

فالإنسان يسيطر على الطبيعة بحكم قدرته العلمية، ويكيف الطبيعة وفق حاجاته كما يشاء ويبني نفسه كما يشاء بحكم قوة بناء نفسه لديه وبهذا يستلم مصيره القادم بيده.

إنّ جميع المؤسسات التربوية، والمدارس الأخلاقية، والتعاليم الدينية جاءت لتوجيه الإنسان ليبني نفسه على أي صورة وشكل: والطريق المستقيم هو الطريق الذي يوصل الإنسان إلى مستقبل سعيد، والطرق المنحرفة العوجاء هي التي تجرّ الإنسان إلى مستقبل تافه شقي. يقول الله في القرآن الكريم: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) (الإنسان/ 3).

إنّ لكلِّ من العلم والإيمان دور مختلف في بناء مستقبل الإنسان انّ دور العلم في أن يعرض أمام الإنسان طريق البناء، فالعلم يجعل الإنسان قادراً على بناء المستقبل كيفما "يريد". وأما دور الإيمان فهو يجرّ الإنسان إلى كيفية بناء نفسه والمستقبل ليكون أفضل لنفسه ولمجتمعه. فالإيمان يمنع من أن يبني الإنسان المستقبل على أساس مادي وفردي.

والإيمان يهبّ لرغبة الإنسان الجهة. ويخرجها عن حصار الماديات ويجعل المعنويات جزءاً من الرغبات ويكون العلم تحت تصرف رغبة الإنسان كالآلة ويبني الطبيعة كما يريد الإنسان وكما يأمر ولكن كيف يبني الطبيعة؟ هل يصنع من الطبيعة مصنوعات في صالح المجتمع الإنساني، أو قوى مدمرة للمزيد من التوسع لأشخاص معينين؟ وهذا لا صلة له بعد بهذه الآلة التي تدعى علماً وصلتها بالناس المتمكنين من هذا العلم أنّهم أي أناس.

أما الإيمان، يعمل كالسلطة الحاكمة على الإنسان ويستلم بيده رغبة الإنسان ويسوقها في طريق الحقّ والأخلاق. فالإيمان يبني الإنسان والإنسان يبني العالم بقوة العلم، وعنه ما يتوائم العلم والإيمان ينتظم الإنسان والعالم معاً.

 

المصدر: كتاب الإنسان في القرآن

ارسال التعليق

Top