• ٣ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٤ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

أثر العبادة في حياة المسلم

أحمد عبدالرحيم السايح

أثر العبادة في حياة المسلم
◄الإنسان آية الله في خلقه، طبعه الخالق على هذا النحو، وفطره على هذه الصيغة.. مزيجاً من الروح والجسد، وألوانا من النزعات والرغائب العليا، مقترنة بعديد من الغرائز والميول، وحينما تشده الأولى إلى زكاة النفس، واستواء الفطرة، وقصد السبيل، فإنّ الثانية تشده إلى النقيض. وبين هذا وذاك يتطلع الإنسان ويرنو إلى ما يحفظ عليه نقاء معدنه، وصفاء جوهره، وزكاة نفسه، وطهارة قلبه، واعتدال خلقه، وقصد سلوكه.. ويجعله سوي النهج، قويم السبيل، زكي الباعث، نبيل المقصد، متعلقاً بمعالي الأمور، نائيًا عن سفسافها، يتطلع إلى ذلك، ويهفو إليه، فلا يجده إلا في رحاب الإيمان بالله، وأحضان الطاعة له، وظلال القرب منه.. والحقّ أنّ طاعة الله وعبادته فوق ما تقوم به من صقل النفس فإنها تقوم بالتأصيل لجوهر الفطرة ومتابعة بعثها لضمان استمرار حركتها وعملها وانطلاقها وسعيها مع الله.

كلّ ذلك في إطار ما يحتوي الطاعة من منهج متكامل وقويم، الأمر الذي يضع بصماته على خلقِ الإنسان، ويطبع انعكاساته على سلوكه، فيكن له أعظم الآثار والنتائج في مقام هذا الإنسان من ربه، وعلاقته بالمجتمع، ومكانته في الأمة.

وحقيقة الطاعة والعبادة لله تتمثل في أمرين رئيسيين:

الأمر الأوّل: هو استقرار معنى العبودية لله في النفس. أي استقرار الشعور على أنّ هناك عبداً ورباً.. عبداً يعبد.. ورباً يعبد.. وأنّ ليس وراء ذلك شيء، وأنّ ليس هناك إلّا هذا الوضع، وهذا الاعتبار. ليس في هذا الوجود إلا عابد ومعبود، وإلّا رب واحد، الكلّ له عبيد.

الأمر الثاني: هو التوجه إلى الله بكلِّ حركة في الضمير، وكلّ حركة في الجوارح، وكلّ حركة في الحياة.. التوجه بها خالصة، والتجرد من كلّ شعور آخر.. ومن كلِّ معنى غير معنى التعبد لله.

والعبادة هي العبودية المطلقة معنى وحقيقة. "فاياك نعبد" كلية اعتقادية، فلا عبادة إلا لله. وهذه الكلية تعلن ميلاد التحرر البشري الكامل الشامل.. التحرر من عبودية الأوهام، والتحرر من عبودية النظم، والتحرر من عبودية الأوضاع[1]...

 

والعبادة في الإسلام تنتهي إلى نتيجتين:

أولاهما: الاتجاه إلى تربية الوجدان الديني، الذي يجعل المؤمن بالإسلام عقيدة وسلوكاً ونظاماً للحياة – مؤتلفا مع غيره، ليتكون من هذه الائتلاف مجتمع إنساني متواد متحاب..

وثانيهما: انّ غاية العبادات في الإسلام ليست مجرد التقوى السلبية لأنها تتجه إلى النفع الإنساني العام، وإلى إيجاد مجتمع سليم..

وما نشأ مجتمع على هذا النحو، ولا تكوّن في هذا التكوين، ولا سار على هذا النهج والتزم به، إلّا استوى أمره، واستقام حاله.. واّن زكاة النفس وطهرها، وصفاء جوهرها، ونقاء معدنها يتحقق بإيمان الإنسان بالله، ومعرفته به، وعبادته له، بحيث يصبح الإنسان ويمسي وللعبادة أثرها في حياته، وتكون منه وفي شخصه، وذاته، وفي أخلاقه، وسلوكه..

لأنّ البناء النفسي لا يعرف إلا في رحاب الحقِّ ومنهجه، وانّ فضائل الذات لا ترقى إلّا من خلال العبادة لله، وانّ انضباط النفس لا يتوفر إلّا من متابعة الإنسان لذاته.. بهذا يقف الإنسان المؤمن من ربه على مكانته، وفي الكون على مركزه، وفي المجتمع على موقعه، متفاعلاً مع هذه المجالات بالتنمية والاثراء، والأخذ والعطاء..

والعبودية الخالصة لله تعالى ليست في واقع المنهج الإسلامي سوى سلوكية هادفة وواعية، سلوكية إنسانية وعملية تبلغ أقصى درجات التحقق فإذا نظرت إلى طاعة الله، ومداومة عبادته، والضراعة إليه، وجدتها تحيط الإنسان المؤمن بسياج من الحفظ يحميه من مقارفة المعصية، والتلوث بدنسها. قال تعالى: (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) (العنكبوت/ 45)، فالصلاة صيغة عبادية مترابطة الأجزاء والعناصر، ووحدة منهجية تستهدف تربية الإنسان، وإعداده لحياة الخير والاستقامة، والصلاة حركة روحية ونفسية دائبة، للتخلص من وضعية حياتية وضيعة، ولإحتلال مواقع أرقى عن طريق تشكيل الذات وبنائها، وفق مستوحيات الصلاة، وحسب مناخ محيطها، وفي ضوء مدلولاتها[2].

وما أخذت العبادة امتدادها على هذا النحو.. إلّا كان صاحبها مشعل إشعاع، وموئل عز، وموطن حفظ. تظلم الدنيا وهو مضئ، ويجهل الخلق وهو حليم.. عن عبدالله بن عباس (رض) قال: قال النبيّ (ص): قال الله تعالى: "إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع بها لعظمتي، ولم يستطل على خلقي، ولم يبت مصراً على معصيتي، وقطع نهاره في ذكري، ورحم المسكين، وابن السبيل، والأرملة، ورحم المصاب. ذلك نوره كنور الشمس، أكلؤه بعزتي، واستحفظه ملائكتي، اجعل له في الظلمة نورا، وفي الجهالة حلما.. ومثله في خلقي كمثل الفردوس في الجنة"[3].

وهكذا في حنايا الطاعة وعلو هديها، ينمي الإنسان من فضائله، ويقوم من خلقه، ويسوي من سلوكه، ويتألق في جبينه الصدق فلا كذب ولا مراء، ويتفجر من قلبه الود فلا ضغينة ولا شحناء، ويشع من ثغره صفو الحديث ولين المنطق فلا رفث ولا جدال، ويشيع من حوله الطهر والنقاء، فلا معصية ولا فسوق.

ولما كانت الحياة مليئة بالصعاب والمخاطر، مفعمة بالمفاجآت والشدائد، كان لابدّ للمؤمن في لقائها من قوة الإرادة، ومضاء العزيمة، وانضباط النفس، ورباطة الجأش.. وليس هناك شيء بمثل هذه الطاقات، ويدعمها، ويحركها في الوقت المناسب، كالإيمان بالله، وطاعته، وعبادته وترويض النفس عليها، وتدريبها وسرعة التلبية لها، وحسن الانضباط على أمرها، والانتظام في محرابها، وعدم الخروج عليها.

قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ...) (البقرة/ 153).. فالله أمر عباده بالاستعانة بالصبر والصلاة، على البلاء والمصائب، ومن أعظمها ما يلاقيه أهل الحقِّ من مقارعة أشياع الباطل، كما حدث ذلك حين كان المؤمنون في قلة من العدد والعدة، وتناوئهم الأمم جمعاء، وقد تألب عليهم المشركون، حتى أخرجوهم من ديارهم وأموالهم، كما لاقوا من أهل الكتاب عنتاً وكيداً، لهذا كله أمر عباده أن يستعينوا على مقاومة ذلك كلّه بالصبر والصلاة.. إذ في الصبر تربية ملكة الثبات، وتعود تحمل المشاق، فيهون على النفس احتمال ما تلاقيه من المكاره في سبيل تأييد الحقّ، ونصرة الفضيلة.. ويظهر أثر ذلك في ثبات الإنسان على إثبات حقّ أو إزالة باطل، أو الدعوة إلى عقيدة أو تأييد فضيلة، ومصارعة الشدائد لأجل ذلك.. وعلى هذا جرى النبيّ (ص) وصحبه (عليهم الرضوان)، حتى فازوا بعاقبة الصبر، ونصرهم الله نصرا مؤزرا، على قلتهم، على جميع الأُمم التي حواليهم. وفي الصلاة التوجه إلى الله ومناجاته، وحضور القلب معه سبحانه، واستشعار المصلي للهيبة والجلال، وهو واقف بين يدي ربه. وهو بهذا الشعور المالك للبّه المالىء لقلبه، يستسهل في سبيله كلّ صعب ويستخف بكلِّ كرب، ويحتمل كلَّ بلاء، ويقاوم كلَّ عناء، فلا تتوق نفسه إلّا لما يرضي ربه الذي يلجأ إليه في الملمات، ويركن إليه إذا أفزعته النائبات[4].

فالإسلام الحنيف يشرع من العبادات ما يكوّن الإرادة الإنسانية ويقويها، ويشحذها.. ويفرض على كلِّ مسلم منهجاً في السلوك لا يستطاع الثبات عليه إلا بمعنونة الإرادة القوية، فالصدق والوفاء بالعهد، والوعد، والأمانة، والعفة، والعزة، والتواضع والحلم – وغيرها كثير – كلّها أخلاق للمسلم، لا يتهاون الإسلام في أمرها.. وبعد فإنّ للعبادة شأناً كبيراً في حياة الإنسان وأثراً بارزاً في كلِّ ما يتعلق به، وما يصدر عنه، ويبدو ذلك على ذاته خشية ومراقبة، وفي غريزته وميوله تعديلاً وإعلاء، وفي خلقه وسلوكه استواء واستقامة، وفي معاملته ومعيشته اعتدلاً وقصداً، وفي نفسه وبدنه نظافة وطهراً، ثمّ على حياته جميعاً دقة ونظاماً. وانّ المؤمن حقاً العابد صدقاً، هو من يتعامل على أساس ما اكتسبه من إيمانه بالله، وطاعته له، من ضرورة معرفة الله في كلِّ حين، والالتصاق به في كلِّ وقت.. موقناً عين اليقين أنّ الحياة كلّها له خير، والخير دائماً مرغوب فيه، ومبتغى يستبق إليه ويسارع فيه. فإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له.

عن أبي يحيى صهيب بن سنان (رض) قال: قال رسول الله (ص): "عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلّا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيراً له"[5].

والذين يعبدون الله سبحانه وتعالى حقا، هم أصدق الناس حرصاً على البشرية – بدافع من تلك الأنوار المشرقة التي نمت بين جوانبهم – من أن يقودها طاغوت جائر، أو يتسلط عليها مضل، ينشر في الأرض الفساد، فتتيه سفينة الإنسان، فيدلج في متاهات الضياع..

وما ربى إنسان نفسه على هذا الزاد المبارك، ولا بناها بهذه الطاقة المبدعة، ولا أخذ نفسه بهذا المنهج البار بحاضره ومستقبله، الوفي بأمر دنياه وآخرته إلا كان ثابت النفس، صلب العود، قوي الإرادة، عالي الهمة، شديد الشكيمة صدوقاً في اللقاء.

فللعبادات في الإسلام قيم تملأ العقل، وينطوي عليها الفؤاد، فالصلاة صلة بالله تمثل أسمى آيات النظام، والزكاة، صلة بالله وطهرة للنفس، وحقّ للمحتاج، والصوم عبادة لله ورياضة للنفس، وقمع للشهوات، والحج تجرّد لله وإخلاص وجهاد وإنفاق. ولهذا كلّه كانت آثار العبادات في جملتها تزكية النفس وتطهيرها، وتعويد الإنسان الصبر على تحمل الشدائد وهو ما يظهر جلياً واضحاً على النفس من إيمان بالله واستجابة له، واستقامة على هديه، إلى غير ذلك من أمور تقود الفرد إلى رحاب العبودية الحقة لله، وتحلق به في آفاق الطهر والهدى.

الهوامش:

 

[1]- الشهيد سيد قطب "في ظلال القرآن" المجلد الأوّل، ص19، ط بيروت ويراجع – أيضاً مجلة هدي الإسلام العدد السابع والثامن، ص78 من المجلد رقم 25 الأردن.

[2]- سلسلة مفاهيم إسلامية.. "الصلاة عبادة وتربية.. ص29.

[3]- الاتحافات السنية، ص36.. والحديث رواه البزار.

[4]- تفسير الشيخ المراغي، ج2، ص21، ط القاهرة.

[5]- رياض الصالحين، ص31، والحديث رواه مسلم.

المصدر: مجلة هدي الإسلام/ العدد 2 لسنة 1983م

 

ارسال التعليق

Top