• ٤ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٥ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الإسلام دين العالمية لا العولمة

جمال البنا

الإسلام دين العالمية لا العولمة

ما أن ظهر الاسلام حتى ظهرت طبيعته (العالمية) في صورة مصغرة أو (جنينية)! كما يقولون فمن الأيام الأولى كان حول الرسول سلمان الفارسي وصهيب الرومي (بالإضافة إلى جارية رومية عذبت واستشهدت في سبيل الاسلام) وبلال الحبشي لقد آخى الاسلام بينهم وصهرت روحه القوية فوارق الدم والجنس فيهم كما كان حوله الرجال والنساء والأطفال أحراراً وعبيداً.
صحيح أن دعوة الاسلام بدت أولاً محلية، ولكن هذا كان في ترتيب البدء بالدعوة لأن هذا هو ما يقتضيه طبيعة الأشياء فقد بدأت أولاً ((أنذر عشيرتك الأقربين)) ثم (أم ((القرى حولها)) ثم جاء الأنصار، وأرسل الرسول إلى الأنصار معلمين، ثم بدأت الهجرة إلى المدينة إرسالاً كللت بهجرة الرسول).
وعندما استقر الرسول بالمدينة كان من أعماله الأولى المؤاخاة التي قام بها بين المهاجرين والأنصار فقرن كل واحد من المهاجرين بواحد من الأنصار اعتبره أخاه، ووصل كرم الأنصار، وثقتهم في هذه المؤاخاة إلى الدرجة التي كان الأنصاري يعرض على أخيه المهاجر نصف ماله وإحدى زوجتيه بعد أن يطلقها.
وكانت الثانية هي (صحيفة الموادعة المشهورة) التي جمعت الفئات اليهودية داخل إطار (أمة المدينة) ورتبت عليهم واجبات كما منحتهم حقوق مثل واجبات وحقوق الأنصار.
وتعد صحيفة الموادعة من أولى المعاهدات إن لم تكن أولى المعاهدات التي تترفع فوق حواجز الدين وفوارق الجنس وتمنح الجميع حقوقاً وواجبات متساوية..
ومع الزمن كانت الطبيعية العالمية للاسلام تتضح وكانت نصوص القرآن صادعة بذلك، وحدت الآيات التي يتصدرها ((أيها الناس)) محل الآيات التي توجه إلى المؤمنين.. والتي تصرح ببعثة الرسول ((إلى الناس جميعاً)) وتصف ((عالمية الاسلام)).
(قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً)( الأعراف: 158).
وسلك الاسلام طريقة (حضارية) سلمية في الدعوة لعالميته، تلك هي الخطابات التي أرسلها الرسول إلى ملوك الدول المعروفة وقتئذ الروم والفرس ومصر وكانت هذه الكتب تدعو هؤلاء الحكام للإيمان بالاسلام أو تحملهم مسؤولية إبقاء جماهيرهم في ظلمات الكفر إن رفضوا.
وكما هو معروف فقد رفض الجميع باستثناء المقوقس الذي لم يرفض ولم يقبل وأهدى إلى الرسول هدايا.
وأتم الخلفاء الراشدون ما بدأه الرسول عندما أرسل رسله فجوبه بالرفض، ذلك أنه كان يسع المسلمون وليس لديهم قوة أن يقنعوا بتبليغ الملوك ولكن عندما توفرت لهم القوة كان لا بد من تبليغ الشعوب والجماهير، والمجتمع الكافر بصفة عامة برسالة الاسلام..
ذلك أن التبليغ برسالة الاسلام جزء لا يتجزأ من عالمية الاسلام باعتباره الرسالة الخاتمة.
ولننظر سوياً إلى هذه الآيات الكريمة:
(وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً) (البقرة: 143).
(فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً) (النساء: 41).
إن هذه الآيات عظيمة الدلالة فيما نحن بصدده لأنها تؤكد عالمية الاسلام بما تفرضه من واجب إشهاد الأمم على الاسلام، وهي:
1 ـ تؤكد عالمية الاسلام.
2 ـ تثبت هذا التأكيد بإيجاب تبليغ رسالة الاسلام وإن يكون المسلمون شهوداً على هذا.
3 ـ ينتهي الوجوب عند هذا ـ وليس فرض الاسلام لأن رسالة المسلم، ورسالة الاسلام ـ تقف عند التبليغ أما إيجاب الإيمان أو فرضه فهذا ما يخالف أصول حرية العقيدة في الاسلام، وما تثبته قاعدة قبول الجزية ـ في حالة الحرب، وانتصار المسلمين.
و لم يكن هناك إذاعات خارجية أو تليفزيونية أو صحافة أو انترنت أو أي وسيلة للاتصال بالناس، والطريقة الوحيدة الفعالة والمؤثرة والتي تدفع الملوك والحكام للتحرك هي الجيش.
على أن هناك نقطة دقيقة يجب إيضاحها ذلك أن الاسلام كما هو عقيدة دينية، فإنه أيضاً عدالة دنيوية، وقيم حضارية، وقد استبعد الاسلام نهائياً فرض العقيدة الدينية بالقوة ليس لأنها تخالف طبائع الأشياء فحسب ولا لأنه لا قيمة لدين يكره عليه صاحبه ولكن أيضاً لأنه يخالف النصوص القرآنية الصريحة في أن الله تعالى لو شاء لجعل الناس أمة واحدة وأن الهداية مردها إلى الله (إنك لا تهدي من أحببت، ولكن الله يهدي من يشاء)(القصص/56).
ولكن من ناحية أخرى فإن نظم الجبروت والطغيان والطبيعة التي قام عليها العالم القديم . هذه النظم التي سحقت الجماهير وقضت عليهم بالاستعباد وحرمتهم كما يقولون، الحقوق الأساسية للانسان وكانت الحرب تعني تدمير هذه النظم الطاغية وتحقيق العدل الاسلامي للجماهير، مع منحها حرية الاحتفاظ بدينها وفي نفس الوقت يكفل لهم الجيش الاسلامي الحماية مقابل تقديم جزاء لهذا، وهي (الجزية) التي اشتقت من مادة الجزاء.
هنا نجد أفضل صورة للعالمية، صورة تعرف الناس بدين يستبعد عبادة الأحبار ـ والرهبان والملوك والطغاة، ويعرض عبادة الرحمن الرحيم الخالق الكريم رمز القيم والمثل الغائبة والإيمان برسول أرسله الله رحمة للعالمين. ولكن هذا العرض لا يعني ـ كما أشرنا ـ الإجبار، أنه مجرد عرض، دور المسلمين فيه أن يكونوا شهداء عليه.
وفي الوقت نفسه فإن تطبيق القيم الاسلامية والنظم الاسلامية التي تقوم أساساً على العدالة وتستبعد كل صور الظلم والطغيان تحرر المجتمع وتفتح أبواب الحرية وآفاق المبادرات للأفراد جميعاً.
فعالمية الاسلامية عالمية حضارية تقوم على أسس وقيم الاسلام الحضارية سواء كان في مجال العقيدة أو في مجال النظم.
خلاصة القول أن الاسلام بطبيعته عالمي وإن عالميته تقوم على التعريف به، وما فيه من قيم وأن هذا يمكن أن يتم مع احتفاظ الأمم الأخرى بأديانهم لأن الاسلام وإن كانت عقيدة من ناحية فهو نظام في ناحية أخرى وقاعدته العامة هي الآية (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون).
وهذه الآية هي التي تجعل الاسلام عالمياً، وتجعله في الوقت نفسه يرفض العولمة المزعومة لأنها تجعل من قادة المجتمع الأوربي الأمريكي أرباباً من دون الله وتملي على شعوب جماهير العالم الثالث التسليم لها.
والهدف الوحيد الذي تعمل له كل قوى العولمة هو أن يصبح العالم سوقاً واحداً مفتوحاً، دون جمارك أو حمايات، بحيث يمكن للمنتجات الأوروبية الأمريكية (المتلتلة) أن تجدلها مشترين، وأن يتم هذا على أنقاض الصناعات والمنتجات القومية التي لا تتمتع بمزايا المنتجات الأوربية الأمريكية. أما قضية الثمن فليست مشكلة. إذ يمكن التحكم في عملات الدول كما يشاء تجار العملة.. كما يمكن اللجوء في المرحلة الأولى إلى إسلوب الإغراق أولاً، أي النزول بثمن السلعة إلى ما دون التكلفة لفترة معينة تبور فيها كل السلع القومية، وتفلس مصانعها لتعود هذه الدول فترفع في الأسعار كما تشاء، بعد أن انفردت بالسوق.


المصدر: الإسلام والعولمة

ارسال التعليق

Top