• ٧ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٨ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الإسلام يحارب الزنى

الطاهر الحداد

الإسلام يحارب الزنى

حرم الإسلام الزنى كشرائع الله قبله وعدّه فاحشةً ومقتاً كما في الآية: (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا) (الإسراء/ 32)، وفي آية أخرى: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ) (الأعراف/ 33)، وشرّع الزواج وجعله طريق اتصال الرجل والمرأة. وذلك لأن في الزنى طلب مجرّد اللذة مع التحلّل من جميع ما ينشأ عنها. وهذا ما يخالف تماماً عاطفة الحب والواجب. وما دام الرجل والمرأة في حاجة لذلك للتعاون على الحياة، وإنجاب الأبناء وإعدادهم للقائها فإنّ الزواج هو الطريق الوحيد الذي يؤدّي إلى هذا الغرض. وأكبر ما تراعيه الشرائع هو مهمّة النسل وإكثاره والقيام بتعهده. وجعلت مسؤولية ذلك على الأبوين في أوّل النشأة إلى الرشد. والزنى هادم لكل ذلك. إذ يحرّض بمفعول الشهوة على مقاومة النسل بالعقل وحتى بارتكاب الجرائم في ذلك على الجنين الحي في بطن أمّه خوف الفضيحة. ويجعل المرأة في حاجة أن تبيع فرجها لتعيش ما دامت لا تستطيع ذلك بسعيها. وأكثر مما أعلن الإسلام عن فحش الزنى ومقته فقد جعل عقابه غاية في الشدة استفظاعاً لشرّه فشرّع حدّ الزنى للزاني والزانية مائة جلدة كاملة بحضور جماعة من المسلمين يشهدون ذلك تعظيماً وتهويلاً للأمر كما في الآية: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (النور/ 2). وهذا كله إذا كانا غير متزوجين، أما المتزوج منهما فحدّه الرجم بالحجارة ليموت. وممّا احتج به الفقهاء في ذلك آية الرجم التي نسخ لفظها من التلاوة وهي: "والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما" وحديث السيد معز الذي رجم لاعترافه بالزنى أمام النبي. وليس هناك تشريع أدلّ على مقت الزنى أكثر من هذا التشريع. لكنه عند التنفيذ يصعب جدّاً أو يتعذر العثور على صورة الزنى بعينه يرى كالمرود في المكحلة من أربعة شهداء معروفين بالثقة. كما قرّر وجب الحد على من يرمون المحصّنات دون بيّنة وجعلهم هم الفاسقين كما في الآية: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور/ 4). وقد ألحق الفقهاء بهؤلاء في وجوب حدّهم ثمانين جلدة الشهود الذين يضطربون في شهادتهم لاعتبارهم قاذفين بالباطل. ولم يعط الإسلام حقاً لغير الزوج في اتهام زوجته بالزنى من دون بيّنة له بشرط أن تكون دعواه ناشئة عن يقين منه في وقوعها وإلا اعتبر قاذفاً بالباطل وهذه هي مسألة اللعان ولم يعرف القضاء في الإسلام قيام حدّ الزنى بالشهادة كما أنّ اللعان ولم يعرف القضاء في الإسلام قيام حدّ الزنى بالشهادة كما أنّ اللعان لم يتكرّر أكثر من مرتين أو ثلاث لصعوبة وسائل الإثبات التي شرعت منعاً لشيوع الطعن في الأعراض والأنساب وقيام الأغراض من ذلك. وقد توعّد القرآن من يريدون ذلك كما في الآية: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (النور/ 19). وفي آية أخرى (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (النور/ 23)، إلى غير ذلك من آيات التحذير.
وبالتأمل نرى أنّ الإسلام قد راعى ما لطفرة الشباب من ظروف يجب تقديرها فقد روي عنه عليه السلام أنّه قال: "ادرؤوا الحدود بالشبهات". وقال: "إذا عصيتم فاستتروا" وما ذلك إلا صوناً للآداب وفراراً من تنفيذ قساوة الحدّ. وفي قصّة السيد معز ما يدل صراحة على هذا المعنى حيث قال أمام النبي معترفاً: إني زنيت، فأعرض عنه النبي مشتغلاً بالحديث فقابله مكرّراً قوله فالتفت النبي إلى الجانب الآخر فأعاد عليه مرة ثالثة فقال له عليه السلام "أبك جنون؟"، فقال ما بي من جنون ولكنني زنيت، فأمر بحده رجما لأنّه متزوّج فلمّا رجع المنفذون عليه سألهم النبي فقالوا إنّه قال أرجعوني إلى رسول الله فحزن النبي لذلك وقال لأصحابه هلا أرجعتموه. وعدّ إنكار المعترف شبهة في نفي الحد عنه.
ومثل هذه القصّة ما رواه الفقهاء في باب الحدود واللعان عن المرأة الحامل جاءت النبي معترفة بالزنى قائلة: يا رسول الله طهّرني فأنظرها إلى وضع حملها فرجعت بعد الوضع فأنظرها إلى أجل الرضاع فرجعت بعد فأنظرها إلى أن تجد من يكفله، وهو في كل ذلك يكل أمرها إليها فلما رجعت إليه ملحة في تطهيرها بإقامة الحدّ عليها أمر بذلك. ولما رجع المنفذون إلى النبي قالوا إنها طلبت الرجوع إلى رسول الله ولم نمكنها من ذلك. فاغتاظ الرسول وأسف أسفاً عميقاً وقال: "هلا أرجعتموها. إنّها والله لقد تابت توبة لو قسمت على أهل السماوات والأرض لوسعتهم". أو كما قال عليه السلام.
إنّ نفي الحدّ بتعذر وسائل الإثبات معناه تقرير البراءة أو نفي العقاب كما فهم بعض من كتب من الأوروبيين على الحدود في الإسلام إذ قال: "إنّ الإسلام بجعله وسائل إثبات الزنى متعذرة يريد أن يعترف به ضمناً كمباح لا عقاب عليه" بل فرض التأديب بما يراه الحاكم زاجراً لمن قويت عليه التهمة رجلاً كان أو امرأة من دون تحديد للعقاب في ذلك إلا بقدر ما تقتضيه التهمة وحال المتهم تحقيقاً للعقاب ومنعاً لانتشار الفساد، بخلاف القوانين الأوروبية، ففي القانون الفرنسي لا تحريم للزنى إلا من المحصن أو بالتغرير أو عند فقد الاختيار القانوني كالاغتصاب أو مع غير رشيد وفيما عدا هذا لا نص في التحريم حتى ولو كان مع محرّم كعمة أو خالة أو أم. ويختلف نظر الدول الأوروبية إلى الزنى فمنها من اعتبرته كواقع لا مفرّ منه ويجب وضع نظام له منعاً للتوالد فيه وانتشار الأمراض بالعدوى منه وعدم التحرّي في ذلك من كثرة الاختلاط كالأُمم اللاتينية وهذا ما جرت عليه فرنسا في وطنها ومستعمراتها وبلدان الحماية كتونس. والقانون التونسي الحاضر لا يمنع الزنى إلا عند عدم الرضا القانوني طبق القانون الفرنسي. ومنها من رأت أنّ الاعتراف بالزنى مهما كانت دواعيه يعد تيسيرا له في الوقت الذي يجب اعتباره كأكبر آفة ضدّ النسل ونموّ الأُمّة. وذلك ما شكت منه الأُمم التي انتشر فيها. وقد تمسّكت بهذا الرأي الأُمم السكسونية كالألمان والانكليز. ولكنّها بدل أن تهتمّ اهتماماً زائداً بوضع العقاب له فقد اهتمت خيراً من ذلك بتيسير أمر الزواج والترغيب فيه بما تضعه من طرق التربية وصناديق الإعانة وفرض ضرائب على العزوبة. وقد نجحت في ذلك نجاحاً مهماً عاد عليها بالفائدة المحسوسة في نمو عددها وجعلها محسودة عليه من غيرها وبعد ذلك فجميع الدول الأوروبية قد احتاطت للأمر أكثر من ذلك فأسّست ملاجئ للّقطاء تحقيقاً لحياتهم حتى لا يحرموا من العيش ولا تحرم الأُمّة من الانتفاع بهم. وفرضت العقاب على تضييع الأرواح. وبهذه الطريقة أمكن إنقاذ كثير من المواليد كان مأواها قبل ذلك بطون الأدوية أو بطون الأرض. وهكذا تعاون القانون والأعمال الاجتماعية على درء الفساد بما أمكن. وإذا أردنا أن نعرف موقف الإسلام هنا فلسنا نحتاج أن نبرهن على حبّه للحياة وإيجابه المحافظة عليها ووقايتها من كلّ سوء وحثّه على إكثار النسل. واعتباره ما يخالف ذلك جريمة يعاقب عليها. وحسبك ما قاله الرسول الأمين: "تناكحوا تناسلوا فإنّي مكاثر بكم الأمم".
أما نحن فقد اكتفينا بترك الحبل على الغارب كعادتنا في كل شيء. وإذا كنا لا نعبأ بنقائصنا فقد خدمنا بذلك من يريدون تعمير بلادنا بأنفسهم وبمن يريدونه بدلاً منا.
إنّ السائد على أفكارنا في مصادرة الفاحشة وعامّة الجرائم أن نتّجه إلى تقرير العقوبات الصارمة على مرتكبيها فنعدم أو نجعل حياته سجوناً. بينما يجب علينا أكثر من ذلك أن يكون اهتمامنا بالنفسيات الرديئة التي كانت مصدراً للجرائم والفواحش فنتعهّدها بعلاج التربية البيتيّة والمدرسيّة والشعبية التي تحيي في المرء أصول الكمال كما تميت منه عاطفة السوء. وهذا ما تهتمّ به الثقافة الجديدة التي أثّرت كثيراً حتى في اعتدال قانون العقوبات عن ذي قبل. وهكذا كان تفكيرهم تامّاً وتفكيرنا أعرج أبتر.
وفي الحقيقة أنّ تقرير العقوبات كان أيسر عندنا من كلفة وضع نظام للتربية يتّجه بفطرتنا إلى الكمال. ولذلك كنّا أكثر ولوعاً بصرامة العقاب وأشدّ عقيدة في حسن نتائجه. وهو أوّل فكر وآخر فكر ارتأيناه لحدّ اليوم. وإذا ما رجعنا إلى الإسلام رأينا أنّه يميل إلى تثقيف الأخلاق أكثر من وضع فصول الشريعة. وأمامنا القرآن الكريم والحديث الشريف لنرى أيّ الأمرين كان أوفر حظاً فيهما. وللنظر بعد ذلك إلى ما علّل به النبي الكريم بعثته إلى الناس حيث قال: "بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق" وقد روي أيضاً في الحديث عن رجل يصلّي مواضباً خلف النبي لاحظ فيه الصحابة أنّه مواظب على الخمر فأجابهم عليه السلام بقوله: "إنّ صلاته ستنهاه يوماً ما" ولم يهتمّ بإيقاعه في العقاب. وإذ تاب الرجل توبة خالصة لله جاؤوا النبي فأخبروه بذلك فقال: "ألم أقل لكم إن صلاته ستنهاه يوماً ما".
وهنا ندرك مبلغ الطريقة التي اختارها النبي للتأثير على قلب الرجل حتى جعله يندم على فعله الذي لا يتّفق مع حبه للصلاة ومواظبته عليها في مسجد رسول الله، ومن دون شك أنّه كان يسمع ما يقول الناس وما يلاحظ لهم النبي في شأنه فأثر ذلك عليه. ولكن بين ما يثير الإسلام من طرائق العمل في علاج الأمراض الاجتماعية وبين ما نقف نحن عنده من الفكر والعمل لبون شاسع جدّاً. وإذا كان مستأئين من حظوظنا اليوم في الحياة أفلا يجب أن نفهم أن ذلك من صنع أنفسنا؟

المصدر: كتاب امرأتنا في الشريعة والمجتمع

ارسال التعليق

Top