• ٢ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٣ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الإفادات التربوية في الحديث النبوي الشريف

د. محمّد الفرحانى

الإفادات التربوية في الحديث النبوي الشريف

يشكّل الحديث النبويّ الشريف منبعاً مهمّاً من منابع الفكر العربي الإسلامي، والثقافة التربوية العربية الإسلامية. واحتوى الحديث النبويّ على مجموعة إفادات تربوية كوّنت موجهات في تربية الولد وتأديبه، وهي في الوقت ذاته تُعدّ أساساً نهضت عليه الفلسفة التربوية العربية الإسلامية.

لقد نظّمت الأحاديث النبويّة السلوك الإنساني، واعتبرت أنّ الدِّين معاملة حسنة مربوطة بهدف، يتحدّد في جلب الخير للفرد، وتماسك الجماعة وسعادتهما. والأحاديث بهذا الاتجاه تُؤسس حكمة عملية تشرف على العلاقات بين الناس، وبينهم وبين مجتمعهم، وبين المجتمعات المتعدّدة. كما أنّها تعتني بعلاقات الإنسان بربّه. لهذا فإنّ الإفادات التربوية التي احتوتها الأحاديث تهدف إلى تنظيم السلوك ومن خلال ذلك بناء المجتمع الإسلامي.

وسنحاول وضع إجابة عن التساؤلات الآتية: ما أهداف الإفادات التربوية في الحديث النبويّ في تأديب الولد؟ وما دور الأنموذج في تربية الولد؟ وما المنهج التربوي في تأديب الولد؟ وما المواصفات الشخصية للولد؟ وما الأسلوب التربوي في تربية الولد؟

 

1- الأهداف والأنموذج في تأديب الولد:

تحمل الإفادات التربوية في الأحاديث النبوية مجموعة أهداف في تأديب الولد. وهذه الأهداف هي:

أوّلاً: هدفت الإفادات التربوية في سعيها تنظيم سلوك الولد إلى توضيح ما جاء به القرآن الكريم.

ثانياً: سعت إلى بيان التشريعات والآداب وقواعد السلوك بحيث تمكّن الولد من معرفة المسموح به فيعمل به، وغير المسموح فيبتعد عنه.

ثالثاً: شرح المنهج التربوي القرآني وتقديم تفاصيل أكثر حول المسائل التي تحتاج إلى شرح وتفصيل.

رابعاً: تقديم أعمال الرسول (ص) وسلوكه مع أصحابه ومعاملته لأولاده، أسلوباً تربوياً عملياً مضافاً إلى الأسلوب التربوي القرآني.

إنّ الإفادات التربوية في الأحاديث والتجربة التربوية في سيرة الرسول (ص) تشكّل ميداناً تربوياً خصباً في المضمار التربوي الإسلامي، فهي تقترح صورة الأنموذج المثالي. وإنّ سيرة الرسول هي الترجمة العملية للأنموذج. وهكذا تحرّك الأنموذج لإنتاج الأُمّة من جديد.

لقد مثلت شخصية الرسول أنموذجاً مثالياً متكاملاً لتربية الولد وتأديبه، ففيه يجسد حاجات الولد وطبيعتها، ويوجه إلى مخاطبة الناس على قَدر عقولهم ويراعي الفروق بينهم، ويدعو إلى تنمية ما لديهم من مواهب وإمكانات، وهو في ذلك كلّه يدعوهم إلى الله وإلى الالتزام بالشريعة القرآنية، والعودة بالولد إلى طبيعته وتهذيب ذاته بالتدريج صعوداً بها إلى أعلى الدرجات، وتوحيد ما يتولّد من عقله وحسه، وتوجيه ما يتحرك في تفكيره ومشاعره باتجاه إنشاء المجتمع الإسلامي. ولهذا قال رسول الله: "أفضل الناس أعقل الناس" وأفاد في حديث آخر "العقل نور في القلب، يُفرق بين الحقّ والباطل".

 

2- المنهج التربوي في تأديب الولد:

اهتمت الإفادات التربوية في الحديث النبويّ بالمنهج الذي نعتمد عليه في تأديب الولد. وهذا المنهج ضمّ مواد تعليمية واستهدفت أنشطة لتعليمه وتكوين شخصيته. ولهذا نلحظ أنّ المنهج التربوي في الأحاديث النبويّة اهتم بعقل الولد، وأولاه مكانة مهمّة في عملية التأديب والتهذيب. وهنا أفاد الخطاب النبويّ مستوضحاً عمل العقل ودوره في حياة الإنسان: "لكلّ شيء عُمل دعامة، ودعامة عمل المرء عقله".

ونلاحظ أنّ المنهج التربوي في تربية الإنسان ومن خلاله في تأديب الولد قد ربط العقل بالعمل والعبادة. وهنا المنهج التربوي ركّز على ترتيب عقل الولد حتى يصبح قادراً على النجاح في عمله وإتمام الشعائر والعبادات. وهنا يُعاد قراءة الحديث النبويّ "العقل نور في القلب، يفرق بين الحقّ والباطل". وبهذا يكون المنهج التربوي عملية تدريب لعقل الولد بحيث يأخذ هذا التدريب شكل تعليم له بما هو حقّ وما هو باطل.

ودعت الإفادات التربوية الولد ليكون إنساناً فاضلاً بعد أن دعته ليكون إنساناً عاقلاً: وهذا التأكيد على العقل في بناء شخصية الولد يقابله تنبيه وتحذير من الهوى والشهوة، ففي الحديث القائل: "طاعة الشهوة داء، وعصيانها دواء"، إشارة إلى رذيلة من الرذائل التي تهدم الشخصية وتجعل الولد غير ملتزم بقواعد السلوك والتعامل بالمنظار الإسلامي.

واهتم المنهج التربوي في تأديب الولد بموضوعة العلم، فقد طالبت الإفادات التربوية في الحديث النبويّ المربين بتعليم الولد العلوم المختلفة وتتقدمها علوم القرآن وذلك لما لها من تأثير في تهذيب وصقل شخصية الولد.

فقد رُوي عن النبيّ (ص) أنّه سُئل عن رجلين: أحدهما عالِم، والآخر عابد، فقال (ص): "فضل العالم على العابد، كفضلي على أدناكم منزلة". وفي توجيه نبويّ للمربين للاهتمام بتعليم العلم أن يكون لهذا التعليم ثمرة تتمثّل في السلوك والتعامل قال: "مَن زاد في العلم رُشداً، ولم يزدد في الدنيا زُهداً، لم يزدد من الله إلّا بُعداً".

واهتمت الإفادات التربوية بالعلاقات الاجتماعية التي تحيط بالعملية التعليمية التي يمثّل فيها الولد، والمعلم ركنين مهمين من أركانها إضافة إلى المنهج، ولذلك دعت إلى إرساء علاقة مثالية بين الولد ومعلميه. وفي هذا الإطار جاء حديث الرسول: "ليس من أخلاق المؤمن الملق إلّا في طلب العلم". ومن الآدابيات التي تؤكد عليها الإفادات التربوية أن يوقر الولد مُعلّمه: "مَن وقر عالماً فقد وقر ربّه". إنّها قاعدة عامّة لسلوك المتعلّم مع مُعلّمه. وفي هذا المضمار يدعو الحديث النبويّ الولد إلى التشبّه بأخلاق العلماء، فهو طريق تربوي إسلامي في التأديب: "خيار شبابكم المتشبهون بشيوخكم، وشرار شيوخكم المتشبهون بشبابكم".

وترسم الإفادات التربوية للولد طريقاً في التعلّم، وهو طريق السؤال، فالسؤال نصف المعرفة، يقول الخطاب النبويّ "العلم خزائن، ومفتاحه السؤال، فاسألوا رحمكم الله. فإنما يؤجر في العلم ثلاثة: القائل، والمستمع، والآخذ". وفي التأكيد على الإشارة السابقة: السؤال نصف المعرفة يصرّح الحديث "حسنُ السؤال نصفُ العلم".

 

3- المواصفات الشخصية للولد:

ما المواصفات الشخصية التي اقترحتها الإفادات التربوية في الحديث النبويّ للولد؟ اقترحت الإفادات التربوية مجموعة مواصفات لشخصية الولد. وهذه المواصفات في حقيقتها مكوّنات منهج تربوي لبناء شخصية الولد. إذ خلال هذا المنهج يتمّ غرس هذه الفضائل أو المواصفات في شخصية الولد. وهذه المواصفات هي: التواضع، إذ نشدت الإفادات التربوية إلى تكوين شخصية المتواضع المأمول. وفي الوقت ذاته طالبت محاربة رذيلة العجب "إنّ العجب ليأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب". وأن لا يكون متكلّفاً فلا يُحسن ما يقوم به: "مَن سُئل فأفتى بغير علم، فقد ضل وأضل". وأن يكون هناك اتفاق بين ما يقوله وما يفعله "ويل لجماع القول! ويل للمعدين" يريد بذلك الذيبن يستمعون القول ولا يعملون به. إذاً أرادت الإفادات التربوية أن تقدّم للولد نماذج مثالية يمكن تمثلها والاقتداء بأصحابها وذلك لتحقيق شخصية الولد المرغوبة بالمنظار الإسلامي.

ومن الإفادات التربوية المهمّة في تربية الولد، تلك التي ترسم علاقة اجتماعية بين المُعلّم والمُتعلّم، فهي تدعو المُعلّم إلى عدم تعنيف المُتعلّم ومعاملته بالحُسنى: "علّموا ولا تعنّفوا، فإنّ المُعلّم خير من المُعنّف".

ومن المفيد الإشارة إلى أنّ الإفادات التربوية الموجهة إلى تأديب الولد، تلك التي تدعو الولد إلى مجالسة الأخيار والاقتداء بهم. وفي هذا الإطار جاء الخطاب النبويّ: "المرء على دين خليله. فلينظر أحدكم مَن يخالل". ومن النصائح التربوية التي تقترحها الإفادات التربوية في تأديب الولد، النصائح التي تعلّمه كيفية رياضة النفس وتحفيزها على ترك الدنيا "مَن أشرب قلبه حبّ الدنيا، ولكن إليها، التاط منها بشغل لا يفرغ عناه، وأمل لا يبلغ مُنتهاه، وحرص لا يدرك مداه" ودعوة الولد إلى قطع علاقته بكلّ إغراءات الدنيا: "الناس غاديان، فمبتاع نفسه فمعتقها، وبائع نفسه فموبقها". وصرف نفس الولد عن غرور الأمل: "أيّها الناس إنّ الأيام تُطوى، والأعمار تُفنى، والأبدان تُبلى... ورغبت في الباقيات الصالحات". وفي إفادة تربوية مهمّة نزعت إلى تحديد سلوك الولد وطريقته في التعامل "أقلل من الدنيا تعش حُراً، وأقلل من الذنوب يَهُن عليك الموت، وانظر تضع ولدك...".

وترسم الإفادات التربوية صورة علاقات اجتماعية بين الولد والآخرين. فقد أكدت على المؤاخاة بالمودة "عليكم بإخوان الصدق، فإنّهم زينة في الرخاء وعصمة في البلاء".

والتأكيد على علاقة الأخوة "المرء كثير بأخيه، ولا خيرَ في صُحبة مَن لا يرى لك من الحقّ مثل ما ترى له". والتودد إلى الناس "رأس العقل بعد الإيمان بالله تعالى، التودد إلى الناس". ومن الفضائل المطلوب تدريب الولد عليها "البرّ" فهي مفيدة في إقامة علاقات اجتماعية بين البشر: "جُبلت القلوب على حبّ مَن أحسن إليها، وبغض مَن أساء إليها". وفضيلة البرّ تحقّق الصلة والمعروف.

 

4- الأسلوب التربوي في تأديب الولد:

ما هو الأسلوب التربوي الذي اقترحته الإفادات التربوية في الحديث النبويّ في تأديب الولد؟ إنّها أساليب عدة، ومن هذه الأساليب هي:

أوّلاً: إنّ واحداً من أهم الأساليب التربوية التي يمكن الاعتماد عليها في تأديب الولد هي تربية عواطفه، وفعلاً فقد استخدم الرسول (ص) هذا الأسلوب في تربية الجيل الجديد من الأنصار، فقال: "يا معشر الأنصار، مقالة بلغتني عنكم؟ وجدة وجدتموها عليَّ في أنفسكم؟ ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله؟ وعالة فأعطاكم الله؟ وأعداء فألّف بين قلوبكم".

ثانياً: وأكّدت الإفادات التربوية في الحديث النبويّ على أسلوب، تربوي سبق للخطاب القرآني أن اقترحه، وهو أسلوب القدوة الحسنة، فقد مارسه النبيّ (ص) في حياته، وقد أكّد عليه الخطاب القرآني (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (الأحزاب/ 21).

ثالثاً: واقترحت الإفادات التربوية في تأديب الولد أسلوب النصح وبيان الحقّ والمصلحة. وكان رسول الله يمارسه في تعليم جيل جديد من المسلمين. وإنّ هذا الأسلوب يمكن اعتماده في تعليم الولد أصول التعامل وقواعد السلوك الإسلاميين، وعن هذه المسألة جاء التعبير القرآني عن شخصية الرسول المُعلّم وهو يستخدم هذا الأسلوب: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) (الفرقان/ 57).

 

5- الخاتمة: حضور الإفادات التربوية:

شكلت الإفادات التربوية في الحديث النبويّ مصدراً من مصادر الفكر التربوي الإسلامي، ويلمس قارئ النصوص التربوية التي أنتجها القلم العربي الإسلامي، حضور الإفادات التربوية المتولّدة من الحديث النبوي بقوّة وبحجم كبير وخصوصاً في النصوص التي كتبها الفقهاء.

وأسهم هذا الرافد التربوي في تمكين العقل الإسلامي من صياغة مشروعه الثقافي المستقل، وفي الوقت ذات المنفتح على نتاج الثقافة الإنسانية حواراً فكرياً، وتبادل التجربة الثقافية دون خوف من تغريب لهُويّته الثقافية.

 

المصدر: كتاب الخطاب التربوي الإسلامي/ الكاتب: أستاذ في المنطق وفلسفة العلوم

ارسال التعليق

Top