• ٢٥ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٦ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الإمام علي (ع).. خلود مدى الدهر

أحمد أمين

الإمام علي (ع).. خلود مدى الدهر

◄يفارق علي (ع) الدنيا الفانية في مثل هذا اليوم[1] بعد أن ألقى على الأُمّة الإسلامية دروساً خالدة ما بعدها دروس: دروساً فيها عزّ الدنيا وسعادة الآخرة، فيها راحة الفرد وراحة المجتمع، فيها طمأنينة النفس وراحة الضمير، فيها الوصول إلى الحقّ والزلفى إلى الله تعالى، فيها غني الفقير وفلاح الغني، فيها العدل الإجتماعي المطلق وكل ما يؤدي بالفرد والمجتمع إلى دورة الكمال.

ولكن البشر لسوء سريرته وفساد باطنه وتغلب الهوى والأطماع لم يكن جديراً ليستفيد من هذه الدروس. بل أراد البعض في كلِّ فرصة إخماد قبسات هذا النور اللامع حتى ضرب (ع) بسيف ابن ملجم المرادي فجر اليوم التاسع عشر من هذا الشهر المبارك وهو في محرابه يناجي ربه.

وقد أخبر بذلك رسول الله (ص) في آخر خطبته المشهورة التي خطب بها الناس قبيل شهر رمضان المبارك، يقول أمير المؤمنين (ع) فقمت وقلت: يا رسول الله ما أفضل الأعمال في هذا الشهر؟ فقال: يا أبا الحسن، أفضل الأعمال في هذا الشهر: الورع عن محارم الله عزّ وجلّ. ثمّ بكى. فقلت: يا رسول الله، ما يبكيك؟ فقال: يا علي، أبكي لما يستحل منك في هذا الشهر، كأني بك وأنت تصلي لربك وقد انبعث أشقى الأولين والآخرين شقيق عاقر ناقة ثمود، فضربك ضربة على قرنك. فخضب منها لحيتك. قال أمير المؤمنين (ع): فقلت يا رسول الله، وذلك في سلامة من ديني؟ فقال: في سلامة من دينك. ثمّ قال: يا علي، من قتلك فقد قتلني، ومن أبغضك فقد أبضغني، ومن سبك فقد سبني. لأنك مني كنفسي وروحك من روحي وطينتك من طينتي..." إلى آخر الحديث.

وقد روى النسائي في الخصائص بسنده عن عمار بن ياسر في حديث: قال: كنت أنا وعلي بن أبي طالب رفيقين في غزوة العشيرة، إلى أن قال: قال رسول الله (ص): ألا أحدثكما بأشقى الناس: رجلين، قلنا: بلى يا رسول الله، قال: أحيمر ثمود الذي عقر الناقة، والذي يضربك على هذه – ووضع يده على قرنه – حتى يُبل منها هذه وأخذ بلحيته.

وقد قدم على علي وفد من أهل البصرة، فيهم رجل من الخوارج. يقال له: الجعد بن نعجة، فقال إتق الله يا علي، فانك ميت. فقال علي: "ولكني مقتول بضربة على هذا تخضب هذه – وأشار إلى رأسه ولحيته بيده – قضاء مقضي وعهد معهود وقد خاب من افترى". ثمّ عاب علياً في لباسه. فقال: "لو لبست لباساً خيراً من هذا"؟ فقال: "إن لباسي هذا أبعد لي من الكبر وأجدر أن يقتدى بي المسلمون".

وكان علي (ع) في الشهر الذي إستشهد فيه يفطر ليلة عند الحسن (ع) وليلة عند الحسين (ع) وليلة عند ابن جعفر، لا يزيد على ثلاث لقم ويقول: "أحبُ أن يأتيني أمر الله وأنا خميص". كيف لا يكون كذلك وهو القائل: "هيهات هيهات أن يغلبني هواي ويقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة، ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له بالقرص ولا عهد له بالشبع، أأقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر وجشوبة العيش؟. وأيم الله يميناً، استثنى فيها بمشيئة الله لأروضنّ نفسي رياضة تهش معها إلى القرص مطعوماً، وتقنع بالملح مأدوماً".

نعم إنّه صلوات الله عليه كان أزهد الناس، لم يشبع من طعام قط، وكان يلبس الخشن ويأكل جريش الشعير. فإذا ائتدم فبالملح، فان ترقى فبنبات الأرض.

روى عن سويد بن غفلة: قال: دخلت على علي (ع)، فوجدته جالساً وبين يديه إناء فيه لبن، أجد ريح حموضته وفي يده رغيف، أرى قشار الشعير في وجهه وهو يكسره بيده ويطرحه فيه. فقال: "ادنُ فأصب من طعامنا". فقلت: إني صائم. فقال (ع): "سمعت رسول الله (ص) يقول: من منعه الصيام من طعام يشتهيه، كان حقاً على الله تعالى أن يطعمه من طعام الجنة ويسقيه من شرابها". قال: فقلت لفضة – وهي تقرب منه قائمة – ويحكِ يافضة، ألا تتقين الله في هذا الشيخ، ألا تنخلين هذا الطعام من النخالة التي فيه؟ قالت: تقدّم إلينا أن لا ننخل له طعاماً.

وكان (ع) يجعل جريش الشعير في وعاء ويختم عليه. فقيل له في ذلك. فقال (ع): "أخاف هذين الولدين أن يجعلا فيه شيئاً من زيت أو سمن".

وإنّ علياً (ع) قد سهر تلك الليلة التي ضُرب فيها وأكثر الخروج والنظر إلى السماء، وهو يقول: والله، ما كَذبت ولا كُذبت. وانها الليلة التي وعِدت فيها، ثمّ يعاود مضجعه. فلما طلع الفجر، شد إزاره وخرج وهو يقول:

أشدد حيازيمك للموت **** فانّ الموت لاقيكا

ولا تجزع من الموت **** إذا حل بواديكا

ذلك لأنّ أولياء الله مع علمهم بما سيكون لا يعلمون إلا حسب الأمور العادية. "ليهلك من هلك عن بينة، ويحيي من حيَّ عن بينة".

يخرج علي (ع)، فجر اليوم التاسع عشر من هذا الشهر المبارك إلى المسجد لصلاة الفجر وينادي الصلاة الصلاة، فيضربه ابن ملجم على رأسه وهو ساجد فلما أحس (ع) بالضربة، لم يتأوه وصبر واحتسب ووقع على وجهه، قائلاً: "بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله. هذا ما وعد الله ورسوله وصدق الله ورسوله، ثمّ صاح وقال: قتلني ابن ملجم، قتلني اللعين ابن اليهودية، فزت ورب الكعبة".

وانما قال: فزت ورب الكعبة، لأنّ رسول الله (ص) قد أخبره: أنه سيضرب هذه الضربة وهو في سلامة من دينه، فكانت هذه الضربة علامة ختام أعماله الجبارة في سلامة من دينه صلوات الله عليه، وهذا درس عملي للناس أجمعين في أن يبذلوا أقصى جهودهم لتنتهي أعمالهم مع حسن العاقبة وفي سلامة من دينهم. فقد يزعم الإنسان انه صالح فتنتهي أعماله مع سوء العاقبة، وقد يتهم نفسه أنّه غير صالح، فتنتهي أعماله مع حسن العاقبة، ونستعيذ بالله من الاغترار بأعمالنا والركون إليها ونرجو منه التوفيق وحسن العاقبة.

نعم إنّ هذا الإنسان يقول حين يرى ما يرى من آثار الموت وهول المطلع وعذاب البرزخ والحساب الدقيق والعقاب الشديد: (لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ) (المؤمنون/ 100). (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ) (البقرة/ 166-167). وفي مكان آخر: (وَمَا أَضَلَّنَا إِلا الْمُجْرِمُونَ * فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ * فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (الشعراء/ 99-102).

وفي مكان آخر: (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ) (الزمر/ 55-59).

وروى الشيخ أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي في أماليه بسنده إلى الأصبغ بن نباتة، قال: لما ضرب ابن ملجم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع). غدونا عليه نفرٌ من أصحابنا: أنا والحارث وسويد بن غفلة وجماعة معنا، فقعدنا على الباب، فسمعنا البكاء من الدار. فبكينا. فخرج إلينا الحسن بن علي عليهما السلام، فقال: يقول لكم أمير المؤمنين انصرفوا إلى منازلكم. فانصرف القوم غيري واشتد البكاء في منزله، فبكيت. فخرج الحسن. فقال: ألم أقل لكم انصرفوا؟ فقلت: لا والله، يابن رسول الله، ما تتابعني نفسي ولا تحملني رجلاي أن أنصرف حتى أرى أمير المؤمنين وبكيت. فدخل الدار ولم يلبث أن خرج فقال لي: أدخل. فدخلت على أمير المؤمنين (ع). فإذا هو مستند، معصوب الرأس بعمامة صفراء قد نزف دمه واصفر وجهه. فما أدري وجهه أشد صفرةً أم العمامة، فأكببت عليه، فقبلته وبكيت. فقال لي: "لا تبك يا أصبع، فانها، والله، الجنة". فقلت له: جعلك فداك. إني أعلم والله انك تصير إلى الجنة، وانما أبكي لفقداني إياك، يا أمير المؤمنين.

نعم، يقول علي لأم كلثوم وهي تبكي، "أسكتي، فلو ترين ما أرى لما بكيت، هذه الملائكة وفود والنبيون، وهذا محمد (ص) يقول: يا علي، أبشر، فما تصير إليه خير ما أنت فيه".

ثمّ إنه صلوات الله عليه يوصي لابن ملجم، فيقول: "أبصروا ضاربي أطعموه من طعامي، واسقوه من شرابي، النفس بالنفس، إن هلكت، فاقتلوه كما قتلني. وان بقيت رأيت فيه رأيي".

ثمّ تزايد ولوج السم في جسده الشريف حتى احمرت قدماه وامتنع عن الأكل والشرب وشفتاه تختلجان بذكر الله وجبينه يرشح عرقاً وهو يمسحه فقال له ابن الحنفية: أراك تمسح جبينك؟ فقال: "يا بني" إني سمعت رسول الله (ص) يقول: "إنّ المؤمن إذا نزل به الموت عرق جبينه وسكن أنينه". ثمّ نادى أولاده كلهم بأسمائهم صغيراً وكبيراً وجعل يودعهم ويقول: "الله خليفتي عليكم، أستودعكم الله".

وهكذا يفارق الدنيا هذا الإمام العظيم الذي لن يأتي الدهر بمثله أبداً، وهكذا تنتهي حياته الشريفة التي ملؤها الفضائل ومكرمات وكرامات ومعجزات وبطولات وبلاغة وزهد وورع وتقوى إلى حد بعيد لن يصل إليها البشر العادي.

 

الهامش:


[1]- القيت هذه الكلمة في الـ(21) من شهر رمضان المبارك.

المصدر: كتاب التكامل في الإسلام

 

ارسال التعليق

Top