• ٢٧ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٨ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

التسامح في زمن العنف

أسرة البلاغ

التسامح في زمن العنف

المقدمة:

في هذا العصر الذي كثرت فيه الفتن وعصفت فيه أمواج العنف والتطرف والتعصب، لا يختلف اثنان في أنّ نشر ثقافة الحوار والتسامح قد أصبحت أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى، بل أصبحت ضرورة من ضرورات العصر، ليس فقط على مستوى الأفراد والجماعات، وإنما على مستوى العلاقات بين الأُمم والشعوب المختلفة... ولا سبيل إلى التعايش السلمي وحل المشكلات وتجنب النزاعات والخلافات إلّا من خلال الحوار والتسامح.

فالتسامح من القيم الأخلاقية الإسلامية الرفيعة التي حثّ عليها ديننا الإسلامي الحنيف في كثير من النصوص، بل ودعت له الفطرة الإنسانية والعقول السليمة، فهو قاعدة أساسية للتعايش والسلام، وأساس التعامل هو التسامح الراقي الذي يحكم علاقة الناس بعضهم ببعض.

 

من القرآن الكريم:

لقد جاء الإسلام بالحبّ والتسامح، والصفح، وحسن التعايش مع كافة البشر، ووطد في نفوس أبنائه عدداً من المفاهيم والأسس من أجل ترسيخ هذا الخلق العظيم ليكون معها وحدة متينة من الأخلاق الراقية التي تسهم في وحدة الأُمّة، ورفعتها والعيش بأمن وسلام ومحبة وتآلف. ومن تلك المفاهيم: العفو، والتسامح، والصفح عن المسيء، وعدم الظلم، والصبر على الأذى، واحتساب الأجر من الله تعالى.. حيث جاءت نصوص قرآنية وأحاديث نبوية لتأكيد هذه المفاهيم، وإقامة أركان المجتمع على الفضيلة، وحسن الخلق ومنها:

قوله تعالى:

(خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (الأعراف/ 199).

وقال تعالى:

(فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) (الحجر/ 85).

وقال تعالى:

(وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (النّور/ 22).

وقال تعالى:

(وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران/ 134).

وقال تعالى:

(وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمُورِ) (الشورى/ 43).

 

من السنّة النبوية:

1-  عن عائشة قالت: ما ضرب رسول الله (ص) شيئاً قط بيده ولا امرأة ولا خادماً، إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم الله تعالى فينتقم لله تعالى. (رواه مسلم)

2-  وعن أنس قال: "كنت أمشي مع رسول الله (ص) برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي، فجبذه بردائه جبذة شديدة، فنظرت إلى صفحة عاتق النبي (ص) وقد أثرت بها حاشية الرداء من شدة جبذته، ثمّ قال: يا محمد مرّ لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه، فضحك ثمّ أمر له بعطاء". (متفق عليه)

3-  وعن ابن مسعود قال: كأني انظر إلى رسول الله (ص) يحكي نبياً من الأنبياء – صلوات الله وسلامه عليهم – ضربه قومه فأدموه، وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: "اللهّمّ اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون". (متفق عليه)

4-  وعن أبي هريرة أنّ رسول الله (ص) قال: "ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب". (متفق عليه)

وغيره من الآيات والأحاديث الدالة على فضل العفو والصفح عن الناس والصبر على أذاهم، لاسيّما إذا أوذي في الله، فإنّه ههنا يجب الصبر والاحتساب وانتظار الفرج.

 

التسامح من الأخلاق الكريمة:

العفو والصفح والتسامح من الأخلاق الكريمة التي دعا إليها الإسلام، وتدل على نبل صاحبها وعلو منزلته، وقد ضرب لنا القرآن الكريم أروع الأمثلة وأحسن القصص عن أنبيائه ورسله وكيف تعاملوا مع من اعتدى عليهم... فها هو نبي الله يوسف (ع) وكلنا قرأ سورة يوسف أو سمع بقصته مع إخوته ومكرهم به عندما قذفوه في الجب وما تبعه من أذى نفسي وبدني واسترقاق وفتنة وسجن فضلاً عن فراقه لوالديه في سن مبكرة، وعندما دارت الأيام ومكنه الله عزّ وجلّ الأرض ليصبح وزيراً عند ملك مصر... ويأتي إليه إخوته وقد عرفهم وهم له منكرون... وعندما عرفوا أنّه يوسف وكان في موقف القادر على أن يقتص منهم وقد فعلوا به ما فعلوا لكنه عفا عنهم وصفح بل ودعا الله أن يغفر لهم كما قال تعالى:

(لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (يوسف/ 92).

 

اذهبوا فأنتم الطلقاء:

ضرب المصطفى (ص) أروع الأمثلة في التسامح والعفو، فكيف وهو معلم البشرية وداعية السلام، وها هي السيرة العطرة لنبينا محمد (ص) تحدثنا عن مواقفه العظيمة وتسامحه وعفوه وصفحه عمن آذاه واعتدى عليه في مواقف عديدة ولعل من أشهرها موقفه (ص) من كفار قريش يوم فتح مكة وقد صغر أمر قريش وكانت قد فعلت به (ص) ما فعلت وكذلك بقرابته وأصحابه من شتى صنوف الأذى والعذاب ولما مثلوا بين يديه لم يتبختر (ص) ولم يتعال ولم ينتصر لنفسه بل قال لهم ما تظنون أني فاعل بكم قالوا له أخ كريم وابن أخ كريم فقال لهم اذهبوا فأنتم الطلقاء... هكذا كانت أخلاق النبيّ فإنّه لم ينتصر لنفسه ولم ينتقم ممن ظلمه في يوم من الأيّام بل على العكس من ذلك عفا عمن عظمه ووصل من قطعه وأعطى من منعه وأحسن إلى من أساء إليه.

 

كن خير أخذ:

في إحدى الغزوات جاء رجل مشرك إلى النبيّ (ص) وكان نائماً تحت شجرة، ومعلقاً سيفه على تلك الشجرة، فأخذ الرجل السيف ورفعه على النبيّ (ص) وقال: من يمنعك مني يا محمد؟ قال النبيّ بكلِّ ثقة الله... فسقط السيف من يده، ثمّ أخذه النبيّ (ص) وقال: أنت من يمنعك مني؟ قال الرجل كن خير آخذ.. فقال له النبيّ (ص)، قال الرجل لا، ولكن أعاهدك أن لا أقاتلك أبدا. فتسامح النبيّ (ص) وعفوه وصفحه دفع الرجل للدخول للإسلام هو وقومه.

"التسامح نصف السعادة"

 

عبارات في التسامح:

·      يسيء بعضنا للبعض في اليوم عشرات المرات.. فلا يقول: عفواً أخي.

·      إنّ بعضنا يجرح بعضاً جرحاً عظيماً.. في عقيدته ومبادئه وأغلى شيء في حياته فلا يقول... سامحني.

·      إنّ البعض قد يتعدى بيده على زميله.. وأخيه.. ويخجل من كلمة: آسف.

-         الإسلام دين التقوى لم يفرق بين لون أو حسب أو نسب.

·      لماذا يعجز أحدنا عن الاعتذار لأخيه إذا أخطأ في حقه.. بهدية صغيرة.. أو كلمة طيبة.. أو بسمة حانية.. لظل دوماً على الحب والخير أخوة.

(قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ...) (الزُّمر/ 53).

 

أبيات شعر في التسامح:

·      يقول الشافعي:

يخاطبني السفيه بكلِّ قبحِ *** وأكره أن أكون له مُجيبا

يزيدُ سفاهة وأزيدُ حلما *** كعودٍ زاده الإحراق طيبا

·      كما يقول أيضاً حول الصديق، عندما أنشد:

سامح صديقك إن زلت به قدمُ *** فليس يسلمُ إنسان من الزللِ

·      ويقول آخر:

وعاشر بمعروفٍ وسامح من اعتدى *** وفارق ولكن بالتي هي أحسن

 

أشكال التسامح:

·      التسامح الديني:

قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (المائدة/ 69).

·      التسامح في المعاملات:

قال الله تعالى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ) (المؤمنون/ 96).

·      التسامح العرقي:

قال رسول الكريم في خطبة حجة الوداع: "إن أباكم واحدٌ، كلكم لآدم وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي فضل على أعجمي إلّا بالتقوى). من خطبة حجة الوداع.

·      التسامح الثقافي:

لكلِّ مجتمع ثقافته التي من حقه أن يعتز بها ويحاول نشرها بالتي هي أحسن.

من دلائل التسامح والانطلاق والتحرر من التعصب والإنغلاق ما يأتي:

-         النظر إلى القول لا إلى قائله.

-         الاعتراف بالخطأ، والرجوع عنه جهرةً وشجاعةً وصراحةً.

-         الترحيب وتقبل النقد البنَّاء.

-         تقبل النصح والتقويم من الآخرين.

-         الاستفادة مما عند الآخرين.

 

التسامح وقاية من الأمراض:

لقد أظهرت الدراسات النفسية أنّ الأشخاص الأكثر قدرة على سيطرة على أنفسهم والتحكم في حياتهم هم الأكثر إنتاجية والأكثر سعادة ورضا بحياتهم.

فالتسامح يزيل سرطان الكراهية من نفوس الناس ويقدم لهم الدليل أيضاً على أنّ العظماء من الأنبياء والمصلحين والمؤمنين ذاقوا المر من أجل التسامح، ودعوا إلى نبذ التعصب والعنف الذي يعمي العقول قبل العيون ويولد المشاعر السلبية تجاه أبناء البشرية عموماً ثمّ ينتهي إلى نبذ الآخر ولو كان من نفس الدِّين وإن اختلف معه في المذهب، وعلينا نحن البشر أن نتحلى بروح التسامح الذي هو التصالح مع الأحقاد الدفينة، فالتسامح هو فعل من مجني عليه تجاه الجاني وأساسه التحول من موقف سلبي إلى موقف إيجابي.

وكشفت دراسة طبِّيّة حديثة عن إعجاز علمي جديد في القرآن الكريم بأنّ الأشخاص الأكثر تسامحاً يتمتعون بصحة أفضل وعمر أطول من غيرهم الذين يفضِّلون ردّ الأذى بمثله ولا يميلون للعفو عن من أساء إليهم. وأكّدت الدراسة أنّ النصائح الإيمانية التي وردت في قوله تعالى: [وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ].

وقوله عليه الصلاة والسلام: "ما من عبد كظم غيظاً، إلا زاده الله عزّ وجلّ عزاً في الدنيا والآخرة". والعفو والصفح والتسامح يقوي المناعة ويقلل إفراز هرمون التوتر الذي يسبب ضغط الدم والسكر والأزمات القلبية واضطرابات الجهاز الهضمي والقولون العصبي.

أما عدم التسامح والصفح فإنّه يؤدي إلى الغضب وحب الانتقام وهو حالة نفسية، تؤدي لثورة الإنسان بالقول والفعل. وهو مفتاح الشرور، لما ينجم عنه من إثم، كالسخرية، واللمز والقتل، ولا يحدث عفوياً، إنما ينشأ عن أسباب وبواعث تجعل الإنسان سريع التأثر.

ارسال التعليق

Top