• ٢٨ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٩ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

التميّز الفني لفواتح السوَر

أحمد بسام ساعي

التميّز الفني لفواتح السوَر

◄كان من جملة ما تميّز به هذا النوع الأدبي السماويّ الجديد، فيما امتاز به من خصائص استقلّ بها عن الفنون الأدبية الأرضيّة، فواتحُ سوَره.

لقد جاءت افتتاحيّات السور القرآنية مختلفةً تماماً عمّا عهده العرب، في الماضي وفي الحاضر، من افتتاحيّات لمختلف فنونهم الأدبية، كالقصيدة والخطبة والرسالة والتوقيع والمقامة والمقالة والخاطرة والبحث والفصل من الكتاب.

وإذا أجرينا مسحاً لفواتح السور المائة والأربع عشرة التي يتألّف منها القرآن الكريم فسنجد معظمها، إن لم يكن كلها، مختلفاً تماماً عن أيّة فواتح معهودةٍ في أي فنِّ من الفنون الأدبية المعروفة لدى العرب، وربّما غير العرب أيضاً.

ولو نظرنا في طبيعة هذه الفواتح، بادئين بالأكثر فالأقل تكراراً في القرآن، فسنجدها متدرّجةً حسب الترتيب التالي:

1- هناك 29 سورةً تبدأ بحروفٍ محيِّرةٍ لم يعرف لها العرب تفسيراً مؤكّداً حتى اليوم. والغريب أنّ 28 من هذه السوَر تحتلّ مكانها بين السوَر الخمسين الأولى من القرآن، أمّا السورة التاسعة والعشرون منها فتحتلّ الرقم (68) ثمّ تخلو بعدها بقيّة السوَر من هذه الفواتح.

2- هناك 15 سورةً تبدأ بالقسَم.

3- هناك 14 سورةً تبدأ بفعلٍ ماضٍ، ولكنّ 12 من هذه الأفعال الماضية تدلّ على الزمن الحاضر، وربّما المستقبل، وليس الماضي، وهو استعمالٌ نادراٌ وصعبٌ في لغتنا، كما نجد في سورة (النحل) مثلاً: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ) (النحل/ 1)، أي سيأتي سريعاً، وفي سورة (الفرقان): (تبارك) أي هو مباركٌ. أمّا الفعل الثالث عشر فهو ماضٍ متعدٍّ ولكنّه، خلافاً للمعهود في لغتنا، لم يتعدّ في هذه الآية، ويَرد الفعل في سورة (المعارج): (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ)، فلا نجد للفعل (سأل) مفعولاً. والفعل الرابع عشر يأتي في صيغة الغائب ولكنّه، على غير المشهور في لغتنا، جاء في معنى المخاطَب، وهو في سورة (عبس): (عَبَسَ وَتَوَلَّى)، والمعنى (عبستَ وتولّيت).

4- هناك 10 سور تبدأ بالنداء، وبصيغةٍ قرآنيةٍ خاصّةٍ وثابتةٍ في السور جميعاً هي (يا أيّها)، وهي تختلف عن صيغ النداء في لغتنا، بل عن صيغة النداء في الحديث الشريف أيضاً؛ إذ تكاد تقتصر فيه على (يا) أو (أيّها) منفردتين.

5- هناك 7 سورةٍ تبدأ بظرف المستقبل (إذا)، والغريب أنّ الحالات السبع جميعاً تنحصر في الربع الأخير من القرآن، وأوّلها سورة (الواقعة) ولكن التميّز فيها أنّ الظرف (إذا)، الذي اعتدنا في لغتنا أن يتضمّن دائماً معنى الشرط، لا يتضمّن هذا المعنى في فواتح السوَر بل ينحصر فيها بالدلالة على المستقبل: (إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ) (الواقعة/ 1)، (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) (التكوير/ 1)، (إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ) (الإنفطار/ 1)، (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ) (الإنشقاق/ 1)، فلا وجود للشرط في هذه الفواتح، بل ربّما يتوجّه الظرف فيها إلى الحاضر، وأحياناً إلى الماضي، كما في سورة (المنافقون): (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ)، فقد جاءه المنافقون حقاً قبل نزول الآية، وكما في سورة (النصر): (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ)، فقد تمّ المصر والفتح قبل نزول الآية.

6- هناك 6 سور تبدأ بالتسبيح والثناء على الله أو الأمر بهما (الحمد لله الذي – سبحان الذي أسرى – سبّح اسم ربك) وهو أسلوب لم يعرفه العرب قبل الإسلام.

7- هناك 7 سورٍ تبدأ بفعل الأمر المفرد (قُلْ).

8- هناك 4 سورٍ تبدأ باسمٍ نكرةٍ (براءةٌ، سورةٌ، ويلٌ).

9- هناك 4 سورٍ تبدأ بأداة التوكيد (إنّ) ولكن المتصلة بضمير الجمع (نا) الذي جاء بمعنى المفرد وهو الله تعالى، وهذه السوَر الأربع جميعاً تنحصر في السدس الأخير من القرآن، وأوّلها سورة (الفتح): (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا).

10- هناك 3 سورٍ تبدأ بآيةٍ مؤلّفةٍ من كلمةٍ واحدةٍ لا أكثر (الرحمن، الحاقّة، القارعة).

11- هناك 3 سورٍ بفعلٍ مضارع، ثابتٍ أو منفيّ، ولكنّه لا يختص في أيٍّ منها بالمستقبل؛ بل بالماضي المتصل بالحاضر (يسألونك، يسبّح، لم يكن).

12- سورتان تبدآن بـ(لا) النافية (لا أقسم)، ولكنّ (لا) هنا مختلفةٌ عن (لا) النافية المعتادة في لغتنا، فهي هنا بمعنى (نعم) كما يرى كثيرٌ من المفسّرين.

13- سورتان تبدآن بـ(قد) التحقيقيّة (قد أفلح، قد سمع) وليس هذا ممّا اعتادته العرب، إلا أن ترتبط باللام (لقد).

14- سورتان تبدآن بالاستفهام المنفيّ (ألمْ) مما لم تعتده فواتحنا البشريّة.

15- سورتان تبدآن بحرف الاستفهام (هل)، ولكنّه لا يأتي للإستفهام بل للتأكيد، فهو فيهما بمعنى (قد): (هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ حِينٌ) (الإنسان/ 1)، (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ) (الغاشية/ 1)، والمعنى (قد أتى).

16- سورةٌ واحدةٌ تبدأ بمصدر: (تَنْزِيلُ الْكِتَابِ) (السجدة/ 2).

17- سورةٌ واحدةٌ تبدأ باسمٍ موصولٍ (الَّذِينَ كَفَرُوا).

18- سورةٌ واحدةٌ تبدأ بـ(عمّ): (عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ) (النبأ/ 1).

19- سورةٌ واحدةٌ تبدأ بهمزة الإستفهام (أ): (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ) (الماعون/ 1).

20- سورةٌ واحدةٌ تبدأ بجارٍّ ومجرورٍ لم يُذكر متعلَّقهما (لإيلاف).

21- سورةٌ واحدةٌ تبدأ بالبسملة، وهي فاتحة الكتاب.

والآن، هل اعتاد الكتّاب، في أيٍّ من الفنون الأدبيّة المعروفة، أن يبدأوا كتاباتهم بالقسَم مثلاً؟ أو بفعلٍ ماضٍ يأتي بمعنى المستقبل؟ أو بصيغة النداء (يا أيّها)؟ أو بالنكرة؟ أو بالأداة (قد)؟ أو بمصدر؟ أو باسمٍ موصول؟

وللإجابة عن هذا السؤال دعوني أتناول معكم أقرب كتابٍ إلى يدي على أرفف المكتبة. هذا هو الجزء الأوّل من كتاب "وحي القلم" لعبقريّة النثر العربي في القرن العشرين الأديب مصطفى صادق الرافعي. سنُجري الآن إحصاءً سريعاً للفواتح في مقالات الكتاب، وسنجد أنّ هذه الفواتح جاءت بالترتيب على الشكل التالي:

جاء في تاريخ الواقديّ – جاء يوم العيد – ما أشدّ حاجتنا – خرجتُ أشهد الطبيعة – كانت جلوةُ العروس كأنّها – إذا احتدم الصيف – ما أجمل الأرض – جاء في امتحان شهادة – اجتمع ليلة الأضحى خروفان – عصمت ابن فلان باشا طفلٌ – على عتبة البنك نام الغلام – كان فلانٌ ابن الأمير فلان – كانت هذه المرأة وضّاحة الوجه – كانت لها نقسٌ شاعرة – صاح المنادي في موسم الحجّ – قال رسول عبد الملك – ذهب الناس يميناً وشمالاً – جلس جماعة أصحاب الحديث – قال أبو معاوية الضرير – دخل أحمد بن أيمن – قال صاحبها وهو يحدّثني – كتبت إليّ سيّدةٌ فاضلة – هؤلاء ثلاثةٌ من الأدباء – قال الشابّ – أرملة الحكومة فيما تواضعنا عليه – قال أبو خالد الأحوال الزاهد – فرغ أبو يحيى مالك بن دينار – أحبّها وأحبّته – لكأنّما والله قد تمدّد على سيف البحر – ترجمنا عن الشيطان قصيدة – كيف يُشعَب صَدعُ الحبّ – جلستُ على ساحل الشاطبيّ – جلست وقد مضى هزيعٌ من الليل – أفي الممكن هذا؟ - قالت لي صاحبة الجمال البائس.

يا تُرى كم من هذه الفواتح الخمس والثلاثين تلتقي مع فواتح القرآن الكريم؟ والحقيقة أنّه حتى تلك التي يمكن أن نظنّ للوهلة الأولى أنّها متشابهة؛ فإنّها ليست كذلك.

فالفعل الماضي يدلّ على الزمن الماضي الحقيقي في جميع الحالات الستّ والعشرين من الأفعال الماضية في فواتح الرافعي، ولكنّه لم يكن كذلك في أيٍّ من حالاته الخمس عشرة في فواتح السور. ثمّ إنّ الحالة الوحيدة التي افتُتحت فيها مقالة الرافعي بهمزة الاستفهام جاء فيها الاستفهام حقيقياً (أفي الممكن هذا؟"؛ أو جاء على أبعد الأحوال للتعجّب، على حين جاءت الهمزة في الحالة الوحيدة لها في فواتح السور (أرأيت يكذّب بالدين) للإخبار وليس للإستفهام، أي: (دعني أخبرك بأمر الذي يكذّب بالدين)، وعلى هذا يمكن أن نقيس بقيّة الفواتح.

إنّ ظاهرة اختلاف الفواتح القرآنيّة عن فواتح أيّ فنٍّ أدبيٍّ بشريّ، هي جزءٌ من الظاهرة العامّة الكبرى التي تشمل لغة القرآن جملةً وتفصيلاً، وهي دليلٌ على أنّ هذه اللغة تختلف عن اللغة البشريّة على اختلاف أنواعها، بما فيها لغة الحديث النبويّ أيضاً.

 

المصدر: كتاب المعجزة (إعادة قراءة الإعجاز اللغوي في القرآن الكريم)

ارسال التعليق

Top