• ٣٠ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٢١ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

التوبة والتعبير عن واقعيّة الإسلام

أسرة البلاغ

التوبة والتعبير عن واقعيّة الإسلام

◄الإنسان هو المخاطب بالتشريع، ونشاطاته المختلفة هي مجال انطباق الأحكام والتشريعات الإسلامية؛ وما جاء الإسلام إلّا ليطابق بين نشاط الإنسان واتّجاهه في الحياة، وبين إرادة الخير ومشيئة الرّحمة في هذا الوجود؛ لذا فإنّ هذه المطابقة تقتضي منتهى الدقّة في تقويم طبيعة الإنسان، واستعداداته وإمكاناته، لئلّا تتعذّر هذه المطابقة وتنسف غاية الدِّين.

ومن هنا كانت التكاليف الإسلامية تجري بمستوى الطاقة والاستعداد الإنساني، قال تعالى: (لا يُكَلِّف اللهُ نَفْسَاً إلا وُسْعَهَا) (البقرة/ 286).

وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (النّور/ 21).

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) (النساء/ 49).

(وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (يوسف/ 53).

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ...) (ق/ 16).

"إنّ الله يُحب مِن عبادهِ المفتّن التوّاب".

"إن الله عزّ وجلّ أعطى التائبين ثلاث خصال لو أعطى خصلة منها جميع أهل السّماوات والأرض لنجوا بها: قوله عزّ وجلّ: (إنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ).

وقوله: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا -إلى قوله- وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (غافر/ 7- 9).

وقوله: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا* يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا* إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ -إلى قوله- وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) (الفرقان/ 68- 70).

والإسلام عندما استهدف عملية المطابقة بين إرادة الإنسان ونشاطه من جهة، وبين إرادة الخير والرّحمة الرَبّانية من جهة اُخرى، أخذ بنظر الاعتبار: أنّ الاستعداد الإنساني بما يحمل من نوازع نفسية، وقدرة عقلية وجسمية محدودة، وبما يعاني من انقسام بين طريقين في الحياة؛ طريق الخير، وطريق الشر، لا يستطيع أن يتوافق دائماً مع إرادة الله سبحانه. ولا يمكنه أن يستقيم على امتداد الخط دونما نكوص أو تعدٍّ وشذوذ، لأنّ طبيعة ما يحمل من قوى ودوافع ونزعات واستعدادات تقصر به عن أن يكون الظل الحقيقي في هذه الأرض لإرادة الخير المطلق، وغاية الخلق الكبرى.

وقد ورد عن الإمام جعفر الصادق (ع) ما يترجم هذه الحقيقة، ويعبِّر عنها، وهو قوله: "المؤمن كالسنبلة يضيء أحياناً ويميل أحياناً اُخرى".

"لابدّ للمؤمن من ذنب يأتيه الفينة بعد الفينة".

لذا فإنّ الإسلام كما شرّع القوانين والأحكام وقواعد التنظيم الأساسية للحياة، أدخل كذلك في حسابه حقيقة عدم التطابق الكلِّي، وحصول المعصية والشذوذ عن الاستقامة، فجعل لهذا الشذوذ والعصيان والخروج علاجاً خاصّاً به وتشريعاً شاملاً لتنظيمه، بغية العودة بالإنسان إلى خط الاستقامة والتطابق مع إرادة الخير، وغاية الوجود الكبرى، وهي الاتّجاه التكاملي نحو الخير الأعظم.

ومن هنا جاء تشريع الإسلام للتوبة، وتأكيده على أنّ الإنسان لا يمكنه أن يكون حقيقة إراديّة تمثل إرادة الخير، وتتسامى إلى معارج الكمال إلا برحمة من الله، وإلّا بفتح باب العودة إليه؛ كلّما شذّ الإنسان أو انحرف. وبذا كان الإسلام واقعياً وعملياً عندما تعامل مع الإنسان تعاملاً يناسب واقعه كإنسان يخطئ ويصيب، وينحرف ويستقيم.

ولذا أكّد القرآن الكريم، والأحاديث الشريفة للإنسان هذه الحقيقة ليتذكَّر فضل الله عليه وليدرك لماذا يعصي؟ ولماذا يتوب؟ وما هي علاقته بالله وهو يعصي ويتوب، ويخطئ ويعتذر..؟

فمن أجل ذلك جاء الإيضاح كافياً في جملة من النصوص الّتي تكشف للإنسان حقيقة ذاته، وطبيعة علاقته، ودرجة تطابقه مع إرادة الله سبحانه، والتزامه بشريعته:

(وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُم مِنْ أحَدٍ أبَداً) (النور/ 21).

(ألَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أنفُسَهُم بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَن يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) (النساء/ 49).

(وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غُفُورٌ رَحِيمٌ) (يوسف/ 53).

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ...) (ق/ 16).

أوضحت هذه الآيات أنّ النفس الإنسانية: (أمّارة بالسُّوء) وانَّها تنزع للاستقلال في هذا الوجود والانفصام عن إرادة الله، بما تتلقّى من أوهام ووساوس ونفثات الشرّ الشيطانية، لتكون إلهاً في الأرض. إلّا أنّ رحمة الله هي الّتي تظلِّل هذا الكائن البائس ليغمره الحبّ الإلهي، ويشمله العفو الرَبّاني، فينهض مرّة اُخرى من كبوته وسقوطه، ليواصل مسيرة التكامل وحبّ الخير بعد أن يستفيق في أعماقه حسّ الضمير، ويحاول تجاوز دائرة الظلام إلى عالم النور والعودة إلى رحاب الله، ليحقِّق أهدافه في الوصول إلى الله، إلى الخلود والسعادة الأبدية.

وليجد نفسه سابحاً في هالة من الحبّ والسعادة، متقلِّباً في عوالم العفو والرّحمة والإجلال..

فالملائكة تسبِّح بحمد الله وتستغفر للتائب، وخالقُه الّذي أحصى عليه تمرّده وعصيانه، يصفح عنه ويرضى بعودته، ويحبّ قربه:

(... إنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوّابينَ وَيُحِبُّ المُتطَهِّرِينَ) (البقرة/ 222).

"التائب عن الذنب كمن لا ذنب له، التائب حبيب الله".

وبذا يجد العبد أبواب العودة مُشْرَعة، وآفاق القبول رَحِبَة متّسعة، لئلّا يستبدّ به اليأس، ويطغى عليه القنوط، فيتمادى في المعصية، ويودِّع حياة الاستقامة.. إلى غير رجعة.

ارسال التعليق

Top