• ١ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٢ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الثقافة والتجديد

ماجد الغرباوي

الثقافة والتجديد

التجديد عملية شاقة، تحفها مخاطر محاكمة الواقع ودراسة مشكلاته بغية تقويمها، وترصدها تبعات نقد الأنساق الثقافية والفكرية لبنية الفرد المعرفية، لإعادة صياغتها وفقاً لمتطلبات الحاضر وضرورات المستقبل، وفي إطار الثابت والمتغير من الدِّين.

من هنا نحذر من صيرورة التجديد ممارسة سلبية تعمّق الأزمات، وتولّد إشكاليات غير مقصودة، ناتجة عن قصور الخبرة الإصلاحية، وعدم اكتمال الشروط اللازمة في شخص المجدد.

لكن يبقى همّ التجديد بنفسه، وإن لم يطال الواقع في مرحلته الراهنة ـ فعلاً إيجابياً يحرك دواعي النقد والمراجعة، ورصداً متواصلاً للواقع، ربما يتحوّل إلى نقطة انطلاق باتجاه عملية التجديد والإصلاح، أي إصلاح الفضاء الثقافي والاجتماعي. من هنا تأتي ضرورة تفعيل الهمّ الإصلاحي في الثقافة الإسلامية وتنشيطه في ضمير الأُمّة.

ومنشأ الحاجة إلى التجديد هو التطوّر الحضاري المتصاعد، الذي راح يلقي بظلاله، منذ عصر النهضة، واتصال المسلمين بالحضارة الحديثة إبان التماس الغربي الإسلامي، حينما اكتشف المسلمون الفارق الحضاري بينهم وبين الآخر، ووعوا مقدار التخلّف بالقياس إلى ما كانت عليه الحضارة الإسلامية، وما حققته الحضارة الغربية اليوم، فراحوا يبحثون عن أسباب التخلّف عبر مراجعة حقيقية للواقع ومكوناته الثقافية.

غير أنّ الشرق بشكل عام والمسلمين بشكل خاص انقسموا أمام النهوض الحضاري المفاجئ إلى ثلاثة اتجاهات: الأوّل كان منبهراً بالغرب إلى حدّ التخلي عن كلّ ما يمت إلى الأُمّة من صلة فدعا هذا الصنف (وهم المتغرّبون) إلى نبذ التراث وإنشاء قطيعة معرفية معه، ليحل النموذج الغربي محل النموذج السائد في حضارتنا، غير أنّه كان حلاً مبتسراً للمشكلة ساهم في تعميقها من خلال تبنّي مفاهيم جديدة تكوّنت في فضاءات ثقافية غريبة عن بيئتنا، جاءت لتطمس هُويّة الأُمّة ومعالمها الحضارية، وتفقدها أصالتها وانتماءها. وهنا سيكون استدعاء النموذج الغربي بجميع حمولته الثقافية معيقاً للتطوّر المنشود.

والاتجاه الثاني ارتد سلفياً رافضاً لمعطيات الحضارة الحديثة، منكباً على التراث لا يرى غيره، ويصر على تكرر النموذج الحضاري الإسلامي رغم تاريخيته، في حين عاد الاتجاه الثالث إلى التراث، يستنطقه ويبحث فيه عن مصدر قوّته، ليؤسس من عناصره القادرة على البقاء قاعدة تستوعب معطيات الحضارة الحديثة في إطار الإسلام وقيّمه ومبادئه. فهذا الاتجاه لا يجمد على التراث ولا يرفضه، وإنما ينقده ويقوّمه ليستلهم منه منهجه في الرقي الحضاري. ثم لا يرتمي في أحضان الغرب ولا يرفض معطياته الحضارية، لأنّ جزءاً كبيراً منها يُعدّ نتاجاً إنسانياً، يمكن لأية حضارة أن تستوعبه ضمن أُطرها الدينية والحضارية.

ثمة حقيقة أنّ الاتجاه الثالث لم يتغلغل في أعماق الوسط الاجتماعي ليستنقذه من التردي الثقافي، بل ظل هماً محدود التأثير، يتعهده رواد الإصلاح الواحد تلو الآخر، ولم يتحوّل بعد إلى تيار عارم (متمرد) يهز ضمير الأُمّة ويوقظ شعورها بالمسؤولية تجاه مستقبلها، ودعوتها إلى رفض السكونية الناتجة عن عدم وعي الأزمات، أو الناتجة عن عدم إدراك خطورة التراكمات التاريخية والفكرية والسلوكية، على مستقبل الدِّين، لهذا ظلت الدعوة إلى مراجعة الفكر والثقافة والإلحاح على دراسة الواقع ومكوّناته الثقافية دعوة (مريبة) تستفز مشاعر فئة من المتطفلين على الدِّين، ممَن يخدمهم انشغال الناس بالخرافات والطقوس الخالية من أي محتوى ديني، ويزعجهم الوعي واكتشاف التزوير والبُدع المختلطة بالدِّين.

مما تقدم نكون قد اقتربنا من فهم العلاقة بين الثقافة والتجديد، واكتشفنا علة الجدب في مجالي الإصلاح والتجديد. كما تبيّن أنّ المُجدد يستدعي شروطاً ومواصفات خاصّة تؤهله لولوج أخطر عملية اجتماعية وفكرية. وأهم تلك الخصائص أن يكون المُجدد مثقفاً ـ بمعناه العام وليس المقصود هو الانتماء إلى طبقة هي دون المفكر، الواقع بدوره تحت طبقة الفقهاء، وإنما المراد مفهوم المثقف الذي ينطبق على جميع الفئات حينما تتوافر مستلزماته ـ، وما لم يكن الشخص مثقفاً لا يعي ضرورة التجديد، أو يعيها لكن لا يتحمّل تبعاتها. أمّا المثقف فإنّ مكوّناته تؤهله لخوض غمار المعركة الاجتماعية. ولكي نمعن في فهم العلاقة بين الثقافة والتجديد أكثر سنبدأ بتشخيص مكوّنات المثقف وتحديد دور كلّ واحد منها.

من خلال السياق التاريخي لنشأة مصطلح المثقف وما يختزنه من دلالات يتضح أنّ مفهوم المثقف يتكون من ثلاثة عناصر (معرفة، وعي، موقف) تتشابك فيما بينها لتصوغ شخصيته، وعندما يتخلف أحدها يفقد المفهوم صدقيته، ويبقى إطلاقه على بعض الناس من باب المجاز، لتخلّف الإطلاق الحقيقي عن شرطه الموجب لتحققه وانطباقه على موضوعه.

وتأسيساً على ما تقدم يمكن ضبط المصطلح واكتشاف صدقيته بعد تفحص المكوّنات الثقافية لأي شخص يمارس العمل الثقافي وتحديد نقطة الخلل في شخصيته، مما يمهد لمعالجته بسهولة، إذا توافرت الأرضية اللازمة له.

وتلك العناصر لا تفرض توافرها على مستوى واحد في كلّ مثقف، وإنما يتحقق مفهوم المثقف بالحد الأدنى منها. لأنّها ترتبط باستعداد الشخص وقدرته على استيعاب الدافع وتشخيص الأمراض وإدراك الحلول المناسبة له.

بينما يستدعي التجديد آفاقاً واسعة تكافئ مهمّته التاريخية، والحد الأدنى من العناصر الثقافية تعجز عن تكوين مصلح ريادي يهدف إلى تغيير الواقع، ويساهم في إعادة بناء عقل المسلم وتشكيل وعيه. فالمُجدد طموح تستهويه المغامرات من أجل هدف تجديدي، يتمخض عنه إصلاح المجتمع أو الفكر. لذا فهو بحاجة إلى زاد ثقافي يديم عنده حالة التذمر والرفض لكلّ ألوان الجهل والتزوير التي استنزفت طاقات الأُمّة وتركتها تغط في سبات عميق.

فالمثقف الرسالي لا يتوقف عند محطة معينة، ولا ترهقه متاعب التجديد، وإنما يدفعه همّ الإصلاح نحو مزيد من الثقافة والوعي والتضحية بغية تقويم الواقع ووضعه في سياقه الحضاري.

ولكي تكتمل الرؤية عن العلاقة بين الثقافة والتجديد، نتطرق بإيجاز إلى دور العناصر الثقافية في العملية الإصلاحية.

1 ـ المعرفة:

يفتقر المجدد في ممارسة نقد الواقع ومحاكمة انساقه الثقافية إلى خزين ثقافي، يُمكِّنه من قراءة التراث الإسلامي والنص القرآني قراءة متأنية، تكشف عن مداليلها الحقيقية، وتجلي عنها تراكمات المفسرين المتلاحقة. وهذا يستدعي أن يتوافر الدارس على أدوات البحث العلمي والتسلّح المعرفي قبل أن يشرع في تفكيك التراث وفرز ما هو ثابت من الدِّين، وما هو فكر إنساني يحتفظ بتاريخيته وتطاله يد التجديد في إطار أهداف الشريعة ومقاصدها.

وفي غير هذه الصورة ستأتي النتائج شوهاء قاصرة عن إدراك الحقيقة، وعاجزة عن تقديم حلول صحيحة لمشكلات الواقع. وقد يؤدي هذا المنهج في التفاعل مع الفكر إلى ردة فعل معاكسة يكون ضحيتها الدِّين وليس التراث أو الفكر الإسلامي وحده.

وأمثلة هؤلاء كثيرة، ولاسيما في وسط المثقفين حينما يقتحمون مجالات فكرية خارجة عن تخصصاتهم من غير عدة تنظيرية، فينتهون إلى نتائج تشكّل خطراً حقيقياً على مستقبل الأُمّة.

من جهة أخرى، يفترض أن لا يكون المثقف أُحادي الثقافة، لا يرى إلّا بعين واحدة، يقرأ من خلالها الأشياء، ويقيم في ضوئها الواقع، فينحجب عنه الوجه الآخر من الحقيقة وتختلط لديه الأوراق حتى تصل حدّ الرفض لأي فكر يتقاطع مع رؤيته. لأنّه يرى لأفكاره ومتبنياته قدسية تتعالى على المراجعة والتقويم، ويعتقد أنّ واجب الآخرين التلقي والانصياع فقط مع حرمة الاعتراض والنقد، وبعبارة أخرى أنّه يطالب الآخرين بإلغاء عقولهم والتنازل عن جميع قناعاتهم، والتكيّف نفسياً مع الأفكار المطروحة.

والثقافة الأُحادية يمكن أن تكون أشد خطراً على الإنسان من الجهل، لأنّ الأخير سرعان ما ينقشع بالتعلّم والمعرفة، في حين يكون الأوّل محجوباً عن رؤية التزوير والخطأ في الوسط الاجتماعي، وربما يكرّس الخطأ لاعتقاده بصوابه، ويدافع عن الباطل لأنّه حقّ في نظره. وهذا الصنف من الناس أوّل مَن يشهر سيفه بوجه المشاريع الإصلاحية، ويقف بالمرصاد لكلّ عمل تجديدي يتبصر الواقع ويعمل على تغييره، لأنّ الإصلاح والتجديد في معتقده عمل مشبوه يريد استئصال القيم السائدة، وتحطيم الأنساق الثقافية، وبذلك سينتهي برأيه أمد الدِّين. فلا يفقه أنّ التجديد إحياء وبعث للقيم الإسلامية التي سحقتها المصالح البشرية وشوهتها الأغراض الدنيوية، وهو ـ في المحصلة النهائية ـ إعادة قراءة المفاهيم في ظل المتغيرات الحياتية.

ويكمن التخلص من الثقافة الأُحادية بالمواظبة على القراءات النقدية التي توفر رؤية واضحة للواقع وأبعاده المختلفة. وتضع الثقافة والفكر أمام مراجعة متواصلة بغية تقويمهما وتشخيص نواقصهما. كي لا نتقوقع في دائرة الذات ونكون سلبيين مع كلّ مَن نختلف معهم فكرياً، فنخسر الكثير وتجتازنا عجلة الزمن.

إذاً، الحمولة المعرفية لأُحادي الثقافة لا تساعده على فقه الواقع ومتطلباته، ويستحيل عليه أن ينشغل بهمِّ التجديد، بل أنّ تحييد هذا الصنف من الناس يُعدّ بنفسه عملاً عظيماً يفتح آفاقاً واسعة أمام رواد الإصلاح.

2 ـ الوعي:

يشكّل الوعي نقطة انطلاق في مهام التجديد، والوعي يغاير المعرفة والاطلاع واختزان المعلومات، فربما يراكم الشخص في ذاكرته كماً كبيراً من المعارف والعلوم، غير أنّه يفتقر إلى الوعي، لأنّ المعلومة حينما تستقر في لا وعيه لا تضيء فضاءه المعرفي، فلا تحرك المظاهر الخاطئة والمفاهيم المزورة فيه هم الإصلاح والتجديد.

الوعي يعني إدراك الواقع وفقه ملابساته وتشخيص أخطائه بعد تفكيك مكوّناته ومحاكمة أنساقه. والشخص الواعي مرهف الحس، شديد الحساسية إزاء التزوير والمغالطات، لا يتكيف مع الواقع المزور، بل يعيش حالة من الغليان والثورة الداخلية ضد القيّم المصطنعة، ويتطلع باستمرار إلى التجديد والإصلاح.

يرتبط التجديد بالوعي ارتباطاً عضوياً، ولولا الوعي لا تتحرك في المثقف دواعي التجديد ولا يتولّد لديه همّ الإصلاح. وأزمة التجديد هي الوعي، فالبعض لا يعي التجديد ولا يعي ضرورته في ظل المتغيرات التي يزخر بها الواقع. فالخطوة الأولى على طريق التجديد، هي أن يعي المثقف وجود أزمة في الفكر والثقافة ويعي خطورتها وضرورة معالجتها، ثم ينطلق لوضع الحلول المناسبة لها.

ومن الأزمات التي تعصف بالوعي هي عدم التمييز بين الدِّين وغير الدِّين، والفصل بين المقدس وغير المقدس. فقد يلتبس الأمر بين ما هو فكر بشري لا يتعالى على النقد، وبين ما هو من الدِّين لا تمسّه يد المراجعة والتقويم. أو لا يعي الظروف الزمانية والضرورات الحياتية الدخيلة في عملية استنباط الأحكام الشرعية.

وعندما يتبلد الوعي يدخل التجديد في دائرة محاربة الدِّين أو دعوة ارتداد عن العقيدة والمذهب يجب محاربتها لحفظ بيضة الإسلام. لكن عندما يتأجج الوعي تدرك الأُمّة الخط المائز بين الدِّين والفكر، الذي هو تراث بشري لا ينفصل عن تاريخيته. وحينها نفهم جيِّداً أنّ الفكر الإسلامي يمثل قراءة للدين تمت في إطار التاريخ، أي ضمن ظروف زمانية محددة. لذا اعتبر بعض الفقهاء عنصري الزمان والمكان دخيلين في العملية الاجتهادية، لاستنباط الأحكام الشرعية، بغية الاجابة عن أسئلة العصر، والكف عن أسئلة الماضي التي لا مساس لها بالحاضر (وليست مورد ابتلاء المكلفين.. كما يعبر الفقهاء).

فمهمّة الثقافة في الوقت الراهن تنحصر في بث الوعي وتعميق الشعور بالحاجة إلى التجديد، بعد الكشف عن الأزمات التي يعاني منها الفكر والثقافة الإسلاميتان. والتواصل مع الثقافة النقدية لتقصي الحقائق وإدراك الأبعاد الحقيقية للواقع.

3 ـ الموقف:

الموقف هو العنصر الأساس في بلورة مفهوم (المثقف) في العصر الحديث. وقد أرّخ لهذا المفهوم من خلال حادثة تاريخية معروفة، اتّخذ فيها مجموعة من المشتغلين بالفكر والثقافة موقفاً تاريخياً سجّلوا فيه نقطة انعطاف كبيرة، واكتسبوا عنواناً جديداً اسمه (المثقفون). وظل المفهوم منذ ذلك التاريخ لا ينطبق على شخص المثقف ما لم يتمتع بشجاعة كافية للإعلان عن مواقفه.

وكم خسر المسلمون بسبب الخذلان وعدم الشجاعة في بيان الحقيقة، وكم تسببنا في تراكم الأخطاء مداراةً للناس وعدم المساس بمشاعرهم.

فماذا يترتّب على المعرفة والوعي إذا لم يتحوّلا إلى موقف شجاع يعلن على رؤوس الأشهاد، وينفع في إصلاح واقع الأُمّة؟

لذا لا يمكن أن نطلق مصطلح المثقف على شخص يشكو الشجاعة في التعبير عن آرائه، ولا يستطيع أن يمارس النقد إلّا في خلواته.

تبيّن مما تقدم أنّ مكوّنات المثقف (المعرفة، الوعي، الموقف) مترابطة فيما بينها، ولها دور في عملية التجديد، واتضح أيضاً أنّ التجديد ليس إجراء قسرياً وإنما هو عملية طوعية، تتوقف فاعليتها على تفاعل العناصر الثلاثة فيما بينها.

كما يمكن أن نسجّل نتيجة مهمّة مفادها أنّ بعض الناس قاصر عن إدراك ضرورة التجديد أو قاصر عن وعي وجود أزمة مسؤولة عن مظاهر التخلّف في مجتمعنا. ومن هنا فإنّ بعض الحالات يمكن علاجها من خلال نمط الثقافة.

وعليه، فالثقافة بمكوّناتها الأساسية هي المسؤول الأوّل عن إصلاح الوسط الاجتماعي والفضاء الفكري. فمسؤولية المثقف والمُجدد تتجه نحو إصلاح الأنساق الثقافية بعد تفكيك مكوّناتها، ثم مراجعتها ونقدها بغية تقويمها، في خطوة أولى باتجاه إعادة صياغة البُنى الثقافية صياغة تخدم مصالح الدِّين والأُمّة معاً.

ارسال التعليق

Top