• ٧ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٨ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الجانب المالي في فلسفة الحكم لدى الامام علي (ع)

د. نوري جعفر

الجانب المالي في فلسفة الحكم لدى الامام علي (ع)

قد لخص الإمام الجانب الاقتصادي في فلسفته في الحكم في يوم السبت لاحدى عشر ليلة بقين من ذي الحجة سنة 35ه‍، وهو اليوم الذي تلا اليوم الذي بويع فيه خليفة للمسلمين، حين جعل المساواة في العطاء بين الناس أساساً لسياسته الاقتصادية.
إنّ الحرمان المادي لم يثر امتعاض ذوي المصالح من المهاجرين ولم يثر أحقادهم "نظراً للإثراء الفاحش الذي كانوا يتمتعون به" بمقدار ما أثار تطبيق مبدأ المساواة نفسه في التقسيم ذلك الامتعاض وهذا الحقد.
فقد عومل أولئك السادة كما يعامل غيرهم من المسلمين، وفي هذا ما فيه وبنظرهم ونظر كثير من الناس من تصديع لهيبتهم وخدش لكرامتهم.
على أنّ الأمر لم يقف عند المهاجرين وحدهم لأنّ مبدأ المساواة قد شمل الأنصار كذلك، فلم يصبح هناك فضل لأحد على أحد.
ولهذا نجد علياً بعد أن فرغ من المهاجرين يخاطب عبد الله بن أبي رافع، كاتبه، على مرأى ومسمع من الناس بقوله:
"ثم ثن بالأنصار فافعل معهم مثل ذلك" أي أعط كلاً منهم ثلاثة دنانير:
قلة في العطاء لم يألفوها منذ وفاة النبي، وضعضعة في النفوذ والجاه.
ثم انتقل الخليفة إلى موضوع المسلمين من غير العرب فقال لكاتبه:
"ومن حضر من الناس كلهم _الأحمر والأسود _ فاصنع به مثل ذلك". إعط ثلاثة دنانير لكل مسلم بغض النظر عن الجنس والمركز الاجتماعي وما شاكلهما من الاعتبارات الجاهلية التي مسخها الإسلام. فارتاع أصحاب المصالح المركزة وفرح بذلك أغلب المسلمين.
ومن الطريف أن نذكر في هذه المناسبة أن سهل بن حنيف "الصحابي الجليل المعروف" جاء مع المسلمين لتسلم حصته من المال "وجاء معه غلام له كان قد أعتقه في يوم القسمة، فقال للإمام: يا أمير المؤمنين هذا غلامي بالأمس وقد أعتقته اليوم. فقال علي: نعطيه كما نعطيك. وأعطى كل واحد منهما ثلاثة دنانير ولم يفضل أحداً على أحد".
ومما يروى في هذا المجال أنّ طلحة والزبير وعبد الله بن عمر بن الخطاب وسعيد بن العاص ومروان بن الحكم قد امتنعوا عن تسلم الدنانير الثلاثة التي فرضها لهم الإمام. "فعلوا ذلك بالطبع لعدم حاجتهم إليها أولاً، ولأنّ ذلك يجرح كرامتهم ثانياً" فاجتمع هؤلاء في ناحية من المسجد _على مرأى من الإمام _ وتحدثوا نجياً مدة من الزمان، ثم أرسلوا الوليد بن عقبة بن أبي معيط ليعاتب الإمام على تصرفه في التقسيم. فجاء الوليد وشرح للخليفة وجهة نظر القوم، وبيّن له سابقة بعضهم في الإسلام وما كانوا يمتازون به من العطاء ، وناشده الرأفة بهم وبأحسابهم العربية الأصيلة...
وبعد أن انتهى ابن أبي معيط من حديثه مع الخليفة ارتقى على منبر النبي وخاطب الحاضرين:
أما بعد: فأفضل الناس عند الله منزلة وأقربهم من الله وسيلة، أطوعهم لأمره وأعملهم بطاعته وأتبعهم لسنته وأحياهم لكتابه. ليس لأحد عندنا فضل إلا بإطاعة الله وإطاعة رسوله".
فأسقط في أيدي القوم وتأكدوا أنّ أبي طالب لا يحيد عن تطبيق خطته التي رسمها له القرآن وسار رسول الله وفق مستلزماتها. فأسر بعضهم في نفسه الشر، ولجأ إلى تدبير المؤامرات وأحداث القلق والفوضى في جسم المجتمع الإسلامي آنذاك. فكانت حرب الجمل وصفين والنهروان فالتحكيم فمصرع الإمام كما هو معروف.
الحق إنّ الخليفة لم يقم بشيء يستوجب تلك الضجة.
إنّه سار في التقسيم وفق ما نص عليه القرآن وسار عليه رسول الله. وكان المفروض بطلحة والزبير "بصورة خاصة" أن يكونا عوناً للإمام في ذلك. "فأما هذا الفيء فليس لأحد على أحد فيه أثرة. وقد فرغ الله من قسمته. فهو مال الله وأنتم عباده".
وهناك، بالإضافة إلى ذلك باب للشر انفتح أمام عليّ على مصراعيه: هو باب الكيد للخليفة والدس عليه وتأليب البسطاء والحاقدين على الوضع القائم فاتخذ "قميص عثمان" رمزاً لذلك.
وروى أنّ علياً _بعد أن فرغ من إلقاء كلمته _ نزل عن المنبر فصلى ركعتين وأمر عمار بن ياسر أن يستدعي طلحة والزبير _ وكانا قد انتحيا ناحية من المسجد كما رأينا _ لمواجهته. فقال لهما الإمام:
"نشدتكما الله هل جئتماني طائعين للبيعة ودعوتماني إليها وأنا كاره لها!؟" قالا نعم. فقال: "فما دعاكما بعد إلى ما أرى؟" فقالا إنّك استبددت دوننا بالأمر ولم تستشرنا في ما يعرض لك من الأمور، ولم تحفظ لنا مكانتنا الاجتماعية والمالية التي حصلنا عليها في العهود السابقة.
فأجاب علي: "نقمتما يسيراً وأرجأتما كثيراً". فإذا كانت سياستي في القسمة "التي نص عليها القرآن وسار عليها النبي" لا توافقكما، فإنّ هناك أمور أخرى كثيرة في سياستي لا تزعجكما وخاصة في القضايا التي لا تتعلق بمصالحكما:
لقد تناسيتم ذلك كله فامتعضتم من طريقتي في العطاء!! "ألا تخبراني! أدفعتكما عن حق وجب لكما فظلمتكما إياه!" لكي أرتدع عن ذلك _ في حالة حدوثه _ لتعيدا النظر في موقفكما الذي يخالف نص القرآن وسيرة النبي. "أفوقع حكم أو حق لأحد من المسلمين فجهلته أو ضعفت عنه؟" لكي استشيركما أو أستشير غيركما من ذوي السابقة في الإسلام فأستعين بهم على تفهمه في حالة الجهل به، أو على تنفيذه في حالة ضعفي عن القيام بما يستلزمه إنجازه من متاعب وصعوبات؟ وإذا لم يحصل شيء من هذا القبيل أيجيز الإسلام لكما أن تقفا مني هذا الموقف الغليظ؟ وأنا سائر على نهج الإسلام القويم. أسوق الناس مساقاً واحداً، ولا أرفع ولا أضع إلا وفق نصوص القرآن والسيرة المحمدية؟
فقال طلحة والزبير: معاذ الله أن يحصل جهلك بنصوص القرآن أو سنة النبي. أو أن يحدث ضعفك في وضع الأمور الإسلامية العليا في أماكنها المشروعة وأنت من نعرف من العلم والاستقامة والحزم.
فقال علي: "فما الذي كرهتماه من أمري حتى رأيتما خلافي؟" بينا ذلك لي وتدوالا معي. فإن كان رأيكما وجيهاً _من الناحية الإسلامية _ كيفت سلوك وفقاً له، وإن لم يكن كذلك وجب عليكما _إن كنتما مسلمين حقاً _ الإقلاع عن منابذتي ومحاولة صدي عن تطبيق مبادىء الدين الحنيف.
إنّي أتوقع منكما أكثر من ذلك _أكثر من عدم معارضتي _ وهو الجانب السلبي من الوقوف من سياستي. إنّني أتوقع أن تكونا لي عوناً في تنفيذ تلك السياسة والحد من نشاط من يحاول عرقلتها _هذا إذا كنتما جادين في اعتناق الإسلام واتباع أوامره ونواهيه.
فتململ الرجلان ووجما فترة من الزمن كأنّ على رؤوسهما الطير. ثم قالا في صوت واحد:
إنّنا ننقم عليك اختلافك عن العهود السابقة في القسمة.
فقد حطمت آمالنا وأهنت عزتنا وجرحت كرامتنا بمساواتنا بالدهماء والرعاع من العرب والعجم.
فارتاع الإمام وغضب لله أشد الغضب. ولكنه كعادته غيظة وضغط على أعصابه التي عودها على ذلك. ثم قال بكل هدوء ورقة مشيراً إلى موقفه وموقفهما من بيعته وزعمهما أنّه لم يستشرهما في تنفيذ سياسته العامة:
"فأما ما ذكرتما من استشارة فو الله ما كان لي في الولاية رغبة، ولكنكم دعوتموني إليها وجعلتموني عليها فخفت أن أردكم فتختلف الأمة".

وأما القسم والأسوة فإنّ ذلك أمر لم أحكم فيه بادىء بدء. قد وجدت أنا وأنتما رسول الله يحكم بذلك، وكتاب الله ناطق به" فليس هناك وجه للاعتراض.
وإنّني لم أضع التشريع المذكور ولم أكن البادىء بتطبيقه فقد وضعه الله وطبقه رسوله، وأنتما تعرفان ذلك كما أعرفه. فإذا كان لكما اعتراض فليوجه إلي الله عن طريق نقد شريعته، أو إلى رسول الله عن طريق نقد سيرته. فإذا حصل ذلك كان موقفكما صريحاً وجريئاً، ويكون للخليفة عندئذ معكما شأن آخر.
وفي ضوء ما ذكرنا نستطيع أن نقول أنّ المبدأ العام لفلسفة الإمام في الحكم (من الناحية الاقتصادية) هو المساواة بين المسلمين في العطاء من بيت المال.
وقد سار الإمام على ذلك بكل صراحة وحزم على الرغم من عتاب العاتبين وتذمر المتذمرين وحقد الحاقدين من ذوي المصالح المركزة. وكان الإمام في ذلك كله عادلاً إلى أقصى حدود العدل فلا غرو أن خاطب الحاقدين وذوي النفوس المريضة بمرض الجاهلية الخبيث فقال:
"أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه!! والله لا أطور به ما سمر سمير... ولو كان المال مالي لسويت بينكم، فكيف وإنما المال مال الله!! إنّ إعطاء المال في غير حقه تبذير وإسراف، وهو يرفع صاحبه في الدنيا ويضعه في الآخرة ويكرمه في الناس ويهينه عند الله، أما إذا كانت المطالبة "بتغيير سياسة الإمام" مبنية على الدعوة إلى إحداث تغيير في أسس التشريع الذي جاء به الإسلام فذلك أمر آخر.
غير أنّ المتذمرين لم يطلبوا ذلك، وإنما دعوا الإمام إلى الخروج عليه من الناحية العملية. وسبب ذلك واضح وبسيط: هو أنّ تلك المطالبة تخرجهم _عند الناس_ من حضيرة الإسلام لذلك فقد صمتوا عن نص القرآن واكتفوا بمطالبة الخليفة بمخالفة ذلك النص.
وعندي لو أن الخليفة انصاع لما أرادوه وخالف القرآن والسيرة النبوية لما رضى عنه أولئك المتذمرون الحاقدون _بل لاتخذوا "على العكس من ذلك" خروجه على القرآن والسنة وسيلة جديدة من وسائل التأليب عليه.
وذكر الشعبي: "قال دخلت الرحبة بالكوفة _وأنا غلام _ فإذا أنا بعلي قائماً على صبرتين من فضة وذهب _ومعه مخفقة _ وهو يطرد الناس بمخفقته ثم يرجع إلى المال فيقسمه حتى لم يبق منه شيء. ثم انصرف ولم يحمل معه إلى بيته قليلاً ولا كثيراً.
ورجعت إلى أبي فقلت له: لقد رأيت اليوم خير الناس "أو أحمق الناس".
قال: من هو يا بني؟ قلت علي بن أبي طالب. رأيته يصنع كذا _ فقصصت عليه. فبكى وقال يا بني بل رأيت خير الناس.
وروى مجمع التميمي قال: كان علي يكنس بيت المال كل جمعة ويصلي فيه ركعتين..
وروى هرون بن سعيد قال: قال عبد الله بن جعفر بن أبي طالب لعلي:
يا أمير المؤمنون لو أمرت لي بمعونة أو نفقة! فوالله مالي نفقة إلا أن أبيع دابتي. فقال علي لا والله ما أجد شيئاً إلا أن تأمر عمك فيسرق فيعطيك.
فالأمثلة على ذلك تنطق جميعها بأنّ الإمام حرم على نفسه "وعلى أي فرد من أفراد المسلمين" الاستئثار بدرهم واحد من أموال المسلمين _وكان باستطاعته (لو أراد) أن يستأثر بالمال والجاه والنفوذ كما فعل غيره. ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل ولباب هذا القمح ونسائج هذا القز. ولكن هيهات أن يغلبني هواي ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة. ولعل بالحجاز وباليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع. أو أبيت مبطاناً وحولي بطون غرثى وأكباد حرى!! وأكون كما قال القائل:
وحسبك عاراً أن تبيت ببطنة وحولك أكباد تحـن إلى القـد أأقنع من نفسي بأن يقال. هذا أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر!! أو أكون أسوة لهم في خشونة العيش! فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات كالبهيمة المربوطة همها علفها".
لقد كان الإمام سائراً على ذلك المنوال (المساواة في العطاء) تجاه المسلمين وتجاه نفسه وذوي قرباه، وكان يهدف من وراء ذلك إلى تحقيق أمرين: تطبيق مبادىء الدين على شئون الحياة تطبيقاً تاماً عادلاً، وتشجيع المسلمين على الاقتداء به على قدر ما يستطيعون. لأنّ: "لكل مأموم إماماً يقتدى به... ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعامه بقرصيه، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك: ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد".
ومن طريف ما يروى عن عقيل بن أبي طالب ما كتبه ابن الأثير "أسد الغابة ج4 ص 423 _ 425" وملخصه: أنّ عقيلا "لزمه دين فقدم على علي بن أبي طالب في الكوفة _أثناء خلافته _ فأمر علي ابنه الحسن فكساه، فلما أمسى دعا علي بعشائه فإذا خبز وملح وبقل...
فقال عقيل: فتقضي ديني؟؟ قال قال وكم دينك؟ قال أربعون ألفا. قال ما هي عندي ولكن إصبر حتى يخرج عطائي فإنّه أربعة آلاف فأدفعه إليك.
فقال له عقيل بيوت المال بيدك وأنت تسوقني بعطائك؟ فقال أتأمرني أن أدفع إليك أموال المسلمين وقد ائتمنوني عليها؟
قال فإنّي آت معاوية. فأذن له. فأتى معاوية فقال له "معاوية" يا عقيل كيف تركت علياً وأصحابه؟ قال: كأنهم أصحاب محمد إلا إنّي لم أرَ رسول الله فيهم. وكأنك وأصحابك أبو سفيان وأصحابه إلا إنّي لم أر أبا سفيان فيكم".
أما ما يتعلق بصلة الإمام بموظفي الدولة، وصلة الحكومة بالشعب _من الناحية الاقتصادية _ فهو ما سنبحثه في الفقرات التالية:
تتكون الرعية بنظر الإمام من طبقات يعتمد بعضها على بعض "ولا يصلح بعضها إلا ببعض: فمنها جنود الله، ومنها كتاب الخاصة، ومنها قضاة العدل، ومنها عمال الإنصاف والرفق، ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة ومسلمة الناس، ومنها التجار وأهل الصناعات، ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجات والمسكنة". فليس المجتمع (بنظره) مكونا من طبقتين: مستغلة (بكسر الغين) ومستغلة (بفتحها) كما ذهب إلى ذلك بعض المفكرين الحديثين. بل هو مكون، في زمنه على كل حال، من الطبقات الكثيرة التي ذكرناها.
هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإنّ المجتمع (بطبقاته المذكورة) ليس متنافراً بطبيعته _إذا ساد العدل بين أبنائه _ وإنما هو متعاون ومتضامن.
فكل فرد من أفراد المجتمع قد سمى الله له سهمه، ووضع على حده وفريضته في كتابه وسنة نبيه" أي إنّ لكل صنف من أصناف المهن في المجتمع سهماً مالياً يتناسب مع طبيعة عمله نص عليه الله في كتابه. فإذا فهم ذلك وأعطى الناس حقوقهم كما هي كاملة غير منقوصة ساد العدل المجتمع وانتشر بين أبنائه النظام والتعاون. وإذا حدث العكس شاع التذمر وسادت الفوضى وتزعزع النظام "فالجنود _بإذن الله حصن الرعية وسبل الأمن. ثم لا قوام للجنود إلا بما يخرج الله لهم من الخراج. ثم لاقوام لهذين الصنفين إلا بالصنف الثالث من القضاة والعمال والكتاب، ولا قوام لهم جميعاً إلا بالتجار وذوي الصناعات... ثم الطبقة السفلى من أهل الحاجة والمسكنة الذين يحق رفدهم ومعونتهم".
"أما الخراج فتفقد أمره بما يصلح أهله فإنّ في صلاحه وصلاحهم صلاحاً لسواهم. ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم. لأنّ الناس كلهم عيال على الخراج وأهله". ولما كانت الأرض هي المصدر الوحيد للإنتاج آنذاك فلا غرو أن تعهدها الخليفة بعطفه ورعايته.
"ولكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج. لأنّ ذلك لا يدرك إلا بالعمارة. ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد ولم يستقم أمره إلا قليلا". ولا تتم عمارة الأرض إلا بالعناية بالفلاحين وسد حاجاتهم الزراعية وفي مقدمتها العناية بالري. "فإن شكا الفلاحون ثقلاً أو علة أو انقطاع شرب أو بالة أو إحالة أرض اغتمرها غرق أو أجحف بها عطش خفقت عنهم بما ترجو أن يصلح به أمرهم. ولا يثقلن عليك شيء خففت به المؤنة عنهم فإنه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك".
والعناية بالفلاح _كما لاحظنا _ لا تتم عن طريق تخفيف ما يدفعه للحكومة من عوائد فقط، أو إعفائه عن ذلك، بل تتم أحياناً عن طريق مد الحكومة يد المساعدة له بالمقدار الذي يحتاج إليه من المال، وبالشكل الذي يستلزمه وضعه الاقتصادي والزراعي. على أنّ ثمرة ذلك كله تعود _في المدى البعيد _ على الحكومة وعلى للشعب بالنفع العميم. "فلا يثقان عليك _أيها الحاكم _ شيء خففت به المؤنة عنهم فإنّه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك".
ثم أوصاه بالتجار وذوي الصناعات القريبين منهم والبعيدين على السواء. أي الذين يتعاطون أعمالهم التجارية في دار الخلافة _وهم القريبون منه _ أو خارجها في الأطراف.
وقد نص الإمام على البعيدين لعلمه أنّ الحكومة تميل في العادة إلى العناية بسكان العاصمة أكثر من العناية بسكان الأطراف أحياناً، وعلى حسابهم أحياناً أخرى.
هذا من جهة ومن جهة ثانية فإنّ التجار وذوي الصناعات القريبين منهم يكونون أكثر خوفاً من الحكومة _إلا إذا سندهم المتنفذون من رجال الحكومة لسبب من الأسباب _ وأكثر تعرضاً لمراقبتها وعقابها من البعيدين _ اللهم إلا إذا سندهم المتنفذون من رجال الحكم لسبب من الأسباب وهو ما لا ينبغي أن يحدث من وجهة نظر الإمام.
ولكي يتحقق العدل الاجتماعي على مقياسه الكبير _بنظر الإمام _ يجب أن يشمل في هذه القضية مراقبة التجار وذوي المهن في شتى أرجاء العالم الإسلامي آنذاك.
ثم قال له واعلم مع هذا "أنّ في كثير منهم ضيقاً فاحشاً وشحاً قبيحاً واحتكاراً للمنافع وتحكماً في البياعات _وذلك باب مضرة للعامة وعيب على الولاة. وليكن البيع بيعاً سمحاً بموازين عدل وأسعار لا تجحف بالطرفين من البائع والمبتاع".
أي أنّ الضيق الفاحش والشح القبيح واحتكار المنافع والتحكم في البياعات توجد في بعض التجار وذوي الصناعات لا فيهم كلهم. وسبب ذلك راجع دون شك إلى تقصير الحكومة عن أداء واجبها في هذا الشأن في الماضي القريب والبعيد. هذا مع العلم أنّ ذلك الضيق الفاحش والشح القبيح إلخ... يظهر في الأسعار أحياناً كما يظهر في المكاييل أحياناً ثانية وفيهما أحياناً ثالثة. وفي هذا ما فيه من ضرر للمستهلك وخاصة طبقة العامة من ذوي الدخل الضئيل.
هذا بالإضافة إلى كونه مظهراً من مظاهر فساد الحكم وهو أمر يتنافى مع مبادىء الحكم السليم. فيجب إذن أن تراقب الحكومة التجار وذوي الصناعات _القريبين منهم والبعيدين _ من حيث الأسعار ومن حيث الأوزان ولتضع ذلك كله بشكل لا يجحف بأي فريق من الفرقاء الذين يعنيهم الأمر.
"ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم، من المساكين والمحتاجين. اجعل لهم قسماً من بيت مالك وقسماً من غلات صوافي الإسلام في كل بلد. فإنّ للأقصى منهم مثل الذي للأدنى.. ولا يشغلنك عنهم بطر" لأنّهم أحوج إليك من غيرهم.
"فلا تشخص همك عنهم ولا تصعر خدك لهم" لأنّ ذلك يعمل على تشجيعهم على مقابلتك والاتصال بك للتداول معك في حاجاتهم ومشاكلهم.
"وتفقد أمور من لا يصل إليك منهم ممن تقتحمه العيون وتحقره الرجال" لأنّ فيهم من العقد النفسية ما يمنعهم من الوصول إليك. "ففرغ لأولئك ثقتك من أهل الخشية والتواضع. ليرفع إليك أمورهم". لأنّهم كثيرون وليس من السهل عليك تفقد أحوالهم بنفسك مع ما لديك من مشاغل كثيرة تتصل بهم وبغيرهم من الرعية. فأوكل أمرهم "لأهل الخشية والتواضع" ممن تعتمد عليهم وتثق بإخلاصهم وصدقهم، أما خشيتهم وتواضعهم فيعملان على جعلهم يخفضون (لأولئك المساكين) جناح الرحمة والشفقة، ويجعل أولئك المساكين _بدورهم _ يطمعون في ذلك فلا يترددون عن التصريح بخوالج النفس ومتاعب الحياة. "فإنّ هؤلاء من بين الرعية أحوج إلى الإنصاف من غيرهم". وذلك لضيق ذات يدهم وضآلة مراكزهم الاجتماعية وتفاهة حياتهم بصورة عامة.
ولا تنسَ أن تتعهد "أهل اليتم وذوي الرقة في السن ممن لا حيلة له" كل ذلك صعب عليك دون شك "والحق كله ثقيل".
"واجعل لذوي الحاجات منك قسماً تفرغ فيه لهم شخصك وتجلس لهم مجلساً عاما تتواضع فيه لله الذي خلقك". كي تشجعهم على حضور مجلسك وعرض ظلاماتهم عليك.
ولا تنسَ أن في حاشيتك وحرسك أحياناً من الغلظة والشدة ما يزم أولئك المحتاجين عنك فاقعد "عنهم جندك وأعوانك من حرسك وشرطك حتى يكلمك مكلمهم غير متعتع". وتذكر أنّ في بعضهم تردداً وتلكؤاً في الحديث "فاحتمل الخرق منهم والعي ونح عنهم الضيق والأنف".
ثم امض إليهم بالسكينة والوقار _حتى تقوم بينهم فتسلم عليهم، ولا تخدج بالتحية لهم ثم تقول: عباد الله أرسلني إليكم ولي الله وخليفته لآخذ منكم حق الله في أموالكم. فهل في أموالكم لله حق فتؤدوه إلى وليه؟
أي إنّ الإمام أمر عامل الصدقات أن يمضي إلى القوم بهدوء وتؤدة فيسلم عليهم سلاماً كاملا غير منقوص، ثم يخبرهم بمهمته _بذلك الشكل المؤدب الرفيق) ليشعرهم بأنّ الموظف خادم للشعب لا سيد كما هي الحال في الحكومات الظالمة المستبدة. ثم ينتظر إجابتهم. "فإن قال قائل لا، فلا تراجعه" فلعله دفع ما عليه لجاب قبلك، أو لعله متمرد على الحكومة فليس من حقك الدخول في جدل معه أو إلزامه دفع ما عليه من الصدقات (في حالة التمرد) أو مطالبته فالبينة في حالة زعمه أن دفع ما عليه إلى غيرك.
إنّ ذلك من واجبات الوالي: فارفع إسمه إليه بعد فراغك من ذلك.
فإذا انتهى ذلك فابعث ما حصلت عليه مع من تثق به. "ولا تأمنن عليها إلا من تثق بدينه، رافقاً بمال المسلمين، حتى يوصله إلى وليهم فيقسمه بينهم. ولا توكل بها ناصحاً شفيقاً وأميناً حفيظاً غير معنف ولا مجف ولا مغلب ولا متعب أي لا ترسل الماشية أو الإبل مع ذي عتف "الذي هو ضد الرفق" فإذا أخذها أمينك فأوعز له أن لا يحول بين ناقة وبين فصيلها، ولا يحصر لبنها فيضر ذلك بولدها، ولا يجهد بها ركوباً، ويعدل بينها وبين صويحباتها في ذلك.
وأوصاه أيضاً أن يتبع الطريق التي يمر بها الماء ويتوافر فيها العشب.. حتى تأتينا بإذن الله بدنا منقيات غير متعبات ولا منهوكات". أي أن تجلب لنا إبلاً سمينة سليمة مستريحة "لنقسمها على كتاب الله وسنة نبيه بين المسلمين".
والخلاصة _أنّ الجانب المالي لفلسفة الحكم عند الإمام يتضح جوهره "في خطوطه العامة" في وصيته إلى عماله على الخراج وهذا نصها: "أنصفوا الناس من أنفسكم واصبروا لحوائجهم فإنّكم خزان الرعية ووكلاء الأمة وسفراء الأئمة.
ولا تحتشموا أحداً عن حاجته ولا تحبسوه عن طلبه ولا تبيعن الناس في الخراج كسوة شتاء ولا صيف ولا دابة يعتملون عليها ولا تضربن أحداً سوطاً مكان درهم ولا تمسن مال أحد من الناس من مسلم ولا معاهد.
ولا تدخروا أنفسكم نصيحة ولا الجند حسن سيرة ولا الرعية معونة".
ولا شك أنّ السير وفق مستلزماتها يجنب الحكومة أو الشعب كثيراً من المتاعب ويبعد الجانبين عن كثير من أوجه الكفاح السلبي الهادم، الذي نشاهده منتشراً في كثير من الأقطار في التاريخ القديم والحديث.

المصدر: فلسفة الحكم عند الامام علي (ع)

ارسال التعليق

Top