• ٢٨ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٨ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

العقل في القرآن

حسين حمادة

العقل في القرآن

- مكانة العقل:

العقل للإنسان هو شرفه وميزته وميزانه. وبأسباب العقل فضَّل الله الإنسانَ على سائر خلقه، وسخّر له ما في السماوات والأرض. يقول أرسطو: (الإنسان حيوان ناطق)، وقال تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) (الإسراء/ 70)، (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ) (لقمان/ 20). في القرآن وردت ستون آية – أو يزيد – تشير إلى أنّ موضوعاً ما قد طُرح لكي يتدبّره القرآن. العقل هو حُجّة في الأحكام. وهو أحد مصادر الفقه في نظرية الإسلام وفي مذاهب علمائه جميعاً ما عدا قلّة منهم. لقد كان العقل الإنساني في الحياة الجاهلية في غيبوبة، وتُطوِّقُهُ أغلالُ الجهالة والأسطورة، ويملك أمرَهُ السحرُ والخرافة. أليس العقل مشلولاً حين يأخذ بعبادة الشرك والوثنية فيكون التقديس للحجر والشجر، للنيران والحيوان للنبات والكوكب؟. وهل للعقل من نشاط حين تكون الحياة الاجتماعية: طبقية مستفحلة، وامرأة منبوذة موءودة أو ملهى للرجل؟ ونحن يمكن أن نعرفَ الله بعقولنا كما نعرفه بقلوبنا. فالعقل يُحدِثُ الوعي وَيُنتج المعرفة ويمكِّنُ من الاقتناع والإقناع. تلك هي مكانة العقل في القرآن. وإنها لمكانةٌ سامية تُشير إلى أنّ العقل موثوقٌ وقادر، وإلى أن يسمو بالإنسان عن الحيوان، وإلى أنه سبيلٌ إلى معرفة الله وطاعته، وإلى أنّ له مقامَ القيادة والتوجيه في الشخصية الإسلامية والعقل في القرآن له دوره الحاسم في سعادة الإنسان وتقرير مصيره في الدنيا والآخرة. (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) (الملك/ 10).   - رفض التعصّب والهوى: الموقف العقلي موضوعي لا يتّصل بعصبية – أيّاً كان لون العصبية – ولا علاقة له بهوىً من الأهواء، لأنّ الأهواء فاسدة ومُفسدة، حيث هي تُقَوْقِعُ الشخص في زاوية مصالحه وحدها، ولا تخرج به إلى العالم الواسع في رعاية مصالح الآخرين. يقول تعالى: (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأنْفُسُ) (النجم/ 23). ويقول (ص): "لا عصبية في الإسلام".   - لا تقليد: يأمر القرآن بأن لا يقبل الإنسان أمراً من الأمور على أنّه حقّ إلا إذا نهض على برهان، وخاصة في مسألة العقيدة والإيمان، حيث لا مفرّ من الاقتناع واليقين، ولا تقليد. لا يجوز أن يكون الميزان غير الحق، والحق يُعرف بالتفكّر وحُسن التمييز. يقول أمير المؤمنين (ع): "يعرف الرجالُ بالحق، ولا يعرف الحقُّ بالرجال، اعرفِ الحقَّ تعرفْ أهلَه" فالحقّ في الإسلام يُنظر إليه بذاته لا من خلال الأشخاص، وإن انقلبَ الأشخاصُ موثوقين علماً وفكراً وعدالة. يقول الإمام الباقر (ع): "لا تنظر إلى مَن قال، وانظر إلى ما قال". وقال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ) (البقرة/ 170).   - التثبُّت: الإسلام لا يأخذ إلا باليقين الثابت، والبرهان الواضح الحاسم لكيلا تعملَ الظنونُ عملها، لأنّ الظنّ يستدعي ظنوناً، والوهم تتبعُهُ أوهام. (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (البقرة/ 111). "إيّاكم والظنّ، فإنّ الظنّ أكذب الحديث". مرفوض في القرآن الإدلاء برأي عقائدي، أو قبول قولٍ أو إشاعةٍ إذا لم يكن ذلك مُدعّماً ببرهان يدفع الشكوك والريب. (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) (الإسراء/ 36).   - الدعوة إلى التفكّر: إنّ النشاط العقلي ينبغي أن يكون فريقَ كل قولٍ وكل عمل. لذلك فالقرآن ألحّ في الدعوة إلى التفكير الباحث، والتأمّل المدقّق، والملاحظة الواعية لقضايا منها: 1- خلق الله تعالى، للاستدلال على وجود الله وعظمته وقدرته وحكمته. (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) (آل عمران/ 191)، وإن كان البعض يقول بأنّه ليس عن طريق العقل نعرف الله بل عن طريق القلب كما تقول الصوفية وكما يقول باسكال وأمثاله من العرفانيين. 2- الأسرار الكونية والإنسانية لدراستها، واكتشاف قواها، لاستخلاص خيراتها، وتسخرها لمنافع الإنسان وسعادته. (وَفِي الأرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) (الذاريات/ 20-21). 3- المبدأ والمعاد: (فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) (الإسراء/ 51). 4- أحداث الماضي وبصائر الأُمم ليكون استخلاص العبر، والاستفادة من الماضي وخبرته لأن أيام التاريخ موصولة، ولا انفصال بينها. إنّ القرآن يوجّه العقل ليتفكّر في التاريخ وأحوال الأُمم الغابرة لنعرف كيف تنشأ الأمم والممالك، وكيف ترقى وتنهار. (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ) (الفجر/ 6). ويقول (ص): "إن آخر هذه الأُمّة. لا يصلح إلّا بما صلح به أوّلها". 5- العلّة والمعلول: ومن الأدلّة على قول القرآن بأصالة العقل وأهميته هو تبيان بعض المسائل باستخدام الأسباب والمسبّبات. فالحديث عن السبب والمسبّب وأصل السبب يبعث على التفكّر. وهذا ما يحترمه القرآن ويعمل به. إنّ العالم في القرآن هو معلولٌ لِعلّة. وإنّ الوقائع والأحداث والظواهر هي خاصّة لسيطرة هذا النظام أي الأسباب والمسبّبات. (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد/ 11). هذه الآية الكريمة تشير إلى مسألة الأسباب والمسبّبات، وتترك العقلَ يستفيد من هذه الظاهرة، وهذا النظام لأنّه بمعرفة الأسباب والمسبّبات تكون الكشوف، وتزول الشكوك والالتباسات، وتنتفي الخرافات والأباطيل والجهالات. 6- الأحكام: إنّ العقل حجةٌ في نظرية القرآن. لذلك يطلب إليه أن ينظر إلى الأحكام والدساتير لأنّها لم توضع إلا لَمصْلَحة. فعلى الرغم من أنّ هذه الأحكام سماويةٌ ومن الله، فإنّ القرآن يطلب ويُحلّ على الإنسان أن يتأمّلها ويتفكر فيها لكي يستبين كنهَ الأمور، ولئلا يحسبها مجرد سلسلة من الرموز أسمى من فكر البشر. 7- شطحات العقل ومكافحتها: إنّ للعقل أخطاءَه في افتراضاته واستنتاجاته وأحكامه، ويكافحها القرآن. وإنّ الحواس والمشاعر لها هفواتها، فهل نُلغي عمل العقل بأسباب أخطائه أم ننتج وسائل ونخلق أسباباً تَحُول دون العقل وارتكاب الخطأ؟. إنّ الحواس لتخطىء أكثر من العقل إلا أنّ أحداً لم يحكم بتعطيل الحواسّ، وبعدم استعمالها. وإذا تقيّد الإنسان دائماً باليقين ولم يقبل الظنّ فلن يقع في الخطأ. عليه أن يقبل بالظنّ على أنّه ظنّ، والاحتمال على أنّه احتمال، لا أن يحمل الظن والاحتمال على أنهما اليقين. وهل يكون من نتاج هذا التوجّه إلا الارتكاس في مهاوي الزلل والخطأ؟ (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) (الإسراء/ 36). (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ) (الأنعام/ 116). ويقع العقل في شرك الأخطاء والمعايب حين يأخذ بأسباب التقليد، والقرآن يعلنها حرباً شديدة البأس على التقليد والمقلّدين في مواطن كثيرة من مناسبات الاعتقاد، ويطلب من العقل بأن يأخذ دوره. وأنْ يكون ميزانُ كل شيء هو العقل. (أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ) (البقرة/ 170). ومنشأ الخطأ – كما ورد في القرآن – قد يكون بأسباب اتّباع أهواء النفس وميولها وأغراضها المعتلّة. 8- لا حدود للعلم: إنّ المسلم العاقل والعالِم ليس رهين الغرور بعلمه وليس له أن يظنّ بأنّه المحيطُ علماً بكل شيء لأنّ العلم لا تنتهي به حدود يقول أحدهم: "كلما اكتشفتُ مجهولاً كلما أدركتُ أنني لا أزال جاهلاً". إنّ المسلم يعتقد يقيناً بأنّ الله يعلم ما في السماوات والأرض، وأنّه عالمُ الغيب والشهادة، والظاهر والباطن. يقول تعالى: (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) (يوسف/ 76) إنّ التواضع في العلم هو مؤشر الغنى النفسي والفكري والعلمي. وإنّ هذا التواضع هو ظاهرة إيجابية تدعو الإنسان للاتصال الدائم بحقول العلم والفكر، وللعمل على كشف المجاهيل، وللاستزادة من فنون المعرفة، وعدم الرضى بالقليل من العلم. قال تعالى: (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا) (طه/ 114). ويقول الإمام علي (ع): "منهومان لا يشبعان، طالبُ علمٍ وطالبُ مال" "العُجْب يمنع الازدياد". ويقول الإمام الباقر (ع): "من طلبَ العلمَ ليباهي به العلماء، ويُماري به السفهاء، ويصرفَ وجوه الناس عنه، فليتبوأ مقعدهُ من النار. إنّ الرياسة لا تصلحُ إلا لأهلها". للتفكير في القرآن أخلاقيته، وللمعرفة التزاماتها. فالعقل يفكّر في الله، ووجهته طاعته، ونضاله لخدمة الإيمان وإعلاء شأنه وكلمته: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) (فاطر/ 28). إنّ العلم ينبغي بذلُهُ وإنفاقُهُ لأنّه يزكو بالإنفاق، وينمو بالبذل، ولأنّ زكاة العلم هي تعليمه، ولأنّ طلاب العلم لهم الحق المعلوم في علم العالِم، يتناولونه حقاً مفروضاً لهم على العلماء. يقول تعالى: (أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ) (يس/ 47). وإنفاق العلم أعظمُ درجةً من إنفاق الأموال عند الناس وعند الله. إنّ الإنسان مسؤول عمّا يُفكّر به، وعما يعرفه ويدركه. وإنّه لمسؤولٌ عما يجهله وهو قادرٌ أن يعلمَهُ. يقول (ص): "يُؤتى بالمرءِ يومَ القيامة فيقالُ له: هلّا عملت. فيقول: لم أعلم. فيقال له: هلّا تعلّمت". إنّ العقل هو قوام الإنسان، وميزان اليقين، ومصنع السعادة...   المصدر: مجلة نور الإسلام/ العدد 5 و6 لسنة 1988م

ارسال التعليق

Top