• ٥ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٦ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

علم الله وعلم الإنسان

الشيخ نزيه القميحا/ مراجعة وتحقيق: السيد نزار فضل الله

علم الله وعلم الإنسان

◄في الوجود علمان: علم القادر الخالق المبدع وهو الله سبحانه، وعلم الإنسان المكتشف والمستنبط لعلم القادر.

فالكهرباء مثلاً موجودة في الكون منذ الأزل، ولكنها مجهولة من الإنسان فهو لا يعرف عنها شيئاً. وبعد أن أذن الخالق القادر بكشفها، ظهرت للإنسان فاكتشفها.

فالكون بخصائصه كلها، ومواده الأولية، وقوانينه الثابتة، هو كما خلقه الله سبحانه، وكلّ ما استطاع الإنسان فعله هو اكتشاف تلك الخصائص، واستخدامها في مصالحه.

فالهواء مثلاً كان بإمكانه أن يحمل الطائرات منذ فجر التاريخ لو اكتشف الإنسان خصائص الهواء، وعرف نظرية الطيران.

والأثير من خصائصه حمل الأصوات عبر الدنيا منذ أن خلق الله تعالى هذا الكون، والإنسان اكتشفه أخيراً.

إنّ الإنسان لم يخلق شيئاً بل اكتشف كيف يستخدم هذه الأشياء التي خلقها الله سبحانه، وكلّ ذلك بما أودع الله سبحانه بالإنسان من القوى العاقلة المفكرة المستنبطة.

فلو فرضنا جدلاً أن قلنا للإنسان القديم أنّه سيأتي يوم تطير فيه كتلة من الحديد، وزنها كذا.. وحجمها كذا.. وتحمل عدداً لا يستهان به من الناس مع متاعهم وحوائجهم، وتنقلهم من بلد إلى بلد، بسرعة تفوق الخيال فهل كان يصدق، أو يقبل عقله هذه الأمور التي أصبحت في زماننا حقيقة ثابتة يتقبل فهمها الطفل الصغير؟!.

وهكذا الكهرباء، والكيمياء والطبيعيات وغيرها من العلوم التي توصل إليها العقل البشري اليوم!

كلّ ذلك بفضل الله سبحانه الذي خلق الإنسان، وأودع فيه قابلية التطور والإكتشاف، والإختراع والإبداع.

قد أثبت العلم، وهو من الأسرار التي اكتشفها علم الطب، أنّ خلايا جسم الإنسان تتبدل وتتغير تماماً كل عشر سنوات، بينما خلايا العقل لا تتغير ولا تتبدل أبداً..

وسر آخر من أسرار العقل البشري أنّ العلم الحديث، مع ما توصل إليه من اختراع للعقول الإلكترونية (الكمبيوتر) بكلِّ ما تستطيع أن تفعله هذه العقول ممّا يذهل البشر. فهي تتواضع وتتواضع بشدة أمام العقل البشري الموضوع في جزء صغير من جسم الإنسان.

ولو أننا أردنا أن نصنع عقلاً إلكترونياً يساوي في قوته العقل البشري، فإنّ الكرة الأرضية كلها لا تكفي لإقامة هذا العقل. نقل ذلك عن وزير أمريكي سابق ورأس البنك الدولي عن العقول الإلكترونية.

فبهذا الحجم الصغير، والحيّز القليل صنع الله سبحانه العقل البشري، وبهذا العقل صنع الراديو، الذي ينقل عبر الأثير الصوت من أقصى الكرة الأرضية إلى أدناها، وبإمكان أي طفل صغير أن يديره ويسمع أصوات المحطات حول العالم.

ولو قلنا للإنسان القديم أنّه عندنا جهاز صغير يوضع في زاوية صغيرة من المنزل يديره أي فرد من أفراد العائلة، صغيراً كان أم كبيراً، يستطيع أن يوصلك صوتاً وصورة، ويخبرك عمّا يجري في العالم، وهو التلفزيون، فهل كان يصدق ذلك؟.

ولكنه أصبح حقيقة لا تقبل المناقشة، وضرورة لا يخلو منه بيت. وما ذلك إلّا من صنع العقل البشري الذي صنعه الله سبحانه، وأودعه جسم الإنسان، وجعله غيباً، لا تعرف حقيقته، ولا كنهه، بل سراً من أسرار الخالق العظيم سبحانه.

عندما أعلن (أينشتين) نظريته – النسبية – ونسبية الزمان على وجه الخصوص، هلل العالم كله له.. ولكن أحداً لم يقل إنّ القرآن أوّل ما أشار إلى نسبية الزمن، وقد أشار إليها بقوله تعالى: (وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) (الحج/ 47).

وقوله تعالى: (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) (المعارج/ 4).

وعندما صعد الإنسان إلى طبقات الجو العليا كان صدره يضيق.. فلم يتذكر أحد أو يلتفت إلى قوله تعالى: (يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ) (الأنعام/ 125).

وعندما اكتشف الإنسان أنّ هناك ما هو أصغر من الذرة، كان القرآن الكريم قد سبقهم لذلك بمئات السنين قال سبحانه: (وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (يونس/ 61).

وعندما اكتشف العلم أنّ الشمس والقمر يسيران في خطوط متوازية، لا يمكن أن تتقابل، وأنّ الليل والنهار نتيجة دوران الأرض لا يمكن أن يسبق أحدهما الآخر، لم يذكر أحد، أو يتذكر قوله تعالى في كتابه المجيد: (لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (يس/ 40).

وعندما قال الطب الحديث في هذه الأيّام: إنّ الإنسان يحفر قبره بأسنانه، قال الناس إنها معجزة طبية.. ولكن الله سبحانه منذ مئات السنين يقول: (كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا) (الأعراف/ 31).

وعندما اكتشف العلم: أنّ الشمس جرم ملتهب، وأنّ القمر جرم بارد يعكس أشعة الشمس، لم يتذكر أحد الآية الكريمة: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا..) (يونس/ 5).

وعندما اكتشف أيضاً: أنّ الليل والنهار ناتجان عن كروية الأرض، لم يذكر أحد هذه الآية الكريمة: (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ) (الزّمر/ 5).

وعندما اكتشف العلم أنّ بيوت النمل هي من أقوى البيوت، وأنّه يصنع نشارة الخشب، وينشيء منها بيوته بحيث لا تهدمها قدم إنسان مار، وأنّ النمل له لغة يتكلّم بها، ومجتمع منظم قريب من الإنسان.. لم يذكر أحد من أهل ذاك العلم قول الله تعالى على لسان النمل: (قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (النمل/ 18).

لم يكن القرآن كتاب علم خاص، بل هو كتاب دين، يهدي الناس إلى صراط الله المستقيم، ولكن الله سبحانه وضع فيه هذه الومضات من العلوم، لأنّه تعالى كان في علمه أنّه سيأتي زمن يحارب فيه الناس القرآن بالعلم.. فوضع فيه ما يردّ على هؤلاء جميعاً ويفضحهم، ويؤكد لأهل هذا العلم أنّ ما اكتشفوه إلّا قوانين الله في الأرض، وأنّ الإنسان لم يخترع شيئاً جديداً، بل هو مكتشف فقط. وكلما ازداد الإنسان بالتقدم العلمي، ازداد انبهاراً بإعجاز القرآن الكريم.

 

نسبة الزمان:

إنّ النسبة في الزمان لم تعرف إلا في عصرنا الحاضر، وحتى أنها غير مفهومة لكثير من العلماء غير المتخصصين، فما بالك بغير العلماء.

والنظرية تقول: إنّه كلما زادت سرعة حركة الإنسان، قل تأثير الزمن عليه وكلما تحرك ببطء زاد تأثير الزمن عليه، فالذي يركب طائرة مثلاً، يسير بسرعة كبيرة، خمس سنوات مثلاً، لا يزيد عمره في الحقيقة إلا أربع سنوات ونصف سنة. بينما زميله الجالس على الأرض يزيد عمره السنوات الخمس..

وتمضي النظرية فتقول: إنّ الإنسان إذا استطاع أن يتحرك بسرعة الضوء وهي/ 186 ألف ميل في الثانية، وهي أكبر سرعة معروفة في الكون حتى الآن فإنّ الزمن بالنسبة له يتلاشى تقريباً.

فلو افترضنا أننا وضعنا إنساناً في طائرة تسير بأكثر من سرعة الضوء، وأطلقناه في الفضاء ألف سنة ثمّ عاد إلى الأرض، فإنّ عمره لا يزيد إلا عدة أعوام، أي أنّ الزمن يقل هنا لدرجة كبيرة.

وقد أشار سبحانه وتعالى في كتابه المجيد إلى نسبة الزمان بقوله عزّ وجلّ: (وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) (الحج/ 47).

وقوله عزّ وجلّ: (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) (المعارج/ 4).

ومعنى ذلك أنّ الزمن الذي تعدونه في الأرض هو زمن نسبي، بل أكثر من ذلك، هناك أزمنة أخرى نسبية، بالنسبة لعوالم أخرى.

فالألف سنة ربما تكون يوم الحساب، وربما في حياة البرزخ الذي يعيشه الإنسان بانتظار يوم القيامة، يكون يومه بألف سنة بحساب أهل الدنيا.

وأمّا سرعة الملائكة فإنّها تصل حدَّ الخيال.

فإنّ يومهم بخمسين ألف سنة. أمّا عند الله سبحانه وتعالى فإنّ الزمن يتوقف ويتلاشى. فإننا عندما نقول إنّ فلاناً عاش مائة سنة، فإنّها بمثابة ساعتين من الأيام التي سيعيشها بين يدي الله تعالى.

وأمّا بالنسبة للملائكة، فإنّه قد عاش ثلاث دقائق فقط لا غير.

ما أقصر عمر هذا الإنسان في دار الدنيا، فإنّه يعادل دقائق في زمن المخلوقات الأخرى، ما أقصره من عمر، وما أقلها من متعة، صدق سبحانه حيث قال: (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلا) (النساء/ 77).

 

المصدر: كتاب القرآن يتجلى في عصر العلم

ارسال التعليق

Top