• ٢ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٣ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

العناكب.. مخلوقات مدهشة تتحدى العلماء والدارسين

فضل سالم

العناكب.. مخلوقات مدهشة تتحدى العلماء والدارسين

العناكب.. هذه المخلوقات العجيبة الغريبة، تتبع نظاماً غير عادي في اصطياد الحشرات وفي التزواج، وهو نظام نادراً ما نجح العلماء والمتخصصون في فهم أسراره وخفاياه.
ترى، كيف تعيش هذه المخلوقات التي لا يقدر أحد على تجاهل تكتيكاتها العسكرية في اصطياد ضحاياها.. والتي دخلت خيوطها، وسمعة تلك الخيوط، في أمثال الشعوب للتدليل على سعة الحيلة والصبر على المكاره، والقدرة على الإيقاع بالفريسة؟!
الأسئلة كثيرة بالطبع، فالعلماء والمتخصصون يعترفون صراحة بأنّ العناكب لا تزال تحتفظ بالكثير من أسرار الطبيعة والمخلوقات، وأن أعواماً عديدة سوف تمر قبل أن ينجح العلماء في كشف هذه الأسرار، أو بعضها على الأقل.
البروفيسور الأمريكي مايكل روبنسون أمضى عشرين سنة في دراساته وأبحاثه عن العناكب، يلاحقها أينما ذهبت.. ويسافر من بلد إلى آخر بحثاً عن أنواع غير معروفة من العناكب لعله يكشف المزيد من تلك الأسرار والخفايا.. وبعد كل هذه السنين يقول: ليتني أملك عينين ميكروسكوبيتين أستطيع بهما أن أرى ما أتمنى رؤيته من غرائب العناكب.
ويضيف قائلاً: إنّ جميع أنواع العناكب تنتج الخيوط المعروفة، وهي أشبه بخيوط الحرير الدقيقة جدّاً، والمتينة جدّاً – نسبياً – ويتم تصنيع هذه الخيوط في غدد قرب البطن، وعندما يريد العنكبوت التحرك في أي اتجاه.. صعوداً أو نزولاً، يميناً أو يساراً.. فإنّه يتسلق على الخيوط التي سبق له أن صنعها وثبتها في أماكن وزوايا معينة، وتكون حركته أشبه بحركة متسلقي الجبال الذين يستعينون عادة بالحبال المثبتة هنا أو هناك.

- طريقة هندسية مثيرة:

من المعروف أنّ العناكب تبني بيوتها بواسطة هذه الخيوط بطريقة هندسية مثيرة للإعجاب، لا تزال تمثل جانباً من الأسرار التي يحاول العلماء فهمها في أبحاثهم المستمرة عن العناكب.
ومن المعروف أيضاً أنّ العناكب ضعيفة النظر برغم أنّ كلاً منها يمتلك ثماني عيون، أربعاً على كل جانب، يقتصر دورها على معرفة اتجاه الضوء.. في حين أن بعض أنواع العناكب، تستطيع بعيونها الكبيرة أن "ترى" بعض الأشياء أمامها، خاصة الحشرات التي تقترب من خيوطها.
وبرغم الاختلافات الكثيرة بين مئات الأنواع من العناكب.. فإنّها تجتمع كلها على صفة واحدة هي أنها صيادة ماهرة للحشرات، لكن "تكتيك" الصيد يختلف من نوع إلى آخر، ويتراوح بين البساطة المتناهية، والخطط البالغة التعقيد.. بل إنّ العلماء يؤكدون أنّ العناكب تضع خططاً عسكرية أكثر تعقيداً من الخطط التي يضعها الإنسان المعاصر، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الفارق النسبي بين الجهتين من حيث الذكاء، وكذلك الإمكانات.
وبشكل عام، يبني العنكبوت بيته على شكل دائرة ذات إطار خارجي، وخطوط تمتد من هذا الإطار لتلتقي في نقطة، ليست بالضرورة في الوسط.. والغريب أنّ العنكبوت يفرز مادة لاصقة على خيوط الوسط، ولا يفرز هذه المادة على الإطار الدائري، فيتحول البيت إلى مصيدة للحشرات الصغيرة التي يشاء حظها العاثر أن تقع فيها.. ويستطيع العنكبوت التحكم في حجم البيت، ضيقاً واتساعاً، ليتناسب مع الموقع الذي يختاره لبناء هذا البيت – المصيدة.
ويعمل بيت العنكبوت على توسعة مجال قدرة صاحبه على كشف موقع الفريسة، وعادة ما يتشبث العنكبوت بالخيوط عند نقطة التقائها، فيشعر بوجود الفريسة فور ملامستها لطرف الخيوط ومن ثمّ يهرع للإجهاز عليها بطرق مختلفة حسب نوع الفريسة وحجمها وقوتها.

- للصيد.. طريقتان:

في أغلب الأحيان، لا تعتبر الخيوط مصيدة جيِّدة، وإنما مجرد وسيلة لإعاقة حركة الفريسة، ومن ثمّ يهرع العنكبوت لعمل اللازم، ويتم ذلك بطريقتين مميزتين.. فإما أن يسرع العنكبوت لشل الفريسة بعضة قوية.. أو يتجنب الاقتراب منها ويكتفي بالدوران حولها وتربيطها بخيوطه وريثما تنهار مقاومتها، أو تضعف، فيقترب منها في هذه الحالة ويعضها من خلال الخيوط التي لفّها بها، وغالباً ما يستخدم العنكبوت أطرافه الثمانية لضرب الفريسة أثناء عضها ومن ثمّ تحيط أطرافه بالفريسة التي تجد نفسها وكأنّها في قفص حقيقي من الأطراف المتحركة.. وفي بعض الأحيان، تستطيع الفريسة الإفلات من الخيوط لكنها لا تستطيع الإفلات من العنكبوت نفسه الذي يتشبث بخيوطه حتى يمنع الفريسة من سحبه وإبعاده عن منطقته.
ويقول البروفيسور روبنسون، مدير المركز القومي لدراسات علوم الحيوان في واشنطن أنّ الصيد بلف الخيوط حول الفريسة، يظل أكثر تعقيداً من عض الفريسة.. وحتى عملية لف الخيوط نفسها، فهي تختلف في الطريقة والأسلوب حسب حجم الفريسة وطبيعة نشاطها.. ولعل أصعب هذه الفرائس هو "الصرصور النطاط" المعروف بصوته المميز في ليالي الصيف.. فالعنكبوت يدرك بصورة غريزية حجم وعنف الفريسة فور أن تلمس خيوطه، فلا يقترب منها وإنما يبدأ بالدوران حولها ولفّها بخيوطه عدة مرات، ومع كل دورة، يقترب منها أكثر إلى أن يشل حركتها ويمنعها من استخدام أرجالها الخلفية التي تمكنها من القفز إلى أن يضمن عدم قدرتها على المقاومة فيبدأ بالتهامها.
والغريب أنّ العنكبوت لا يلتهم فريسته في مكان وقوعها، وإنما يسحبها بعيداً عن الوسط حيث تلتقي الخيوط.. وذلك لإفساح المكان من أجل صيد جديد.
يشرح البروفيسور روبنسون هذه النقطة فيقول: إنّ قدرة العنكبوت على تنويع أساليبه في الصيد، أثارت دهشته وإعجابه لسنوات طويلة، فقد اكتشف من خلال دراساته وأبحاثه أنّ العنكبوت يستخدم أساليب معينة مع كل فريسة على حدة.. فهو يستخدم طريقة لف الخيوط مع الصراصير النطاطة والنحل والخنافس والجراد، في حين يلجأ إلى طريقة العض مع الفراشات، وكثيراً ما أثار هذا التمييز في المعاملة غريزة حب الفضول لدى العلماء والباحثين.
وتقول آخر النظريات حول السبب أنّ لأجنحة الفراشات قدرة على التحرك بسرعة وتخليص الفراشة من الخيوط، ومن المادة الصمغية التي تحيط بتلك الخيوط، لذلك يهرع العنكبوت لعض الفراشة قبل أن تفلت من خيوطه.
قد يتساءل البعض عن السبب الذي يمنع العنكبوت من استخدام هذا الأسلوب مع كل ضحاياه مادام سريع النتائج.. وقد يبدو التساؤل منطقياً، لكن حقيقة الوضع تشير إلى أن بعض الفرائس تستطيع العض أو اللسع أو الرفس، ولذلك فإن ربطها بالخيوط أو لا يظل أكثر أمنا للعنكبوت.

-التكاثر واستمرار الحياة:

وفي التحليل النهائي، فإنّ كفاءة العنكبوت في الصيد والتخطيط للإجهاز على الفريسة، إنما تخدم عملية التكاثر.. فالغذاء مجرد وقود لاستمرار الحياة والتكاثر لدى كل المخلوقات، بما فيها العناكب التي تتكاثر بطريقة لاتزال في حاجة إلى مزيد من البحث والدراسة حتى يتمكن العلماء من كشف كل أسرارها.
فمن المعروف أنّ ذكور العناكب أصغر حجماً من الإناث بنسبة كبيرة، وعندما يقترب الذكر من الأنثى وسط بيتها، عليه أن ينتظر اللحظة المناسبة.. وقد يحدث أحياناً أن يقترب عدة ذكور في وقت واحد من الأنثى، فيحاول كل منها التأثير على الأنثى واستمالتها.. وبعد عملية الاختيار والتزاوج، غالباً ما تلحق الأنثى الأذى بالذكر، وأحياناً تعضه ثمّ تأكله.
والطريف أنّ بعض الذكور تظل تنتظر اللحظة المناسبة للاقتراب من الأنثى.. وليس أفضل من لحظة انشغالها بالتهام فريسة كبيرة.. فعندها يتم التزواج وتكون الأنثى مشغولة بأكل فريستها، فلا تستطيع عض الذكر المحظوظ.
بعد عدة أسابيع من التزاوج، تضع الأنثى بيوضها فيما يشبه الكيس المصنوع من خيوط العنكبوت.. أو فوق وسادة من تلك الخيوط.. وتلزم البيوض عدة أسابيع أخرى حتى تفقس في البلاد الحارة.. أما إذا كان الطقس بارداً فعملية الفقس تطول أكثر.. وفور أن تفقس البيوض، تخرج الصغار إلى الحياة وسريعاً ما تتفرق وتتباعد. وقد لاحظ العلماء أمراً غريباً فيما يتعلق بتوزيع الصغار.. فهي تتفرق بطريقتين مميزتين.. الأولى بأن يفرز العنكبوت الصغير خيطاً طويلاً جدّاً، وبما أنّه خفيف الوزن فإن نسمة خفيفة كافية لحمله عالياً، فيبدو أشبه بالطائرة الورقية المربوطة بخيط.. وقد يحمل الهواء هذا العنكبوت إلى أماكن بعيدة جدّاً، أو ربما عالية جدّاً.. وهذا ما لاحظه العلماء حين وجدوا أنّ العناكب موجودة في طبقات الجو العليا وذلك من خلال فحصهم لنماذج من هذه الطبقات بواسطة الطائرات التي تحلق على ارتفاع عشرات الآلاف من الأقدام فوق سطح الأرض.
أما الطريقة الثانية، فتتم بأن يفرز العنكبوت خيطا ويظل في مكانه ينتظر أن يمسك طرف هذا الخيط مكاناً عالياً، فيتسلق عليه متوجهاً إلى المجهول مستخدماً طريق الحرير الحقيقي.. بعد أن عرف الأقدمون الطريق الذي كان يسلكه تجار الحرير فأطلقوا عليه اسم طريق الحرير.. تجاوزا.
ومع استمرار الأبحاث والدراسات حول العناكب وأساليب حياتها لا يستطيع المرء إلا أن يعجب بعظمة الخالق سبحانه وتعالى، وقدرته على جعل هذه المخلوقات الضئيلة تقوم بأعمال غريبة ومذهلة في وقت واحد.. فالعناكب بالفعل مخلوقات مدهشة تستحق البحث والدراسة من جانب العلماء والمتخصصين.

المصدر: مجلة العربي/ العدد 474 لسنة 1998م

ومن أحدث الدراسات ننشرها لكم على موقعكم موقع البلاغ استكمالاً لما طرحناه:

اكتشاف لغز مقاومة العناكب لجاذبية الأرض

بحث جديد يشير إلى أنّ قدرة العناكب على التشبث بالأسطح ضد الجاذبية يرجع إلى قوى التجاذب بين الذرات
تمكن باحثون ألمان وسويسريون من شرح الكيفية التي تستطيع بها العناكب التشبث بالأسقف متحدية جاذبية الأرض، وهو اكتشاف ربما يلقي الضوء على توجه جديد في إنتاج المواد اللاصقة.
فقد نشر باحثون من المعهد التقني لعلوم الحيوان في مدينة بريمين الألمانية بحثا في العدد الأخير من مجلة "المواد والبُنى الذكية" يرجع قدرة العناكب على التشبث بالأسطح ضد الجاذبية إلى قوى التجاذب بين الذرات.
فمن خلال الصور التي حصل عليها الفريق البحثي بالمجهر الإلكتروني لأقدام أحد أنواع العناكب -يسمى "العنكبوت القافز"- وجدوا أن كل شعرة على قدم العنكبوت يغطيها عدد هائل من الشعيرات أو الهديبات التي تستحيل رؤيتها بالعين المجردة، يصل عددها إلى 624 ألف هديبة، تكون مجتمعة أجمة مجهرية على كل قدم.
وباستخدام المجاهر المتخصصة في قياس قوى التجاذب عند مستوى الذرات، وجد الباحثون أنه عندما تكون كل الهديبات في تماس مع السطح، فإن قوى الالتصاق بين قدم العنكبوت وذلك السطح تصل إلى 170 مقدار وزن ذلك العنكبوت!

ارسال التعليق

Top