• ٣ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٤ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الكتاب المسطور يقود إلى فقه الكون المنظور

د. عبد الحليم عويس

الكتاب المسطور يقود إلى فقه الكون المنظور
◄ثمة آيات قرآنية كثيرة تتصل بالكون، وتتحدث عن عوالمه المختلفة، المشاهد وغير المشاهد، والمعلوم وغير المعلوم: (فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لا تُبْصِرُونَ) (الحاقة/ 38-39). (فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) (الواقعة/ 75-76). وكثير من الآيات تتكلم عن صور من الإبداع الإلهي في عالم النبات، وعالم الحيوان، وعالم الطبيعة والإنسان (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ...) (فصلت/ 53)، وكثير من الآيات تتحدث عن مفردات دقيقة في عوامل الكون، وهكذا بصفة إجمالية نجد القرآن الكريم حافلاً بالآيات العظيمة التي تشد انتباهنا وتلفت نظرنا إلى ذلك الكون البديع الذي نعيش فيه؛ لنرى كيف يسير بدقة وعظمة تنبئان عن أنّ لهذا الكون خالقاً، خلق وقدر ودبر، ومن هذه الآيات الآية التي تقول: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ...) (الإسراء/ 44)،!! والسماء هي أسطع لوحة تدل على وجوب وجود الخالق وعظمته سبحانه بما تمتلئ به من الأجرام السماوية الضخمة التي يبلغ حجم بعضها أكبر من أرضنا ألف مرة.. والتي يسير بعضها بسرعة أكبر من انطلاق القذيفة.. تسير كلها بلا مزاحمة ولا تصادم. وتسير بلا ضوضاء ولا أعطال.. تحوي آلافاً من القناديل المضاءة التي تساعد الناس في سيرهم. وهي تضاء بلا زيت ولا كهرباء وتجمل السماء وتجعلها زينة للناظرين[1]. ·                 ومازالت السماء مع التقدم العلمي الهائل – وستبقى – مجالاً خصباً للبحث والاستكشاف؛ حيث يمكن القول إنّ ما عُرف عنها لا يساوي إلا نسبة مليونية مما يمكن أن يُعرف.. ومع ذلك فكثير من تجليات الإبداع واضحة لكل من ينظر بعقل وبصيرة معاً إلى السماء وما فيها. فإن من ينظر في السماء يلمح بجلاء – لو أعمل عقله وخلصت نيته – أنّ السماء وما فيها مسخر ومدبر وموظف، فمن يا ترى فعل ذلك بهذه القدرة الفائقة المعجزة..؟ إنه الله الذي لا إله إلا هو... إنها تمضي منذ خلقت وفق ناموس لا يختل قط..!!. ·                 وعندما ننظر في الفضاء ونجده معرضاً للعجائب والخوارق كذلك، ففيه السحاب المعلق بين السماء والأرض، يسقي ساكينها بالماء، الذي هو أساس الحياة عليها، ويلطف من حرارتها. ·                 فمن الذي سخره وجمعه وأمره أن يُنزل الماء؟! إنه الله[2] سبحانه وتعالى. ·                 ثم هذا هو الهواء الذي يملأ الفضاء.. فكل ذرة من ذرات ذلك الهواء الجامد الذي لا يملك شعوراً، تسمع وتعي ما يلقى إليها من الأوامر الإلهية.. فيستنشقها جميع الأحياء.. وتنقل الأصوات وتنقل الحرارة والضوء والكهرباء.. وتصير وسطاً صالحاً لتلقيح النباتات.. وغير ذلك من الوظائف، فكيف انتظمت وأدت ذرات الهواء دورها على هذا النحو؟!!. ·                 ثم لننظر إلى المطر الذي يغدقه الله تعالى علينا من خزائن رحمته على صورة تلك القطرات المتهاطلة، ولذلك أطلق على المطر اسم الغيث والرحمة[3].. كيف استقام أمر المطر على هذا النحو؟ وكيف أنّ أمماً تعيش على المطر في زراعاتها وحيواناتها؟. ·                 فهل كان ذلك كله احتمالاً أو مصادفة؟ وكيف بقيت هذه المصادفة ثابتة آلاف السنين؟!. ·                 أو أنها قدرة الله القوي اللطيف الكريم المحيط بكل شيء علماً، والذي عنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو، وينزل الغيث، وينشر رحمته، ويمسك السموات والأرض أن تزولا.. وصدق الله العظيم القائل في كتابه المبين: (أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ) (الواقعة/ 68-70). وعندما ننظر أيضاً فوق الأرض، فنبصر عالم الحيوانات، وفوق الأرض وبين السماء والأرض فنبصر أسراب الطيور التي لا يمسكهن إلا الله وحده، والتي تمضي عابرة المحيطات بذاكرة كمبيوترية لا تخطئ طرقها ولا مساكنها.. عندما يتعمق تفكير الإنسان، بعقله الواعي – في عالم الطيور والحيوانات على هذا النحو – يجد تلك الحيوانات والطيور تتكلم بمئات الألوف من الأصوات المتباينة، والألسنة المختلفة، وسوف يجد ذلك الإنسان ثلاث حقائق عظيمة محيطة تشهد على وحدانية الله جل جلاله وهي: حقيقة الإيجاد والصنع والإبداع (أي حقيقة الإحياء ومنح الروح)، وحقيقة التميز مع الجمال، التي تتضح من خلال تلك المخلوقات غير المحدودة، والتي يختلف بعضها عن بعض بعلامات فارقة وبأشكال مزينة وبمقادير موزونة وبصور منسقة، ثم حقيقة خروج كل هذه الأنواع غير المحدودة من بيوض وبويضات متماثلة معدودة ومن قطرات بسيطة متشابهة أو مختلفة بفارق طفيف[4]. ·                 فهل تم كل ذلك بالمصادفة أو الاحتمال؟ وأي مصادفة أو احتمال يصل إلى هذه العبقرية العجيبة: عبقرية عجيبة في الإيجاد. ·                 وعبقرية في حفظ التميز الدقيق بين الأنواع حتى في الصنف الواحد. ·                 وعبقرية في إخراج كل هذا الإعجاز من بذور ضعيفة، وبويضات ضئيلة.. ومع ذلك فمع ضعفها وضآلتها – تحمل فهرستا كاملاً بخصائص النوع ووظائفه لا تحيد عنه!!. ·                 وإذا تركنا السماء والفضاء والماء والهواء والمطر.. ثم أدركنا النظر إلى الركن الأسفل الذي نبصره، أي إلى الأرض التي نسير فوقها بأقدامنا وننام بأجسادنا، ويخيل إلينا أنها منبسطة ساكنة خامدة جامدة، بينما هي تمر مر السحاب وتدور عدة دورات كما تدو عقارب الساعات. ·                 ومع ذلك نجد فوقها جبالاً كالأوتاد.. هائلة ضخمة رهيبة.. والعجيب أننا عندما نتأمل بفكرنا وعقلنا في عالم الجبال والصحارى، نجد أنّ وظائف الجبال الكلية وفوائدها العامة من العظمة والحكمة بما يحير العقول؛ فمثلاً نجد بروز الجبال واندفاعها من باطن الأرض بأمر رباني يهدئ من هيجان الأرض، ويخفف من حدتها الناجمة عن تقلباتها الباطنية، فتتخلص بذلك من الزلازل المهلكة والتصدعات المدمرة، فالجبال أوتاد للأرض تحفظ توازنها.. قال تعالى: (وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا) (النبأ/ 7). وقال: (.. وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ...) (الحجر/ 19)، يضاف إلى ما في جوف هذه الجبال من أنواع الينابيع والمياه والمعادن والمواد والأدوية التي ادخرت بحكمة وكرم وتدبير[5]. ومع كل ذلك، فهذه الكائنات.. تتكامل في أداء أدوارها، وتمضي لوظائفها بحب وشوق ووفاق القانون الجاذبية بين السالب والموجب، والذكورة والأنوثة في كل شيء، وحتى علاقة الإنسان نفسه بالكون، مع أنها علاقة تسخير بين (فاعل) هو الإنسان و(موضوع) هو الكون، إلا أنّ التسخير هنا – في الرؤية الإسلامية – ليس تسخير إذلال وصواع، بل هو تسخير ودود كريم استئناسي، فالرسول يحب جبل أحد، كما أنّ جذع الشجرة كان يحن لرسول الله عليه السلام..!!. وهنا نؤكد ونزكي ما يؤكده لنا المفكر الإسلامي والمصلح الكبير بديع الزمان سعيد النورسي التركي (ت1960م) من أنّ للجمادات حسا وعاطفة، مثلها مثل الحيوانات والطيور غير العاقلة.. ولها كلها جمادات أو حيوانات- أشواق ولذائذ، وهو يؤيد مقولته بأنّ من يبصر بعض الجمادات يجدها تطلب شرفاً ومقاماً وكمالاً وجمالاً وانتظاماً، بل هي تبحث عن كل ذلك، وتفتش عنه لأجل إظهار الأسماء الإلهية المتجلية فيها، لا لذاتها، فهي تتنور وتترقى وتعلو أثناء امتثالها تلك الوظيفة. لنتذكر أيضاً عالم الحيوانات والطيور غير العاقلة – هنا – أنّ الديك مثلاً – مع أنه غير عاقل يؤثر الدجاجات على نفسه، فيترك ما يلتقطه من حبوب رزقه الهين، دون أن يأكل منها. ويشاهد أنه يقوم بهذه المهمة، وهو في غاية الشوق، وذروة اللذة، فهناك إذن لذة في تلك الخدمة أعظم من لذة الأكل نفسه.. وكذا الحال مع الدجاجة – الراعية لأفراخها – فهي تؤثرها على نفسها، إذ تدع نفسها جائعة في سبيل إشباع الصغار، بل تضحي بنفسها في سبيل الأفراخ، فتهام الكلب المغير عليها لأجل الحفاظ على الصغار[6]. وعلى هذا يقاس جميع ما في الكون من سعي وحركة، ابتداء من دوران الشموس في أفلاكها، وانتهاء بدوران الذرات في دائرة جاذبيتها، حتى إنّ كل ذرة، وكل ذي حياة تبدو كالجندي في الجيش له علاقات ينجذب إليها، وله وظائف وارتباطات مع كل دائرة من الدوائر في جيش الحياة كله!! وأياً كان الأمر فإن مفردات الكون، أو ما نسميه عالم الأشياء ينقسم إلى ثلاثة أقسام[7]. قسم منها: كالماء يُرى ويُحس، ولكن لا يمسك بالأصابع.. ففي هذا القسم المادي ينبغي التجرد عن الخيالات والانغماس فيه بكليتك.. بالطرق العلمية البحتة.. وسوف تكتشف أسراراً عجيبة في الماء وأشباهه تؤكد لك وجود الخالق العظيم. والقسم الثاني: كالهواء، يُحس ولكن لا يُرى، ولا يُتخذ ولا يُمسك.. فهو نصف مادي ونصف معنوي، وهو بحاجة إلى العلم والبصيرة. وبهما تدرك عظمة اللطيف الرحيم الذي يقيم حياة الناس والكون على كائن لطيف على هذا النحو. والقسم الثالث: كالنور، يُرى ولكن لا يُحس، ولا يؤخذ ولا يستمسك، فيحتاج لعمل الكيان الإنساني كله.. من بصيرة القلب إلى الروح.. لأنّ النور لا يؤخذ باليد، ولا يُصاد بالأصابع، وهو يعالج بالفكر والبصيرة[8].. وبالفكر (الموضوع النقي) والبصيرة (النقية القوية) نستطيع أن ندرك بعض آفاق عظمة الله في الكون، ولكننا سندرك أول ما ندرك أنّ هذا الكون لا يقوم بغير خالقة الحكيم المدبر الخبير المهيمن الرحيم. وسوف يدلنا كل شيء في الوجود على وجوب وجود الله القدير، وعلى عظمته المطلقة من جهتين: الجهة الأولى: قيام كل كائن من الذرات حتى المجرات ومن النملة حتى الفيل بوظائف تفوق طاقته المحدودة بآلاف المرات، مع أنه عاجز عن ذلك، فيشهد كل كائن بلسان عجزه على وجود الله القدير المطلق. الجهة الثانية: توافق حركة كل كائن مع الدساتير التي تكوّن نظام العالم، وانسجام عمله مع القوانين التي تديم توازن الموجودات، فيشهد – بهذا الانسجام والتوافق – على وجود الله العليم القدير. (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) (الأنبياء/ 22). ولو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا.. فسبحان الله رب العرش عما يصفون!!.       الهوامش:
[1]- النورس الآية الكبرى ص30-42. [2]- المرجع السابق ص34. [3]- المرجع السابق ص35-36. [4]- النورسي: الآية الكبرى ص52-55. [5]-النورسي: الآية الكبرى نشر سوزلر القاهرة. [6]- النورسي: حقائق الإيمان 121-122. [7]- النورسي: الآية الكبرى.

[8]- المرجع السابق.

   المصدر: كتاب إنسانيات الإسلام (مبادئ شرعية.. وتجارب واقعية)

ارسال التعليق

Top