• ٢ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٣ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

اللغة العربية ونظرية التأصيل القرآني

د. طلال علامة *

اللغة العربية ونظرية التأصيل القرآني
◄اللغة العربية لغة حضارية عريقة. وهي أرقى الساميات لفظاً وسعة، ومن أرقى لغات العالم دلالة، وتركيباً واشتقاقاً، وفصاحة[1]، تكلّمتها قديماً وحديثاً شعوب كثيرة، وأمم كبيرة؛ فألّفت بين فئاتها، ووحّدت بين أراض واسعة تمتد على حدود العالم بجهاته الأربع، بعد أن تبنّاها الدين الإسلامي لغة رسمية للتبليغ، ونشر الرسالة. واللغة العربية اليوم هي لسان حال ما يقارب المئتي مليون في حياتهم اليومية، وتعبيراتهم اللسانية، في الصومال وخليج عدن، إلى موريتانيا والمغرب. وهي في أيامنا لغة العبادة لأكبر منظومة دينية تتجاوز المليار من المسلمين، يترنّمون بها مع تلاوة كل صباح وعيشة. وهذا الأمر فرضته طبيعة الدعوة التي اختارت العربية من بين لغات الأرض رفعاً لشأن قوم غافلين[2] وطلباً للتوحيد في المصطلح، الأمر الذي ظهر جلياً مع مبدأ التوحيد الديني الإسلامي.   - تحصين اللغة بالدِّين: إنّ التوسُّع في استعمال العربية خارج حدود الجزيرة بعد سيطرة لهجة قريش داخلها[3] أفاد من ناحية، وأساء من ناحية ثانية. فلقد ساهم في توحيد هذه الأُمّة، وحوَّلها إلى أمة تدكُّ عرشي قيصر وكسرى، لتثبت دعائم التوحيد في مشارق الأرض ومغاربها. ولكن فتح الباب أمام سيل من الأخطاء، أصاب الفصحى في الصميم، وعزلها عن معينها النمير ألا وهو السليقة. وإذا كان الأمر السلبي قد سبب نشوء الدراسات النحوية واللغوية، كضريببة مفروضة على كل تطوّر في التحوُّل من الممارسة العملية إلى الممارسة النظرية[4] فإنّ الخسارة المنظمة لمناطق الصفاء اللغوي ساهمت في شحذ الهمم لمواجهة المستجدات بطرق استنبطها رجال اللغة، وعلماء الأُمّة بعد اعتمادهم على النص الذي لا يقبل التشكيك والمدافعة لأنّه الوحي الناطق بينهم بالحق، وتحديه لهم على أن يأتوا بمثله لم يمر عليه قديم عهد[5] من هنا انطلقت الجذوة الأولى لنور أضاء درب اللغة، فقد تمّ وصلها بكتاب الله الكريم، وأصبحت سوره هي الحدود المانعة، والثغور المحصّنة أمام كل غزو، وقامت مفرداته التي تجاوزت السبعين ألفاً ونيفاً بأدوار العناصر الرديفة التي متَّنت البنيان في وجه أعاصير التغيير المبني على الاستلاب، وتضييع الشخصية اللغوية المميزة باستعمال عامية أذهبت ريح العربية، وأساءت إلى أهلها منذ أمد بعيد. لأنها أقامت برزخاً بين أسلوبي التعامل والتخاطب اليوميين، وأسلوب الكتابة المرتبط بفصحى قريش، ولغة القرآن. ولو وقف الأمر عند هذا الحد لهان الوضع، وسهل تحمّله. ولكنه تجاوز ذلك في أيامنا إلى حدّ المطالبة باستبدال فصحى الجاهلية، والإسلام، والأمويين، والعباسيين، والنهضة بعامية[6]ل بلد، وكأني بهؤلاء يحاولون ما عجز الزمان عن القيام به منذ اثني عشر قرناً داخل البيئة الواحدة، والقطر الواحد، وبين الأقطار المتنازعة في شرق الوطن العربي وغربه.   - حدود الاصالة: والحديث عن الأخطاء في لغتنا الفصحى أمر ليس بالجديد العارض. فقد تصدَّى له قديماً علماء كالكسائي[7] في كتابه (ما تلحن به العوام)، والزبيدي[8]ي (لحن العامية)، وحديثاً أقطاب كإبراهيم اليازجي[9]ي (أغلاط العرب) و(لغة الجرائد)، والشيخ أحمد رضا[10]ي (ردِّ العامي إلى الفصيح). والأمر اللافت هنا تواصل حاضر الأخطاء بماضيها، لأنّ مصادرها ليست محصورة لتقفل وتُسد الأبواب دونها! وإنما هي عمليات متلاحقة تنهش صدر العربية ليل نهار مع حاجة كل مفكر، وأديب، وكاتب، وصحفي، ومذيع، ومعبِّر إلى مصطلح جديد، وتعبير جديد؛ ولعلنا لا نعدو الصواب إذا قلنا إنّ معين الأخطاء حالياً أغزر بكثير من خطورة تُسجّل حاضراً، لأنّ الماضي اقترن بسيادة الأُمّة، وسيطرتها، وأخذها لزمام المبادرة. أما الآن فعقد النقص والدونية تتحكم بمصير البشر، والحجر. قد يُظن أنني سلفيّ متحجّر، وتقليديّ متعنّت، أريد أن أقفل الباب في وجه التجديد، لأقف عند حدود القول بالإلهام، والتوفيق، وبالتفوّق اللغوي المبني على قاعدة الانتماء – ولا يعقل أن يتنكر الإنسان لثقافته، ولغته، وهما حياته التي تجمع الأمس، بالحاضر مهيئة للمستقبل، - ولأتحدث بالسليقة[11] التي محا دورها الكلام بالعامية، ولهجاتها المتعددة –، ولكن الأمر يتعدّى ذلك إلى طلب التجديد المحق، فكما أنّ الذاكرة التي لا تعرف إلا الماضي هي ذاكرة ضعيفة، فإنّ الذاكرة التي لا تعرف الماضي هي التي تزمع الدوران في الحلقة المفرغة لجهلها بالأصول، والمبادئ. وبديهي أنّ تجديداً مع جهل الأصول هو عبث، وضياع لا طائل منه، فضلاً عن أنّ اللغة العربية هي الوحيدة التي تجاوز تأريخها العلمي، والحضاري، الأربعة عشر قرناً. وقد كانت، وما انفكت حيّة بعد أن تجاوز الوحي بها إطار الإقليمية إلى العالمية من دون فتوحات، أو قهر عسكري، أو رعاية سياسية.   - المستوى اللغوي: وبناء عليه نقول: إنّ مستوى الفصحى، ولهجة قريش[12] هما المعنيان بالقياس والضبط. وقد أفادت هذه التجربة إلى حدٍّ كبير لأنها سبقت مرحلة التوحُّد السياسي عبر حكومة المدينة المركزية، بتوحُّد سار سريعاً وبخطى ثابتة، أدّت بدورها إلى تكامل الفصحى في مرحلة مبكرة؛ بشهادة نصوص الشعر الجاهلي الذي يعود أقدمها إلى القرن الخامس للميلاد. وهذا أنتج لغة أدبية عامة ينظم بها شعراء العرب أشعارهم، ليتمكّنوا من إلقائها في الأسواق العامة التي كانت تجمعهم[13]. هذا في الجاهلية، أما في العصر الإسلامي فيلفت أنظارنا مع بداية القرن الثاني للهجرة الانتظام في مدارس علمية متخصّصة توجّه العمل النحوي، واللغوي، ليغدو معها النحو واحداً من أهم العلوم، بعد أن سبق غيره في الوجود، مما رتّب له مكانة مركزية، فهو أوّل علوم الوسائل؛ لأنّه يصون اللسان عن الخطأ. والخلط هنا بين البعد اللغوي، والإطار النحوي ظلّ حاضراً، وتابع مرحلة متقدمة تمكّن عندها الخليل بن أحمد الفراهيدي[14] من الفصل بين الدراستين، الأمر الذي هيّأ لاحقاً لابن جني أن يعرِّف اللغة بقوله: "أمّا حدُّها فإنها أصوات يعبر بها كل قوم من أغراضهم". وهنا يمكن القول وبجرأة إنّ الأسلاف عندما واجهوا، ونافحوا نجحوا في التأسيس لعلوم إن تأخرت عن اللغة بالولادة، فقد رافقت وسايرت الممارسة الميدانية للمواجهة. إذ تمكّن الصرف وأخوه النحو بعد انفصالهما مع المازني[15]، من صيانة الحدود اللغوية العائدة لمستوى الفصحى المعتمد قرآنياً، لأنّه لابدّ لكل مستوى في التعبير من أنماط خاصة تحكمه عند الإبلاغ. وهذا أبسط ما تقدمه لنا لهجاتنا العامية التي تختلف بين إقليم وآخر، بل بين قرية وأخرى داخل المجموعة الإنسانية الواحدة، وبين لغات الشعوب مهما كانت درجة رقيّ لغتها، من العازلة، إلى الإلصاقية، إلى التحليلية[16]. وقد كان الأسُّ في هذه المجابهة كتاب الله الناطق بأسمى آيات الفصاحة، والبلاغة. فالجميع انطلقوا للحفاظ على آياته، ولكنهم أساؤوا إليه من نواح متعددة عن غير قصد. فلقد ذهبوا إلى شرح القرآن بالشعر الجاهلي الذي شابه النحل، والوضع، كما شابته اللحون[17]. كما خرَّجوا الآيات بناء لقواعدهم المستنبطة، فحكموا بالقراءات الشاذة، وفاتهم بأنّ تعميمهم قاصر، وقياسهم خاطىء، لأنّ أبسط ما ننعت به القواعد التي استنبطوها أنها لا تمت إلى الوصفية، والموضوعية البعيدة عن الإسقاط بصلة، ولذا فقد حمّلوا اللغة ما لا تستوعبه بمناهجها، وعادوا بالقصة إلى التقديس، والإلهام[18] لجهلهم بأنّ القواعد عمل بشري، وتطور اللغات تصرُّف إنساني محض. فاللغة كائن حيُّ يتطوَّر بتطوُّر المجتمعات سلباً، وإيجاباً، ولا علاقة لقاعدة، أو شذوذ بتعليم آدم الأسماء، أو تمكينه من ملكة النطق، أو تشريف اللغة العربية لأنّه نطق بها. وحسبنا في النهاية مع هذا المقام أنّ الطاعنين من المستشرقين، وأتباعهم الذين يشكّكون في إعراب اللغة، وأصالة الدراسات فيها لم يتمكنوا من تجاوز ما جاء به ابن جنّي، وأستاذه أبو علي الفارسي في القرن الرابع الهجري. إذ تمكن ابن جني في (الخصائص) من إيراد أبحاث صرفية، ولغوية عز نظيرها عندهم، بل هم عيال على الإتيان بمثلها بعد تسعة قرون[19]. نقول هذا منعاً لأي تفسير صاعداً أو هابطاً فالأمر الذي يشغل جماعة هنا قدست، أو جماعة هناك أزرت لا يسدّ خلل دراسة تنطلق باحثة عن التكامل خارج حدود الاستعلاء، أو الدونية. والدليل الأقوى فشل تلك المحاولات التي قامت حول الشعر الجاهلي خالعة عليه هالة من القداسة، والتنزيه مع علم أصحاب هذه الدراسات بطروء بعض الفساد على أبيات لامرىء القيس، وطرفة، وعدي بن زيد، وقسّ بن ساعدة، والنابغة الذبياني، وأميّة ابن أبي الصلت، ولبيد بن ربيعة، وعمرو بن أحمر[20].   - دور القرآن في اللغة: هنا يسعنا القول إنّ الفصحى بأجلى صورها يجسِّدها الرسم القرآني كآخر شكل من أشكال التطور البلاغي، والبياني. كما يسعنا القول: إنّ اتخاذ القرآن كوثيقة لا يجاوز الأسلوب العلمي "الوثائقي"، ولا يرتبط بمفهوم ديني نحترمه، ونجلُّه. ولئن قدّر للفصحى القرآنية أن تنتشر لتوحِّد لهجات العرب، وأمّتهم تحت راية القرآن؛ فهي مهيأة لتوحِّد الأُمم والشعوب تحت الإطار نفسه. الأمر الذي هيأ القرآن له وعمل على تحقيقه في مجالات عدّة هي: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا...) (الشورى/ 7)، (ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) (البقرة/ 2)، (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ...) (الإسراء/ 9)، (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء/ 107). ونحن عندما نقصر التعامل الصحيح على القرآن كلغة مثال يقاس عليها، لا نتعامل بمنطق تسليمي لا نقاش فيه، بقدر تعاملنا مع وثيقة تاريخية حيّة شاهدة على تطور الاستعمال اللغوي بالقياس الذي ارتضي أساساً ليبني على أسس كبار اللغويين. كما لا نمنع هذه اللغة من التطور، بل نطلب البحث، والاشتقاق، والتجديد، والابتكار، إنما وفق وسائلنا التي سايرت الحاضرة، وسادتها ردحاً من الزمن. فلقد استعار أسلافنا، وعرّبوا وهذّبوا، وترجموا، ووضعوا، وارتجلوا، ولكن وفق مقاييس اللغة التي تجاوزت كلماتها 12 مليون كلمة دون خوف، ولا وجل. إنّ بحثنا هذا للدفاع عن نظرية التأصيل باعتماد النص القرآني الأصل الثابت ذي القرار المتين ليس بدعاً. وهذه المحاولة وإن بدت وحيدة في زمن غابت منائر دروبه، فهي ليست يتيمة. فقد سبق لدى كثير من النحاة، والعلماء، الإشارة إلى فحوى هذه النظرية من باب التلميح، أو من باب إحداث ثقب في الجدار المتراصّ. فها هو الفخر الرازي[21]، يقول: "وكثيراً ما أرى النحويين يتحيَّرون في تقرير الألفاظ الواردة في القرآن، فإذا استشهدوا في تقريرها ببيت مجهول فرحوا به، وأنا شديد العجب منهم، فإنهم إذا جعلوا ورود ذلك البيت على وفقها دليلاً على صحتها، فلأن يجعلوا ورود القرآن دليلاً على صحتها كان أولى"[22]. واللطيف اللافت للنظر في الموضوع أن يجتمع غير عالم على فكرة التأصيل القرآنية هذه على تقادم أزمانهم، واختلاف مدارسهم. فالرازي في القرن السادس الهجري، والفرَّاء[23] الذي سبقه بقوله: "والقرآن أعرب، وأقوى حجة من الشعر"، وهو الكوفي المتشدِّد في اعتماد القرآن، والاستشهاد بالآيات، وابن القرن الهجري الثاني، كما أيَّد هذه النظرية أحمد بن فارس[24] بقوله: "ونزل (القرآن) بأفصح اللغات" وهو ابن القرن الرابع الهجري وابن ما اصطلح على تسميته بالمدرسة البغدادية. والعجيب هنا مع قدم العهد بهؤلاء العلماء من القرن الثالث إلى السابع من الهجرة، أنّ محاولاتهم ذهبت أدراج الرياح، وهم على مكانة مرموقة في العلم ديناً، ودنيا، فلم يبال أحد بما قدموه بل ظلّت العبرة للشعر يصنّفه الدارسون – حتى أيامنا الحاضرة – في المقام الأول في الاستشهاد. ولو توقف الأمر عند هذا الحد لهان المطلب بعد الاتفاق على أساس لغوي يتم النسج على منواله. ولكن الطامّة الكبرى كانت عندما لجأ العلماء إلى تخريج الآيات، والألفاظ وفق قواعدهم المستنبطة من قياس ناقص، أو قليل شاذ، من دون أن يلتفتوا إلى قراءات القرآن عند تقعيدهم للقواعد، فهم يرضون ببيت مجهول القائل على قراءة قارئ، وإن كان واحداً من السبعة الكبار. وهذا أغرب ما اعتمدوه من مناهج علمية، أو عملية في عملهم النحوي. فمن ناحية تراهم ينفرون خفافاً، وثقالاً للدفاع عن الوحي، وآياته بعد طروء الفساد، واللحن على ألسنة العامة، وبعض الخاصة،[25] ومن ناحية ثانية يهملون الاستشهاد أو يساوون بين الاحتجاج بالشعر – وإن كان بيتاً يتيماً – وآي من الذكر الحكيم. مع ما روي عن وضع الرواة من كوفيين، بصريين لكثير من الشعر المنحول[26]. علماً (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ...) (الإسراء/ 9)، وقد جاء يتحدّى أساطين العرب الفصحاء، كما تحدّى الإنس والجن على أن يأتوا بمثله، وقد جاء بلسان عربي مبين[27] أقرّ له الجميع بفصاحته ثمّ نكثوا، وعادوا إلى الشعر يخرِّجون ما فاتهم من قراءة آياته صدراً بصدر على رسول الله (ص)، والصحابة من بعده[28]. وقد فات هؤلاء أنّ القرآن يهدي للتي هي أقوم، وهي النبراس دائماً في التصحيح اللفظي فهو سجِّل الكلم الطيب، والأصيل. إنّ عملية التأصيل هذه هي من الدقة والجدة في مكان؛ لأنها تراعي الأسس في الاستلهام، وتحدِّد المنحى في رصد التجديد النحوي المزمع نشره على الملأ. فكما أنّ الأسلاف لم يعجزوا عن الإتيان بالجديد في مجال التسميات، أثناء التوسُّع العلمي المبنيّ على التوسُّع الحضاري، بعد أن ردوا الشبهات، ونسّقوا أمورهم ضمن دائرة الدرس اللغوي. هكذا نحن نعنى بالأمر من باب المواجهة أوّلاً درءاً للأقاويل التي تطلق زوراً وبهتاناً، وانتقالاً من موقف الدفاع إلى موقف الهجوم حفاظاً على سرعة المبادرة. فالغرب لم يتورَّع عبر بعض مستشرقيه عن مهاجمة أسس الأصول عندنا (القرآن) بعد أن سمحنا له بمهاجمة حياضنا. يقول فولرز[29]: "إنّ القرآن نزل بلهجة مكة المجرّدة من الإعراب ثمّ نقّحه العلماء على ما ارتضوه فيما بعد من قواعد ومقاييس"، ومثله فعل فون كريمر[30] الذي ردَّ وضع النحو إلى محاولة إنقاذ العربية، والسليقة لأنّه يرى: "أنّ الأجانب وضعوه ليتعلّم أبناؤهم العربية". وفي القولَين تناقض واضح يدل على سوء النية المسبق، فقد تعمّد ضرب الأساس المعتمد في عملية الضبط اللغوي. إذ يتفضل العلماء بضبط أمر القرآن قراءة لغيرتهم على العربية، ولذا يستنبطون الإعراب أوّلاً وثانياً يقدِّم المجوس، والزنادقة خدمة جليلة للوحي ولغته عندما يتصدون لأمور تعليم أبنائهم لغة العرب بوساطة كتابهم الذي لا يؤمنون به! وعليه نؤكد على القناعة الراسخة رسوخ الجبال، فسلامة المنحى العلمي المعتمد على نص تجاوز تاريخه العلمي أربعة عشر قرناً هي السبيل الأنجح (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) (يوسف/ 108). وعملنا هنا لا يدخل ضمن حدود الترف، فقد تخطت الأخطاء في أيامنا حدود العرب، والمستعربين إلى أهل الاختصاص، والمثقفين. إذ قد يعثر الإنسان على بضعة أسباب يبرِّر بها أخطاء من فقد السليقة، أو من لم يسمع بها (الأجانب)، ولكنه لن يعثر على سبب واحد يسمح لأبناء العربية، ومثقفيها أن يشاركوا في دكّ حصون اللغة بعبارات مثل: "خطأ مشهور خير من فصيح مهجور"، على أننا نفهم محاولات البعض وحرصهم على تسهيل عملية الإبلاغ التي تقوم بها اللغة ضمن حدَّي: التعبير، والفهم. ولكن الأمر يتجاوز عندنا مستوى المعجمات والتزمُّت، ويشارف مستوى الحق، والعمل به. والله لا يستحي من الحق وضرب الأمثال، وتصريف الذكر لقوم يعلمون. وإلّا كيف نفسِّر تصدِّي سيد المرسلين (ص) بقوله في حديث نقله ابن جني: "أرشدوا أخاكم فقد ضلّ"[31]. وهنا يساوي بين اللحن والخطأ، والضلال، ويطلب إلى الحاضرين إرشاد المتلفظ بالخطأ؛ حفاظاً على رباط الوحدة الذي سيطول أمد المتعاملين به زمناً لم تعرفه لغة حتى الآن. فلقد جمع الأُمّة سابقاً، وستجتمع بفضله لاحقاً. وإذا كانت الوحدانية سمة عمل الإسلام على إحرازها اعتقاداً بالقلب، والتزاماً بالأركان، وإقراراً باللسان، فاللسان هو السبيل إلى النطق المعبر بلغة واحدة تضييقاً للمسافات التي تفصل بين البشر تحت الضغوطات العرقية، والقومية، واللغوية.. وكيف نفسِّر عبارته الكريمة (ص): "إنّ القرآن نزل بلهجة قريش"[32] فضلاً عن حديث آخر "رحم الله امرءاً أصلح من لسانه"[33] بغير المبادرة إلى التصحيح، أو التعلُّم، وفاق مبدأ أقره الله، وهو التوحُّد الاختياري، وصولاً إلى التوحُّد الطوعي حول كلام الله الناطق بالحق ما دامت السماوات والأرض. إنّ هذه الدعوة للتصدِّي للأخطاء على أساس القرآن ليست دعوة استعلائية فوقية بقدر ما هي عملية رفء لما اعترى العربية في زمن التضعضع هذا. كما أنّ الحفاظ على وحدة لغة الوحي أمر ليس لنا الخيار به. وهو الذي يجمع أهل المشرق بأهل المغرب، كما يجمع القوميات المتباعدة، والجبلات المختلفة على رباط هو اللغة التي تشكِّل ألف باء التوحيد الإسلامي أصلاً. وإن شاب هذه الدعوة بعض المحاولات الشوفينية التي يقدُّمها البعض بأسلوب فوقي يرون معه فضل العربية على غيرها لأنها لغتهم، ولغة حضارتهم. فالمأخذ على هؤلاء يرتدُّ عليهم لأنّ الرسول (ص) يرفض طروحاتهم بقوله: "أيها الناس إنّ الربّ واحد، والأب واحد، وليست العربية بأحدكم من أب ولا أم، وإنما هي اللسان؛ فمن تكلَّم العربية فهو عربي"[34].   هل للغة دور في حفظ القرآن؟ سؤال يطرح نفسه كإشكالية أمام سيل من المجابهات على الساحة الفكرية. مما يهيئ لنا أسباباً تدفع بنا إلى التصحيح بملاحظات من هنا وهناك؛ للردّ على شبهات بعضها جدِّي يمثّل تفكيراً عميقاً، وبعضها الآخر يرى الموضوع من حيث لا يراه الآخرون كإدلاء للدلو في كل اتجاه دون مراعاة للتخصّص كهذا السؤال السابق، أو كملاحظة التساهل في موضوع الأخطاء بعد وصولها إلى ألسنة الكثيرين مما جعلها عامة مفهومة إذ لا حاجة لبث الروح في هيكل عظمي، وإلى بعث الماضي اللغوي الذي تحيّفه النسيان! وهذان أغرب رأيين سمعتهما، إذ وهم أصحابهما إلى درجة تركوا معها الأصول حيث لا رجعة. فاستعمال الشائع في الأخطاء يهدد بخطر داهم على العربية وأهلها. إذ لا يعقل أن يهتم القاصي والداني بلغة القرآن في الوقت الذي يتخلى فيه أصحابها عنها؛ استرسالاً في غيٍّ وجهل مركّبين. وقد فات أصحاب الرأيين أنّ نتاج الحضارة الإسلامية الذي تحكمه ملايين المجلدات على مدى أربعة قرون يعود بالفضل إلى ما نسجته الشعوب على منوال لغة القرآن مع أصقاعهم المتباعدة، وأعراقهم المختلفة، وأصولهم المتنافسة. ولا يمكننا أبداً الركون إلى هذا الناتج الذي فرضه الاستلاب الثقافي أمام عجلة الغرب الثقافية والحضارية. وموضوع الأخطاء لا يدخل أصلاً ضمن حدَّي التطور، بل هو محصور بالفساد الذي استشرى على ألسنة الناطقين بلغة الوحي، والمتعاملين بها، أمام انحصار استعمالها في المدرسة، والجامعة، وبعض المقابلات المتلفزة والمذاعة، - على أشكالها الممسوخة – الأمر الذي أوصلنا إليه اعتماد العاميات على مدار الوطن العربي. أما الشبهة الثانية فالرد عليها يقضي بأن من لا ماضي له يرسي عليه، لا يمكنه أن ينشىء مستقبلاً، هذا من ناحية أمّا من ناحية ثانية فإننا نلاحظ أنّ الغربيين أنفسهم لا يزالون يؤصّلون على الجذور اللاتينية في كثير من مصطلحاتهم، ولا يجدون حرجاً من ذلك مع قدم عهدها بهم، وما ذلك إلّا لتبيين الأصالة أو تأكيداً لتمايز على قاعدة الانتماء للأصل، فلِمَ يطلب منا ذلك؟! ونحن عندما نحافظ على الأصل الجامع لا نجترحه، بل إنّه لمن العار أن نضيِّعه للتمسك بلقطاء لا آباء لهم، ولا أُمّهات... وعلى شاكلة هذه الأخطاء، وما أسرّه لي بعضهم مرة: "إنّ الأصول الضيّقة التي حكمت تعبيرات القرن الهجري الأوّل ليست كافية، بل ليست صالحة لترصد تطلعات القرن الحادي والعشرين الميلادي"[35]. وقد دار النقاش حول كلمة صُحُفي بضمتين متتاليتين حيث أبحت النسبة للجميع فراراً من استعمال صحافي من صحافة بخفض الصاد على وزن فعالة، لأنها لم ترد على العرب، أو صَحَفي بفتحتين متتابعتَين... وقد رفضنا اقتراح فِعالة وفَعَلي لما يلي: 1-    إنّ البصريين هم الذين قالوا بترك النسبة للجمع مع فارق المدلول كما في دَوْلي ودُوَلي، لا سيما عند دلالة اللفظة على جمع التكسير. ولكنهم جوَّزوا ذلك عند تحوُّله إلى الدلالة على جماعة معينة، أو عندما يصير علماً على مفرد كما هي الحال مع نسوة، فاكهة، جزائر، علماء، قرّاء، أخبار، أهرام، مماليك، أنصار، فتلفظ: نسوي، فاكهاني، علمائي، قرّائي، أخباري، أهرامي، مماليكي، أنصاري (وقد أيّد اللسان هذا). أمّا الكوفيون فقد جوزوا النسبة إلى الجمع مطلقاً، مع اللبس في المفرد أو خلافه كما في: عين عيني، شهر شهري، جزائر ومفردها جزيرة فتصير جزائري أو جزيري. وقد أيّد مجمع القاهرة اللغوي رأي الكوفيين بقوله: "فلا تستوي النسبة إلى الجمع، ولا النسبة إلى واحدة"[36]. 2-    إنّ في استعمال صِحافي شبهة مع صانع الصِحاف[37]، وقد عرفت الكلمة أصلاً، وليست من المهمل، أو المتروك استعماله. وقد سجَّل القرآن ذلك. فلا أستطيع إلغاء الوحي للقبول بوضع حديث لا يراعي استعمال الأصل الأهم في ثبات لغتنا. 3-    إنّ في استعمال صَحَفي[38] شبهة مع المصحِّف في تلاوة القرآن. ولقد عرف هذا المعنى سابقاً، ولا مجال لتعبير جديد تحت عنوان جديد. وهنا لابدّ من التعليق أن رصد المستجدات لتصحيحها أوّلاً بأوّل حتى تمنع التراكمات التي استعملت سابقاً وما فتئت تستعمل، لأنّ اطلاق أي استعمال قبل استقراء اللغة رمي في عماية. والمستعمل عند الكوفيين مع موافقته لصريح القرآن أفضل عندي مما يقترح حلاً معاصراً، والصحفي بالضم أفضل من استعمال بالفتح مضى على استعماله 13 قرناً للدلالة على المخطىء. ونقابة الصحف أفضل من نقابة الصِحافة التي استعملت في شقها الثاني 13 قرناً للدلالة على صانع السيوف، أو رقائق الذهب والفضة، والأهم مخالفة الاستعمالَين لنص القرآن والمعجمات. والتراث اللغوي فيما هو كائن ليس صنماً نسعى إلى تكريس سيادته، بقدر ما هو شكل التلفظ المؤصّل، والذي يحكم التعبير مرة في طريقة التلفظ مع الحركات المرافقة كسمات وأسس، وأخرى مع القاعدة الصرفية، أو النحوية، أو البلاغية، أو المعنى الخاطئ الشائع ولكنه الشاهد على الماضي والمسجِّل لبعض، بل أغلب تراكيبه التي أمكنه الوصول إليها، ونقلها بالأمانة العلمية الكافية، والمتلاحمة مع وثيقة الوحي أن قيّدت برسمها الخلود لألفاظ اللغة والانتصار لها.

وإن أجد فلا أجد أبلغ من كلام سيد البلغاء الإمام عليّ ابن أبي طالب (ع) بقوله: "لا بارك الله لي بيوم لم أزدد فيه علماً". فها أنذا مع إقفال هذه الحلقة أزداد قناعة أنّ دائرة الأخطاء تزداد ضيقاً كلما عدنا أدراجنا إلى الوراء، وقرأنا للعلماء من كل صنف وفن، وما ذلك إلّا لإرتباط العلماء بمعين لا ينضب، ونمير لا يجف، وعملهم الدؤوب على إحراز لغة الوحي الذي يأتيه لا الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

 الهوامش:  
[1]- الصالح، صبحي، دراسات في فقه اللغة، دار العلم للملايين، ط10/ ص45. [2]- صدى الآية السادسة من سورة ياسين، وصدى الآية 28 من سورة الزمر. [3]- بلاشير، تاريخ الأدب العربي/ ص77-90 و91-106، وفليش المقدمة/ ص95-155. [4]- فندريس، اللغة، تعريب الدواخلي والقصاص، القاهرة/ 1950/ ص1-30. [5]- صدى الآية 88 من سورة الإسراء. [6]- راجع لأنيس فريحة آراءه في اللهجات 1955، وليوسف الخال دعواته المتكررة وآراءه في اتباع العامية، ومنها ما أثر عن العودة إلى دراسة الأدب الشعبي في لبنان مع سلامة موسى وغيره. [7]- علي بن حمزة الكسائي، أحد القزَّاء السبعة المشهورين، وهو إمام الكوفيين الذي ناظر سيبويه، توفي بالري 197هـ. [8]- محمد بن الحسن الزبيدي الأندلسي، شاعر، أديب، قاضٍ، استدعاه الحاكم المستنصر لتأديب ولده. أخذ عن القالي وتوفي بإشبيلية 379هـ. [9]- ابن الشيخ ناصيف اتقن العربية، والفرنسية، والانكليزية، وألم بالألمانية، صحفي لغوي درَّس في البطريركية بعد أبيه وراسل كبريات المجلات دفاعاً عن لغة العرب. توفى بالقاهرة 1906م. [10]- العاملي، عضو المجمع اللغوي، شغف بالدراسات اللغوية والعصرية فكان معتمد اللغويين. توفي بالنبطية 1953م، أسس نواة جمعية المقاصد الخيرية في النبطية. [11]- راجع كتابنا، نشأة النحو، بيروت، دار الفكر اللبناني/ 1992/ ص35. [12]- بروكلمان، تاريخ الأدب العربي/ ج1، ص13-34. [13]- أسواق كانت تجمع العرب ولها أوقات موزعة على مدار السنة. عدّها اليعقوبي في تاريخه عشرة، وكذلك البغدادي في الخزانة، كما عدّها الألوسي في بلوغ الأرب أربع عشرة، والهمذاني في صفة جزيرة العرب خمسين. فلتراجع في الكتب الآنفة. [14]- متقشف ورع واضع علم النحو، والعروض، وأول معجم صوتي وصل إلينا، أستاذ ابن المقفع وسيبويه، توفي 170هـ. [15]- أبو عثمان بكر بن محمد، درس على الأخفش الأوسط، والجرمي، والأصمعي، عالم فطن لا يُناظر حتى إنّه ناظر أستاذه الأخفش فقطعه. توفي 247هـ. له في مجالس العلماء أخبار لافتة للنظر في تخريج ألفاظ القرآن حرفياً فتراجع.. [16]- الصالح صبحي، دراسات في فقه اللغة، دار العلم للملايين/ ط10/ ص45. [17]- راجع كتابنا، نشأة النحو، بيروت، دار الفكر اللبناني تحت عنوان اللحن والشعر الجاهلي/ ص51-85. [18]- راجع مقالنا في مجلة العرفان، مجلد 78 العددان 2 و3، ص108 تحت عنوان الدراسة اللغوية بين الإلهام والاصلاح. [19]- Language its nature, development and origin, G. Pespesson, London; 1950. [20]- نشأة النحو، بيروت دار الفكر اللبناني، ص51-57. [21]- محمد بن عمر، قرشي النسب، أوحد عصره في المعقول والمنقول، توفي 606هـ. [22]- الرازي، التفسير الكبير/ ج3/ ص193. [23]- يحيى بن زياد، من أئمة الكوفيين في اللغة والنحو، وهو مؤدب المأمون العباسي، توفي 207هـ. [24]- من أئمة اللغة والأدب أستاذ البديع والصاحب بن عبّاد، توفي 395هـ. [25]- ابن الأبناري، أنباه الرواة على أنباه النحاة/ ج3/ ص22/ أو مجالس العلماء، ص129. [26]- ابن خلكان، وفيات الأعيان، بيروت، دار صادر 1986/ ج2/ ص379. [27]- نزل بهذا المعنى عشر آيات هي: الشعراء 195، النحل 103، فصلت 4 و44، يوسف 2، الرعد 37، طه 103، الزمر 28، الشورى 7، الزخرف 3. [28]- ابن الجوزي، النشر في القراءات العشر، دمشق 345، ج1/ ص10-11. [29]- كارل، خليفة شييتا على المكتبة الخديوية، وأستاذ اللغات الشرقية بجامعة فيينا، المستشرقون، لعقيقي، ج2/ ص633. [30]- مستشرق ألماني له مشاركة فعالة في الدراسات الإسلامية، المستشرقون، ج2/ ص420. [31]- ابن جني، الخصائص/ ج2/ ص8. [32]- ابن منظور، لسان العرب/ ج13/ ص397-318، مادة لحن. [33]- ابن هشام، السيرة، دار القلم/ ص154/ مقطع2. [34]- روى الحديث ابن عساكر في اقتضاء الصراط المستقيم/ ص80، ومحمد رشيد رضا، الوحي المحمدي/ ص230-231. [35]- أستاذ جامعي ناشط في مجال اللغويات... [36]- راجع الصفحة الرابعة في محاضر الجلسات في دورة انعقاده الثالثة وفيها: أنّ النسبة إلى الجمع قد تكون أدق وأبنى في التعبير عن المراد من النسبة إلى المفرد. [37]- ابن منظور، لسان العرب/ ج9/ ص168/ مادة صَحَفَ.

[38]- م. ن. ج9/ ص186/ مادة صَحَفَ.

   * أستاذ اللغة العربية وآدابها في الجامعة اللبنانية، كلية الآداب، كلية الاعلام

  المصدر: مجلة نور الإسلام/العددان 57و85 لسنة 1995م

ارسال التعليق

Top