• ٢ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٣ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

المفهوم القرآني للتاريخ

عبدالله الفريجي

المفهوم القرآني للتاريخ

التأريخ – هذه اللفظة التي تعنينا كثيراً، لم تكن أبداً مجردة عن مدلولاتها ومعانيها التي تشكّل مجموعة من العلاقات المعرفية، مرتبطةً بعدد من المفاهيم، متحركةً ومتفاعلةً سواها من أجل فهم أفضل لجوانب مهمة من حركة الوجود وتفاعل أكبر مع هذه الحركة – هذه المجموعة من العلاقات المعرفية التي أصبحت فيما بعد تدعى بنظريات تفسير التأريخ أثبتت تارةً نجاحها في الكشف عن أسرار ما حدث وأخفقت تارةً في الكشف عن أسرار أخرى. فما الذي نعنيه أولاً بلفظة "تأريخ".

إنّ أوّل ما يتبادر إلى الذهن من سماعنا لكلمة تأريخ، هو صورة الحوادث التي جرت والتي أثرت في مسار الحياة، وخصوصاً التي جرت والتي أثّرت في مسار الحياة، وخصوصاً حياة الأبطال والعظماء والانجازات العظيمة للشعوب. وربما لا يلوح لأذهان الكثيرين انّ هناك مدلولاً آخر لهذه الكلمة، إلا إذا كان السامع من أصحاب التخصص، والذي يعلم على وجه الدقة انّ هذا المعنى ليس دقيقاً، حتى ولو كان قريباً جدّاً من المعنى الأكاديمي. فالتأريخ إذا كان يعني تدوين وضبط الظواهر والحوادث التي وقعت في حياة الإنسان، فإنّه – إذن – لا ينحصر بالمهم أو المؤثر من الحوادث بل ربما يعني بضبط كل الوقائع بلا استثناء، سواء كانت مهمة، أم انها غير متصفة بهذه الصفة، كل الوقائع تستحق أن تدوّن، رغم أنّ هذه العملية ستبدو غير ممكنة، لأنّ حياة المجتمع ليست سوى حياة عشرات ومئات وآلاف وربما ملايين من البشر، وكل واحد من هؤلاء معني بصنع الوقائع والحوادث، سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة عن طريق مساهمة الفرد بدفع الواقع باتجاه معين من غير اكتراث، أي انّ عدم الإكتراث والسلبية هو أيضاً طريقة من طرق صنع الحدث أو المساهمة في صنعه، وربما كان هذا موازياً لمواقف بعض الأفراد الذين يقومون بتوجيه الأحداث وجهات محددة، أعني بذلك الأبطال والعظماء وقادة الثورات وحركات التغيير الاجتماعية. وهذا الأمر بحد ذاته، من مواطن الخلاف بين المهتمين بالتأريخ. وأولئك الذين يحاولون الخروج بقواعد وتعميمات، إذ يحاول بعضهم اعطاء الأولوية للأفراد، ويحاول آخرون أن تكون للجماعات الأولوية في صناعة الأحداث. وهكذا يواجهنا موقفان من كلمة "تأريخ" أو فهمان لها. الأوّل: هو الذي يعني بالقواعد والتعميمات. والثاني: الذي يرى الحوادث مجردة، أي انّ هناك في التأريخ مفهومين: موضوع التأريخ وعلم التأريخ، اشتركا بلفظ واحد لبيان مدلولاتهما. إنّ موضوع علم التأريخ يطلق على مجموعة الظواهر والحقائق (العلاقات) الأفعال والإنفعالات، الولادات والوفيات من جراء الحوادث. نشوء الطبقات، ظهور واضمحلال الحضارات والمجتمعات. جميع الظواهر والحوادث التي تخص الإنسان وعلاقته بالطبيعة، وبالآخرين، ومنذ العصور الغابرة وحتى يومنا الحاضر. ويتناول الأمر الثاني، علمنا واطلاعنا وإيماننا بالعلاقة بين هذه الظواهر، كما يشمل هذا الأمر إيماننا بالطريق الذي سلكته البشرية على مر العصور والقوانين التي يتحرك ضمن إطارها الإنسان وتجعله يزاول نشاطاته الحياتية المتكاملة، وهذا التعريف ينطبق على "علم التأريخ، والذي يسمَى بدوره تأريخاً"[1]. غير انّ التمييز ليس مستعصياً. وخصوصاً في الفترة التي بات فيها الاهتمام بالتعميمات معروفاً، وأخذت حيزها في عالم اليوم، في ما عرف بـ"فلسفة التأريخ" أو محاولات الكشف عن عوامل حركة التأريخ واتجاه سيره وما إلى ذلك مما يدخل في هذا الإطار، الذي عرف بأنّه "علم صيرورة الإنسان"[2] والذي قال عنه الشيخ محمد مهدي شمس الدين – في معرض تعريفه للتأريخ – بأنّه: "حركة الشيء في محيطه خلال الزمن، وبعبارة أخرى، عملية التحول والتغيّر والانتقال "الصيرورة" من حالة إلى حالة، التي ينجزها خلال علاقته بعناصر محيطة عبر الزمن"[3]. وكما يلوح أنّ التأريخ بالمعنى الأوّل، أي موضوع علم التأريخ سيشكل اهتمامنا به من هذه الزاوية، أي إنّه هو الذي يوفر المادة العلمية التي تمكننا من الوصول إلى تعميمات، بينما يبقى الجانب الآخر مهماً، لأنّه يتكفّل بالإجابة على أسئلة غاية في الحيوية، ويساهم في بناء رؤانا الشاملة للكون والحياة. ولهذا جعلنا المعنى الثاني مدار اهتمامنا، لأسباب، منها: انّه يمكن أن لا تأتي نتائجه واحدة، وثانياً: لأنّه يرتبط بأدق خصوصيات الإنسان وعقائده. ونعني بالأوّل، انّ هناك فلسفات للتأريخ، ونعني بالثاني، إنّ هذه الفلسفات ترتبط بالنظرة الكلية للكون والحياة. فالفلسفة، أو قوانين الصيرورة التأريخية للإنسان تعنينا من حيث انها ترتبط بعقائدنا ولهذا سعى العلماء للحديث عنها والبحث فيها. وما سنحاوله الآن هو الخروج بتعريف للتأريخ نستلّه من الرؤية القرآنية له، أي اننا سنسعى لتوضيح المقابل القرآني لما اطلق عليه تسمية تأريخ. إذا تتبعنا النصوص القرآنية، فقد لا نجد استخداماً لكلمة تأريخ ضمن هذه النصوص، ولهذا، فإننا سنقصر سعينا للبحث في المضامين، إذ أنّ القرآن تطرق إلى الحديث عن التأريخ بصورة واسعة، وأعطاه مساحة مهمة في بنائه النظري. ولهذا، فإننا نتوقع العثور على مقابل مفردة تأريخ من هذا الباب. فالقرآن دأب على سرد الوقائع التأريخية والأحداث، ثم انتقل إلى الخروج بتعميمات بصورة مباشرة، أو اكتفى – أحياناً – بدعوتنا إلى استنتاجها والانتفاع من هذه الحقائق للاعتبار. وللدلالة على هذا، نورد النصوص الآنية: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ...) (غافر/ 82). (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأرْضِ...) (آل عمران/ 137). (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) (محمد/ 10). (قُلْ سِيرُوا فِي الأرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (الأنعام/ 11). وتطالعنا آيات أخرى تدعو لاستخراج التعميم من خلال الواقعة التأريخية: (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا...) (النمل/ 52). (فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلا قَلِيلا...) (القصص/ 58). فهذه الأمثلة، والدعوة إلى الاعتبار لبعض المشاهد، تأتي لدعم التعميم القرآني. من جهة أخرى، أشار الله تعالى إلى كتابته والتي سماها ذكراً، (.. قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا) (الكهف/ 83). فتكون الخلاصة، هي انّ القرآن سمى الحوادث بالذكر، لأنها تأتى من خلال التذكر، لوقوعها ماضية مما يجعلها صالحة لأن تكون مقابلاً لكلمة تأريخ، التي تعني تدوين حوادث الماضي، كما أشار إلى علاقات وتعميمات يمكن التوصل إليها من خلال الواقعة التأريخية والتي ذكرها أحياناً بصراحة من خلال حديثه عن السنن، مميزاً لها عن الزمن الذي سماه بالأجل، والذي نراه ممتزجاً بكلمة التأريخ، لتمنح المفهوم القرآني للتأريخ ميزة خاصة به، ألا وهي عدم تضمنه للزمن، بل انّ الزمن قضية مستقلة لها اطارها الخاص، الذي سنبحثه بصورة مستقلة. ويظهر أنّ سورة الكهف اختصت بنقل تفصيلي لبعض الوقائع التأريخية التي تعلق غرض القرآن ببيانها من قبيل حادثة أهل الكهف، وحادثة لقاء موسى بالخضر – عليهما السلام – وجانب من حياة ذي القرنين، وقال عنه: (قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا). فعبّر عن نقل الوقائع السالفة والتي نسميها نحن بالتأريخ بالذكر، وقد قال صاحب "مجمع البيان" في معرض تفسيره للآية: "أي خبره وقصته" ثمّ قال: "معناه، قل يا محمد سأقرأ عليكم خبراً وقصة"[4]. وبعد هذا سنبدأ ببحث مفهوم الأجل من زاوية تعلقه بقضية فلسفة التاريخ لنخرج بالمفهوم القرآني له.   - ما هو الأجل؟ وردت كلمة "أجل" في ما يقرب من خمسين آية للدلالة على زمن معيّن محدد، وقد شمل البُعد الزمني للحياة الإنسانية في جزء كبير من تلك الآيات، وفي البعض الآخر، دلّت لفظة الأجل على بعد زمني للكون بمعناه الواسع. وقد فسّر صاحب "الميزان"، الأجل في معرض تفسيره للآية الثانية من سورة الأنعام (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) (الأنعام/ 2)، بقوله: "يشير إلى خلقه للعالم الإنساني بعد الإشارة إلى خلق العالم الكبير فيبيّن انّ الله سبحانه هو الذي خلق الإنسان ودبّره بضرب الأجل لبقائه الدنيوي ظاهراً، فهو محدود الوجود بين الطين الذي بدأ منه خلق نوعه، وإن كان بقاء نسله جارياً على سُنّة الزواج والوقاع"[5]. وفي الصفحة نفسها قال: "ومن الممكن أن يراد بالأجل ما تقارن الرجوع إلى الله سبحانه وتعالى..." وقد ابهم الأجل بإتيانه منكراً في قوله: "ثمّ قضى أجلاً" للدلالة على كونه مجهولاً للإنسان لا سبيل له إلى المعرفة به بالتوسل إلى العلوم العادية. وقوله: (أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) تسمية الأجل تعيينه، فإنّ العادة في العهود والديون ونحو ذلك، يذكر الأجل، وهو المدة المضروبة. ثمّ يقول: "انّ المراد بالأجل الأوّل ما بين الخلق والموت، والثاني بين الموت والبعث ذكره عددٌ من الأقدمين، وربما روي عن ابن عباس، وقد أورده ضمن التفسيرات الغريبة". وقد أشار لدى تصديه للآية السابعة من سورة الروم: (مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى) (الروم/ 8). بقوله: "إنّ الله سبحانه ما خلق هذا العالم كُلاً ولا بعضاً إلا خلق ملابساً للحق أو مُصاحباً، أي لغاية حقيقية، لا عبث بلا غاية له وإلى أجل معيّن فلا يبقى شيء منها إلى مالا نهاية له بل يغنى وينقطع"[6]. وهكذا يحدد معنى كلمة "أجل" بمعنى الزمن المحدد الذي يتحرك فيه الإنسان، وكذلك الكون نحو غايته، وهذا أهم ما يميّز كلمة الأجل عن كلمة التأريخ، فالأجل وقت معيّن، تنتهي حياة الإنسان عنده كجماعة، على العكس من كلمة تاريخ التي لا تنطوي على دلالة من هذا النوع. ومن خلال هذا نكتشف انّ المفهوم القرآني للتأريخ يرتبط بقوة بالحدود، فالإنسان فرداً أو جماعة يعيش فترة محددة لا يتعداها، كما دلّ على ذلك بعض الآيات التي أكّدت هذا المفهوم، إذ قالت: (إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً...) (يونس/ 49). إذن، المفهوم الإسلامي للتأريخ تضمن تحديد فترة زمنية يعيشها الإنسان، وهذا يقتضي وجود بداية ونهاية، وانّ القرآن بهذا التحديد لا يترك مجالاً للتخرص والظن بل يحدد تلك البداية بوضوح وقاطعية، ومنذ السورة الأولى "البقرة" ويظل يؤكد المضمون نفسه في بقية السور بنفس درجة التأكيد والقاطعية. كما انّه لا يفتأ يذكّر بنهاية الإنسان بالموت ونهاية الحياة البشرية بفناء مشابه، يسميه يوم القيامة، والذي يعتبر عن انقضاء أجل الحياة البشرية. بل يعمد القرآن إلى مهاجمة الآراء والفرضيات التي تقول باستمرار الحياة وديمومتها. وبعد هذا سيكون الأجل (هو الزمن الذي يتحرك خلاله الإنسان منذ بداية وجوده ككائن وحتى نهاية هذا الوجود). مع ما يترافق مع هذه الحركة من تطورات وخبرات وانتكاسات. وسيكون الفرق في هذا المفهوم عمّا سواه، بكونه يرتبط ببداية ونهاية، ويشترك مع ما سواه بكونه صيرورة الإنسان، مضافاً إلى ما أشار إليه القرآن من التداخل في الآجال. فهناك أجل كلي للجماعة وأجل خاص بالفرد. كما انّ المفهوم ينطوي على علاقة خاصة قائمة بين مؤجل ومؤجل له ونفس الأجل. وهذا فضلاً عن نفي العبثية والاقرار بوجود هدف يسعى إليه الوجود. وهكذا نكتشف جملة من خصائص المفهوم الإسلامي للتاريخ، وهي: 1- انّه صيرورة محددة بزمن. 2- انّه الزمن محدد ومتداخل (الأجل). 3- انّه ينطوي على علاقة بين مؤجل ومؤجل له. 4- نفي العبثية وتأكيد الهدفية. ليكون التعريف الإسلامي للتأريخ هو: "الأجل الذي تحدث خلاله صيرورة الإنسان وصولاً إلى الهدف الكوني الكبير". وهذا التعريف يتضمن الاقرار بوجود معنى وفلسفة للتأريخ ثمّ وجود روابط وعلاقات لابدّ من اكتشافها وتحديدها. استكمالاً للتعريف.   الهوامش:
[1]- "الإنسان والتأريخ"، الدكتور علي شريعتي، ص10-11. [2]- المصدر السابق. [3]- "حركة التأريخ عند الإمام علي" الشيخ محمد مهدي شمس الدين، ص3. [4]- تفسير مجمع البيان، سورة الكهف، الآية: (سأتلو عليكم منه ذكراً)، ص499-450. [5]- تفسير الميزان، العلامة الطباطبائي، ج7، ص5، ص7.

[6]- المصدر السابق، ص7.

المصدر: مجلة التوحيد/ العدد 68 لسنة 1993م

ارسال التعليق

Top