• ٢٨ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٩ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

اليوم الآخر في القرآن الكريم

د. محمد عياش الكبيسي

اليوم الآخر في القرآن الكريم

الايمان باليوم الآخر هو حجر الزاوية في العقيدة الاسلامية، ذاك لان الانسان بطبعه لا يلزم نفسه بالطاعة إلا ان تكون من ورائها دفع مفسدة، أو جلب مصلحة، فالايمان بالله وبرسالاته لا يؤدي ثمرته إلا إذا كان هناك جزاء ينتظره الانسان، ومن ثم كان الايمان باليوم الآخر له دور كبير في إلزام الانسان بمنهج الله، ومن هنا جاء إهتمام القرآن باليوم الآخر إهتماماً لا يقل عن الإهتمام بالركنين السابقين "الإلهيات" و "النبوات"، ولنأخذ أمثلة على هذا الإهتمام:
1_ ذكر القرآن اليوم الآخر بما يصعب حصره، فلقد جاء ذكر الآخرة في القرآن بنحو (114) مرة. واليوم الآخر بنحو (26) مرة. أما أسماء اليوم الآخر فهي كثيرة جداً.
2_ في الغالب يأتي ذكر الايمان باليوم الآخر عقيب الايمان بالله دون فاصل ولنقرأ هذه الامثلة:
(ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر) (البقرة/177).
(ذلك يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر) (البقرة/232).
(لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين. إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر) (التوبة/44-45).
3_ الشمولية الواسعة التي حظي بها اليوم الآخر في القرآن الكريم، فلقد بحث القرآن الموت والبعث والحشر والحساب والميزان والصحف والصراط والجنة والنار، وكل هذا بتفصيل دقيق لا سيما إذا كان الغرض الترغيب والترهيب.
هذا وسنعرض عقيدة اليوم الآخر في القرآن الكريم بنقاط مختصرة لكنها جامعة _إن شاء الله _ لإهم ما ينبغي أن يعرفه المسلم في هذا الموضوع_ وكما يأتي:
أـ ادلة وجود اليوم الآخر ومناقشة المنكرين:
يبدو أنّ القرآن إستخدم دليل "الخلق" في إثبات اليوم الآخر، فالله خلق الكون من العدم فما المانع من أن يخلقه مرة ثانية والإعادة في عادة البشر أهون من الإبتداء، وإذا كان الأمر ممكنا، والقرآن أخبر بوقوعه، والقرآن هو المعجزة الظاهرة، فعلامَ التكذيب؟! أستطيع أن أقول أن هذا هو الدليل الوحيد الذي إستخدمه القرآن في إقناع منكري اليوم الآخر، ولنقرأ بعض الأمثلة من القرآن الكريم:
(وقالوا أإذا كنا عظاما ورفاتا أإنا لمبعوثون خلقا جديدا. قل كونوا حجارة أو حديدا. أو خلقا مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم اول مرة فسينغضون اليك رؤوسهم ويقولون متى هو قل عسى ان يكون قريبا. يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون ان لبثتم الا قليلا) (الإسراء/49-52).
(أولم ير الانسان أنا خلقناه من نطفة فاذا هو خصيم مبين. وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم. قل يحييها الذي انشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم. الذي جعل لكم من الشجر الاخضر ناراً فاذا انتم منه توقدون. أوليس الذي خلق السموات والارض بقادر على ان يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم. انما امره اذا اراد شيئا ان يقول له كن فيكون. فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء واليه ترجعون) (يس/77-83).
وربما استخدام القرآن دليلاً قريباً من الأول ونستطيع أن نسميه (دليل الملك) فمن هو مالك السموات والأرض والانسان؟ فالمالك هو الذي يتصرف في ملكه كيف يشاء، ولنقرأ هذا النص فقط:
(بل قالوا مثل ما قال الاولون. قالوا أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون. لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل ان هذا إلا اساطير الاولين. قل لمن الارض ومن فيها ان كنتم تعلمون. سيقولون لله قل افلا تذكرون. قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم. سيقولون لله قل أفلا تتقون. قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه ان كنتم تعلمون. سيقولون لله قل فانى تسحرون. بل آتيناهم بالحق وانهم لكاذبون) (المؤمنون/81-90).
ب_ وصف اليوم الآخر بصورة إجمالية:
وسنأخذ هذا من خلال الأسماء التي منحها القرآن لليوم الآخر، وهذه أبرز تلك الأسماء فلننظر فيها:
1_ يوم الدين: (الحمد لله رب العالمين. الرحمن الرحيم. مالك يوم الدين) (الفاتحة/2-4).
2_ يوم القيامة: (ويوم القيامة يردون الى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون) (البقرة/85).
3_ يوم الحسرة: (وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر) (مريم/39).
4_ يوم البعث: (فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون) (الروم/56).
5_ يوم الفصل: (هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون) (الصافات/21).
6_ يوم التلاق: (يُلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق) (غافر/15).
7_ يوم الآزفة: (وأنذرهم يوم الآزفة اذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع) (غافر/18).
8_ يوم الحساب: (وقال موسى إنّي عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب) (غافر/27).
9_ يوم التناد: (ويا قوم إنّي أخاف عليكم يوم التناد) (غافر/32).
10_ يوم الجمع: (وتُنذر يوم الجمع لا ريبَ فيه فريقٌ في الجنة وفريقٌ في السّعير) (الشورى/7).
11_ يوم الوعيد: (ونُفِخ في الصور ذلك يوم الوعيد) (ق/20).
12_ يوم الخلود: (ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود) (ق/34).
13_ يوم الخروج: (يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج) (ق/42).
14_ الدار الآخرة: (قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين) (البقرة/94).
15_ الآخرة: (وبالآخرة هم يوقنون) (البقرة/4).
16_ الساعة: (حتى اذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرّطنا فيها) (الأنعام/31).
17_ يوم التغابن: (يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن) (االتغابن/9).
18_ الواقعة: (إذا وقعت الواقعة ليس لوقعتها كاذبة) (الواقعة/1-2).
19_ الحاقة: (الحاقة. ما الحاقة. وما أدراك ما الحاقة) (الحاقة/1-3).
20_ القارعة: (كذبت ثمود وعاد بالقارعة) (الحاقة /4)و (القارعة، ما القارعة. وما ادراك ما القارعة. يوم يكون الناس كالفراش المبثوث) (القارعة/1-5).
21_ الطامة الكبرى: (فإذا جاءت الطامة الكبرى. يوم يتذكر الانسان ما سعى. وبُرّزت الجحيم لمن يرى) (النازعات/34-36).
22_ الصاخة: (فإذا جاءت الصاخة. يوم يفر المرء من أخيه. وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه) (عبس/33-36).
23_ الغاشية: (هل أتاك حديث الغاشية. وجوه يومئذ خاشعة. عاملة ناصبة. تصلى ناراً حاميةً) (الغاشية/1-4).
ماذا يريد القرآن من كل هذه الأسماء؟ إنّ هذا الحشد ليس عبثاً إنّ كل اسم من هذه الأسماء يفتح لنا نافذة على ذلك اليوم الآتي، إنها لقطات مصورة، وكل لقطة تفعل فعلها في نفس هذا الكائن الضعيف (الانسان)، إنها تأخذه من تلابيبه لتوقفه على الصراط المستقيم صراط الله.
ج_ تفاصيل أحداث اليوم الآخر:
يبدأ اليوم الآخر بالنسبة للانسان بالموت، أما الكون بما فيه ومن فيه فبقيام الساعة، ثم تستمر الأحداث متتالية حتى الخلود الأبدي في نعيم الجنة أو في عذاب النار، فلنتسلسل مع أحداث اليوم الآخر.
1_ الموت: الموت ليس غيباً، وإنّما هو حقيقة مشاهدة محسوسة، وكل انسان يوقن أنّه سيموت، والموت لا يحتاج إلى تفسير وبيان، ولا ينبغي أن نذهب عميقاً في الفلسفات العميقة، فنسأل ما الموت؟ وما حقيقته؟ فهذا يبعدنا عن الحقيقة، فالحقيقة إن هذا الانسان الذي يتحرك ويكد ويلهج ويبني ويهدم ويأكل ويشرب تأتي عليه لحظة ينقلب إلى قطعة هامدة فلا حركة ولا كلمة ولا أي شيء، ثم يتأذى أقرب الناس إليه بجثته الهامدة، لقد أصبحت نتناً وجيفة لا تطاق، فيتخلص أهله منه بأي طريق!! هذا هو الموت، فهل يشك فيه انسان؟ وهل الانسان بحاجة إلى أكثر من هذا؟.
ذكر القرآن الموت ذكراً كثيراً، ويكفي أن نعلم أنّه كرر لفظ (الموت) وما اشتق منها بنحو (165) مرة.
ومجرد تذكير الانسان بالموت مغزى يهدف إليه القرآن، فالانسان ينسى وهو بحاجة إلى من يذكره، ينسى الموت فيشقى ويطغى، لكنه إذا ذكر الموت ربما اتعظ وادّكر، ولكن القرآن قد يذكر الموت لا للتذكير فحسب بل ربما يقرن معه غايات أخرى ولنأخذ هذه الأمثلة:
(لا إله إلا هو يحيي ويميت ربكم ورب آبائكم الأولين) (الدخان/8) وهنا جاء للتذكير بقدرة الله الفعّال لما يريد.
(فلولا إذا بلغت الحلقوم. وأنتم حينئذ تنظرون. ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون. فلولا إن كنتم غير مدينين. ترجعونها إن كنتم صادقين) (الواقعة/83-87) وهنا جاء لتقرير ضعف الانسان.
(ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملئكة باسطوا أيديهم اخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون) (الأنعام/93) وهنا جاء نذيراً للطغاة والظالمين.
(حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إنّي تُبتٌ الآن) (النساء/18) وهنا جاء لبيان ندم الانسان العاصي الغافل ساعة الموت.
(وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً ) (آل عمران/145) وهنا جاء ليثبت أنّ الموت مقدّر وله أجل محتوم. وتصور كم ستلقي هذه العقيدة في نفوس أتباعها من جلد وشجاعة وإقدام.
(كلُّ نفسٍ ذائقةُ الموتِ) (آل عمران/185) القرار العام الحاسم الذي لا إستثناء فيه، الأنبياء، الطغاة، الملائكة والشياطين، الأولين والآخرين، يا له من قرار!!
2_ القبر والبرزخ: وهي المرحلة التي تأتي بعد الموت مباشرة وفيها يحجب جسد الميت ويحال بينه وبين الدنيا، وهذا الحائل هو الذي يسمى "البرزخ".
ولم يقف القرآن طويلاً عند هذه المرحلة، فكل ما ذكره عن البرزخ (حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون. لعلي اعمل صالحا فيما تركتُ كلا إنّها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون) (المؤمنون/99-100) والآية توضح حقيقتين: الأولى: وجود مرحلة يقول فيها الانسان: رب ارجعون، هي بعد الموت قبل البعث. والثانية إنّ بين هذه المرحلة والمرحلة الأولى برزخ (حاجز) ومن أراد أن يكسر هذا الحاجز يقال له: كلا.
وأما القبر، فمع أنّ القرآن ذكره ثماني مرات بمشتقاته، إلا إنّ القرآن لم يذكر عنه لذاته شيئاً جديداً، فمثلاً يقول القرآن: (ثم السبيل يسره. ثم أماته فأقبره) (عبس/20-21)، وهذا معلوم فالميت يقبر، لكن الله أراد التذكير بقدرته _سبحانه _ وضعف عبده، ويقول ايضاً: (وأنّ الله يبعث من في القبور) (الحج/7)، فهذا الكلام عن البعث أكثر مما هو عن القبر، ونحو هذا قوله _تعالى _ (وإذا القبور بُعثرت. علمت نفس ما قدمت وأخّرت) (الإنفطار/4-5).
والمقصود إنّ القرآن لم يحدثنا عن تلك المرحلة، طبيعتها وطبيعة الانسان فيها، وعمرها، لم أجد في القرآن من هذا شيئاً، نعم ربما هناك إشارات كما في قوله _تعالى _: (النار يعرضون عليها غدوّاً وعشياً ويوم تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون أشدّ العذاب) (غافر/46) فالعرض إذا كان قبل قيام الساعة فهو في عالم البرزخ _والله أعلم _ لكن تبقى الحقيقة إنّ الله لم يفصّل لنا تلك المرحلة، ولم يطلعنا على جوانبها، فلماذا؟! الله وحده هو الذي يعلم. ولكن إذا كان المقصود بذكر اليوم الآخر أساساً هو الإعداد ليوم الحساب ترغيباً وترهيباً فإن تفصيل القرآن للجنة وما فيها والنار وما فيها مع التأكيد بأنّ الانسان بعد موته لا يمكن أن يرجع إلى الدنيا فبينه وبينها برزخ، هذا يكفي لمن كان له لب _والله اعلم _.


المصدر : العقيدة الاسلامية في القرآن الكريم ومناهج المتكلمين

ارسال التعليق

Top