• ٢٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٢٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

بر الوالدين بين خط الطاعة وخط الإحسان/ ج2

العلّامة الراحل السيِّد محمّد حسين فضل الله

بر الوالدين بين خط الطاعة وخط الإحسان/ ج2

◄إنّنا نريد إثارة الفكرة القرآنية التي تؤكد على الإحسان ولا تؤكد على الطاعة انطلاقاً من الملاحظات التي قدَّمناها في تفسير الآيات القرآنية ومن ملاحظاتٍ أخرى.

- الأولى: الحديث الوارد في الكافي عن أبي ولاد الحناط قال: سألت أبا عبدالله (جعفر الصادق) (ع) عن قول الله عزّوجل: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) (الأنعام/ 151)، ما هذا الإحسان؟ فقال: "أن تحسن صحبتهما وأن لا تكلفهما أن يسألاك شيئاً مما يحتاجان إليه وإن كانا مستغنيين أليس يقول الله عزّوجل: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) (آل عمران/ 92)".

قال: ثمّ قال أبو عبدالله: "وأمّا قول الله عزّوجلّ: (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا) (الإسراء/ 23)، قال: إن اضجراك فلا تقل لهما أفٍّ، ولا تنهرهما إن ضرباك، قال: (وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا) (الإسراء/ 23)، قال: إن ضرباك فقل لهما: غفر الله لكما، فذلك منك قول كريم، قال: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) (الإسراء/ 24)، قال: لا تملأ عينيك من النظر إليهما إلّا برحمة ورقَّة ولا ترفع صوتك فوق أصواتهما ولا يدك فوق أيديهما ولا تقدم قدّامهما".

إنّنا نلاحظ في هذا الحديث التأكيد على الجانب الإنساني العاطفي في معاملة الولد لوالديه في تجسيد معنى الإحسان ولم يعرض للطاعة من قريب أو من بعيد. ويعلّق العلّامة المجلسي في كتاب (مرآة العقول) على هذا الحديث فيقول: "ثمّ اعلم أنّه لا ريب في رعاية تلك الأمور من الآداب الراجحة، لكن الكلام في أنّها واجبة أو مستحبة، وعلى الأوّل هل تركها موجب للعقوق أو لا، بحيث إذا قال لهما أفّ خرج من العدالة واستحق العقاب؟ فالظاهر إنّه بمحض هذه الأمور نادراً لا يسمّى عاقاً ما لم يستمر زمان ترك برّهما، ولم يكونا راضيين عنه لسوء أفعاله وقلّة احترامه لهما، بل لا يبعد القول بأنّ هذه الأمور إذا لم تصر سبباً لحزنهما ولم يكن الباعث عليه قلة اعتنائه بشأنهما واستخفافهما لم تكن حراماً بل هي من الآداب المستحبة، وإذا صارت سبب غيظهما واستمر على ذلك يكون عاقاً، وإذا رجع قريباً وتداركهما بالإحسان وأرضاهما لم تكن في حدّ العقوق ولا تعدّ من الكبائر".

ويؤيده ما رواه الصدوق في الصحيح قال: "سأل عمر بن يزيد أبا عبدالله (ع) عن إمام لا بأس به في جميع أموره عارف غير أن يُسمع أبويه الكلام الغليظ الذي يغيظهما اقرأ خلفه؟ قال: لا تقرأ خلفه ما لم يكن عاقاً قاطعاً، والأحوط ترك الجميع".

ونحن نضيف إلى ما استقر به من اعتبار هذه التعاليم التفصيلية في الحديث من الآداب المستحبة، ملاحظة أخرى وهي أنّ كلمة الإحسان توحي في مفهومها في الذوق العام، بالسلوك الطوعي الذي ينطلق من المعنى الإنساني لدى الإنسان بحيث يتحرّك فيه تحركاً عفوياً من دون إلزام، مما قد يدلّ على أنّ المطلوب من الولد تحسين خلقه، وتوسعة صدره والتسامح معهما فيما يسيئان به إليه، ولهذا كانت الآيات تثير الإحسان الصادر منهما تجاه الولد من أجل أن يقابله بالإحسان إليهما فيما يستقبله من حياته معهما على طريقة (هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ) (الرحمن/ 60).

إنّنا ندعو إلى التدقيق في هذه اللفتة الإيحائية للكلمة فقد تعطينا الكثير من حدود المفهوم في المدلول الفكري للعنوان.

- الثانية: إنّ الحديث عن طاعة الوالدين في غير ترك الواجب وفعل الحرام بحيث يجب على الإنسان ترك كلّ المستحبات والواجبات الكفائية وفعل كلّ المكروهات والمباحات لمجرد أمر الوالدين بذلك ونفورهما وكراهتهما للامتناع عن هذه الأمور.

إنّ مثل هذا التصوّر يعني أنّ المزاج الوالدي في حاجته إلى الانسجام الذاتي يتقدّم على كلّ المصالح التي تتضمّنها المستحبات والواجبات الكفائية، والمفاسد التي تتضمّنها المكروهات، مما يجعل الولد خاضعاً في التزامه الإسلامي بهذه الأمور لمزاج والديه فيمكن لهما إلغاء كلّ التشريع غير الإلزامي لمجرد نزوةٍ ذاتية، أو حالةٍ عاطفية، أو عقدة مرضيةٍ، كما أنّه يفرض على الولد تعطيل كلّ مصالحه الحياتية في كلّ خصوصياتها وخنق كلّ رغباته وتطلّعاته في الحياة، وإسقاط كلّ مشاريعه الفكرية والعلمية والعملية، إذا لم تكن في دائرة الإلزام الشرعي، وبهذا يتحوّل الولد إلى لعبةٍ بيد الوالدين، ليلهوا بها كما يروق لهما ذلك من دون أن يقدّما أي مبرّر لهذا الأمر أو النهي، لأنّ العنوان الذي يضعه فريق رأي الطاعة؛ هو إرضاء الوالدين من دون الدخول في تفاصيل الخصوصيات والخلفيات الكامنة وراء ذلك.

فلو أراد الولد أن يتخصص في فرع علمي وأراد الأب له أن يتخصص في فرع أدبي، لأنّه يحبّ الأدب ويكره العلم، فعلى الابن أن يخضع لذلك حتى لو كان لا يملك التوجه الأدبي من الناحية الذهنية.

ولو أراد الولد أن يدخل في عمل تجاري وأراد له الوالد أن يبقى بطّالاً وتعهد له بالإنفاق عليه فعليه - من وجهة نظر الطاعة - أن يطيعه في ذلك.

وهكذا يمكن للأبوين أن يفرضا نفسهما عليه حتى في تحديد أوقات نومه أو في خصوصيات علاقاته بزوجته بما في ذلك ساعات العلاقة الجنسية في تحديدها وما إلى ذلك.. هل أراد الله أن يجعل للأبوين حقّ التخطيط الإلزامي لحياة الولد فيرسمان له كلّ خطوط حياته على طريقتهما وتصوّراتهما بما في ذلك التصوّرات السخيفة التي يرتاحان إليها ليتقبّلها الولد كمنهج تشريعي متقدم على المنهج الشرعي في الدائرة غير الإلزامية. إنّ ذلك يعني تعطيل الشريعة في مستحباتها ومكروهاتها ومباحاتها لمصلحة شخصٍ أو شخصين.. وهذا مما لا يمكن أن يتقبّله المنطق التشريعي الإسلامي، لأنّ التنازل عن أي موقع من مواقع السلوك العملي في الخطّ الشرعي لمصلحة عنوانٍ آخر لابدّ أن يكون خاضعاً للمعطيات الدقيقة التي تتفاضل بها الأمور، ولابدّ أن يكون للقضية حدود تقف عندها المواقف، وتتحدّد فيها المسائل.. وهذا مما قد لا يتحقق في موضوعنا هذا لاختلاف الآباء والأُمّهات في ثقافتهم والتزامهم وأفكارهم ومزاجهم وتطلّعاتهم في الحياة الأمر الذي ينعكس سلباً على توازن الحياة الاجتماعية في مجتمع الآباء والأولاد.

إنّنا لا نجد هناك أساساً من الآيات والأحاديث الواردة في السنّة تدل على ذلك، بل كلّ ما رأيناه هو أنّ العقوق محرّم وإذا دقّقنا في مفهومه فإنّنا نلاحظ أنّه يمثّل حالة العدوان على الوالدين بالكلمة والنظرة والفعل، ومحاولة الإيذاء لهما بالطُّرق التي يتمثّل فيها الإيذاء في العلاقات مع الناس.

وإذا أردنا أن نلاحظ التصرّف الشخصي للولد المبني على ملاحظة مصالحه الدنيوية المشروعة، ومصالحه الأخروية التي تقرّبه إلى الله، وعلاقته بالآخرين من خلال ارتباطها بحياته فيما لا يمس حياتهما من قريب أو من بعيد، فإنّنا لا نجد أي علاقة لهما به، لأنّ المسألة هي مسألته كشخص مستقل في وجوده فلا مجال لتدخلهما في تفاصيله وليفرضا عليه ما يريدان من ذلك، بحجة أنّ ذلك يرضيهما وأن تركه يغضبهما، تماماً كما هو الحال في حرمة إيذاء المؤمن فإنّ معناه هو عدم القيام بعمل ضدّه مما يترك تأثيره السلبي على حياته الخاصّة، لا عدم القيام بما يؤذيه، حتى لو كان عمل خير كالتصدق على فقير لا يحبّه هذا المؤمن أو كالقيام بمشروع سياسي لا يرتاح إليه، إذ لو كان هذا المؤمن يكره نجاح هذا الشخص في أعماله بحيث يتأذى من ذلك، فهل نلتزم بحرمة ذلك؟.

إنّ كلمة العقوق تعني الإساءة إليهما في تصرّفاته معهما، كما في قول أفّ، أو شتمهما أو ضربهما أو حبسهما أو التعرّض للناس الذين يتصلون بهما بصلة المودَّة أو غير ذلك، ولا تشمل الإساءة إليهما ما يعكر مزاجهما من تصرّفات الإنسان الشخصية في إدارة شؤونه العامّة أو الخاصّة.

ونحن لا نمانع من استحباب القيام بما يرضيهما حتى لو كان ذلك على خلاف رغبته، ولكن هذا شيء، ومسألة الطاعة اللازمة لهما شيء آخر، لأنّ هذا يتصل بالثواب الذي يحصل عليه الإنسان في إرضاء والديه، لا بالواجب الذي يلزمه في سبيل ذلك.

وفي ضوء ذلك فإنّنا لا نوافق جمهرة العلماء الفقهاء الذين أوجبوا طاعة الوالدين في كلّ ما يتصل بالمباحات والمستحبات والمكروهات واشترطوا إذنهما في الجهاد وفي سائر الأسفار المباحة والمندوبة وفي الواجبات الكفائية مع قيام من به الكفاية. فالسفر لطلب العلم إن كان لمعرفة العلم العيني كإثبات الواجب تعالى وما يجب له ويمتنع والنبوة والإمامة والمعاد لا يحتاج إلى إذنهما، وإن كان لتحصيل الزائد منه على الفرض العيني كدفع الشبهات وإقامة البراهين المروّجة للدين زيادة على الواجب كان فرضه كفايةً فحُكمه وحكم السفر إلى أمثاله من العلوم الكفائية كطلب النفقة إن كان هناك قائم بفرض الكفاية اشترط إذنهما - كما جاء في شرح الشرائع -.

إنّنا نستفيد من النصوص المأثورة في الكتاب والسنّة، إنّ المطلوب هو الإحسان فيما يتصل بحُسن المعاملة معهما والمصاحبة بالمعروف، وإنّ المحرّم هو العقوق الذي يتحدّد بالإيذاء لهما فيما يرتبط بالأمور التي تخص حياتهما. هذا من ناحية المفهوم الإسلامي في الخطّ العام. لكن قد يترتب الثواب والأجر في التطوع بالتضحية بمزاجه ومصالحه لحساب مزاجهما ومصالحهما، كمظهر من مظاهر السمو الأخلاقي الإنساني، ويدخل في ذلك الخضوع للأوامر الصادرة منهما التي تنطلق من إشفاقهما العاطفي عليه في المواقف المحفوفة بالخطر من خلال شعورهما، الوالدي، لأنّ ذلك متصل بحالتهما النفسية التي قد تكون الإساءة إليهما عدواناً، وهي ليست كذلك في الواقع.

وإذا لاحظنا رسالة الحقوق للإمام زين العابدين (ع) فإنّنا نجد أنّ هناك حديثاً عن حقّ الوالدين على ولدهما حقّ الولد على والديه بحيث نجد أنّ هناك إرادةً مستقلة لكلّ واحد منهما في مقابل الآخر في الوقت الذي يملك حقّاً على صاحبه بإزاء الحقّ الذي يملكه صاحبه عليه.

فقد جاء في رسالة الحقوق المروية عن الإمام علي بن الحسين زين العابدين (ع)، "وأمّا حقّ أُمّك أن تعلم أنّها حملتك حيث لا يحمل أحد أحداً وأطعمتك من ثمرة قلبها ما لا يُطعم أحد أحداً وإنّها وقتك بسمعها وبصرها ويدها ورجلها وشعرها وبشرها وجميع جوارحها مستبشرةً بذلك فرحةً محتملة لما فيه مكروهها وألمها وثقلها وغمها حتى دفعتها عنك يد القدرة وأخرجتك إلى الأرض فرضيت أن تشبع وتجوع هي وتكسوك وتعرى وترويك وتظمأ وتُظلك وتضحى وتنعمك ببؤسها وتلذّذك بالنوم بأرقها وكان بطنها لك وعاءً وحجرها لك حواءً وثديها لك سقاءً ونفسها لك وقاءً تباشر حرّ الدنيا وبردها لك ودونك فتشكرها على قدر ذلك ولا تقدر عليه إلّا بعون الله وتوفيقه، وأمّا حقّ أبيك فتعلم أنّه أصلك وأنّك فرعه وأنّك لولاه لم تكن فمهما رأيت في نفسك مما يعجبك فاعلمِ أنّ أباك أصل النعمة عليك فيه واحمد الله واشكره على قدر ذلك ولا قوة إلّا بالله".

ونلاحظ في هذين الحقّين للأُم والأب أنّ الحديث فيهما ينطلق من خلال إثارة المعروف الذي تمثله قضية الأُمّومة والأُبوة في حياة الولد، حتى يكون ذلك أساساً للشعور بالمسؤولية في رعايتهما والإحسان إليهما وتحمّل الأذى منهما.. وليس في الحديث أي إشارة لأي أساس ترتكز عليه مسألة الطاعة التي تتصل بالمصلحة والمفسدة الكامنتين وراء الأوامر والنواهي من خلال حكمة الأمر والنهي ودراسته لكلّ الجوانب التي ترتبط بحياة الناس، وهذا هو الذي يمكن أن يؤكّد ما قررناه من أنّ القضية تتصل بالإحساس العاطفي في نتائجه العملية على صعيد السلوك، ولا تتصل بالناحية القانونية في الانقياد فهما في رغباتهما وأوامرهما ونواهيهما، وربما نلاحظ أنّ الإمام لم يحدّثنا عن تفاصيل حقّ الأُم والأب، بل ترك الأمر للولد أن يتصرّف معهما بالطريقة التي تتناسب مع خدماتهما الأساسية في حركة وجوده وفي تفاصيله وخصوصياته في نطاق طفولته وشبابه.. مما قد يوحي بأنّ على الولد أن يفكر بالسلوك العملي آزاء ذلك بما يفكّر به كلّ إنسان يعمل على أن يشكر المنعم عليه بهذا المستوى من النعمة الكبيرة الشاملة لتبقى المسألة في نطاق الإحسان المنفتح على كلّ مواقع الخير في شخصية الإنسان.

"وأمّا حقّ ولدك فتعلم أنّه منك ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره وإنّك مسؤول عما وليته من حُسن الأدب والدلالة على ربّه وفي نفسه فمثاب على ذلك ومعاقب، فاعمل في أمره عمل المتزيّن بحُسن أثره في عاجل الدنيا المعذر إلى ربّه فيما بينك وبينه بحُسن القيام عليه والأخذ له منه".

ونلاحظ أنّ حقّ الوالد على أولاده يحمل الكثير من معنى المسؤولية العملية على أساس أنّ الأب - في ولايته على الولد في طفولته وفي رعايته له في شبابه - يعمل على صنع الولد في التخطيط لنموه العقلي ومستواه في هذا الموقع، ولسموه الروحي والأخلاقي ودرجته العليا في هذا الاتجاه، ولاستقامته العملية في حياته على مستوى الكلمة والحركة والموقف والعلاقات.. فإذا أخلص في ذلك كان مأجوراً وإذا قصر فيه كان معاقباً.. كما إنّ القضية تتصل بالسمعة الطيّبة التي يحصل عليها الأب في الدنيا من خلال النتائج الإيجابية للتربية، أو بالسمعة السيئة من خلال النتائج السلبية لها، كما تتصل بالتعذير لله في القيام بواجبه في ذلك.

وفي ضوء ذلك نستطيع أن نعرف أنّ الأب لا يملك الحقّ في الطلب إلى ولده أن يترك مستحباً أو يفعل مكروهاً أو يتسلط عليه في الضغط على حياته بإلزامه بفعل مباحٍ أو تركه، أو بترك واجب كفائي، أو التضييق على حرّيته انطلاقاً من حالة مزاجية أو فكرةٍ غير مدروسة وما إلى ذلك، لأنّ مثل هذا يتنافى مع حُسن الأدب والدلالة على ربّه والمعونة له على طاعته، الأمر الذي يوحي بأنّ الولد ليس معنياً بإطاعة مثل هذه الأوامر والنواهي التي تبتعد به عن الارتفاع إلى المستوى الرفيع الذي يحقّق له الدرجة العليا في الدنيا والآخرة.

إنّ مسألة الحقّ المتبادل يعني الوجود المستقل المرتكز على الإرادة المستقلة في نطاق تأكيد الاستقامة في الفكر والشعور وحركة الحياة، باعتبار أنّ ذلك هو الذي يترك تأثيره الفاعل على قضية المصير، فلا معنى لذوبان الشخصية وفقدان الاستقلال، باعتبار أنّ الحقّ يوحي بأصالة الشخصية واستقلال الإرادة.

وهذا هو ما لاحظناه في التأكيدات القرآنية على المسؤولية الفردية لكلّ من الأب والأُم والابن في الموقف الحاسم في يوم الحساب أمام الله ليتحمّل كلّ واحد مسؤولية عمله، ومن خير أو شر، من دون أن يتمكّن الآخر من القيام بإنقاذه من مصيره المظلم أو من التأثير على مصيره المشرق، فمن آيات الخطّ العام قوله تعالى: (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (النحل/ 111).

(وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) (الأنعام/ 164).

ومن آيات الخطّ الخاص في موضوع البحث قوله تعالى: (وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا) (لقمان/ 33).

إنّ نظام الأسرة يمثّل المحضن الأوّل الذي أراد الله فيه للآباء أن يعملوا على صياغة شخصيات الأبناء على الصورة التي تحقّق لهم النمو الجسدي والروحي والعملي بالمستوى الذي يحقّق رضا الله سبحانه، فلابدّ للسلوك الوالدي أن ينطلق في هذا الخطّ في عناوينه العامّة والخاصّة في طريقة تربية الأولاد والتعامل معها في عملية البناء، كما أنّه يمثل الخلية الأولى التي أراد الله للولد أن يتفاعل مع أبيه وأُمّه في مرحلة النمو لتستقيم له حياته وتتفتح من خلال ذلك شخصيته، ويعيش في أجوائها إنسانيته، ثمّ ينطلق - بعد ذلك - في مراحله الأخرى التي تتجاوز طفولته لتلتقي بشبابه الذي يطلّ على شيخوخة أبويه ليُحسن إليهما ويرعاهما ويتشاور معهما ويتفاعل مع أفكارهما وتطلّعاتهما في عملية وعي وتأمّل وتفكير ومواكبةٍ للقضايا الكبيرة والصغيرة التي تنطلق من خلالها حياته في مدارج السمو والتطوّر، فيوازن بين إحساساته العاطفية تجاه أبويه ومسؤولياته الرسالية والحياتية تجاه ربّه ونفسه ومجتمعه ليحقّق التوازن في ذلك على هدى الآية الكريمة:

(وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (العنكبوت/ 8).

وهذا هو الخطّ المستقيم الذي يتحرّك بين الإحسان والطاعة وبين رضا الله ورضا الوالدين.►

 

المصدر: مجلة المنطلق/ العدد 71 و72 لسنة 1990م.

ارسال التعليق

Top