• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

تأثير وسائل الاتصال في الثقافة (المنهج المعياري)

د. عبدالرحمن عزي

تأثير وسائل الاتصال في الثقافة (المنهج المعياري)

إنّ دراسة التأثير لا يتم في منظورنا من دون مرجعية تربط محتويات هذه الوسائل بالقيم. إنّ التأثير يكون إيجابياً إذا كانت المحتويات وثيقة الصلة بالقيم، وكلّما كانت الوثائق أشد كان التأثير إيجابياً. وبالمقابل، يكون التأثير سلبياً إذا كانت المحتويات لا تتقيد بأي قيمة أو تتناقض مع القيمة، وكلّما كان الابتعاد عن القيمة أكبر كان التأثير السلبي أكثر.

1- التأثيرات الإيجابية

أ- تعزيز القيم

 يرتبط التعزيز بتثبيت مواقف الفرد السابقة وإعطائها ألفة إضافية. ولعب تعبير «التعزيز» دوراً أساسياً في فهم تأثيرات وسائل الاتصال في المجتمع. وقد عالج (لازرسفيلد) هذا الموضوع في دراساته الميدانية وأشار في مقولته المعروفة إلى أنّ وسائل الاتصال لا تغير آراء الناس ومواقفهم بقدر ما تعمل على تدعيم هذه الأخيرة. ويرتبط هذا الطرح بافتراض أنّ العامل الاجتماعي (العلاقات الاجتماعية) أساس تكوين الآراء والمواقف، وأنّ الإعلام يبني على ذلك ويعزز ما أنتجته العلاقات الاجتماعية. وفي منظورنا، فإنّ التعزيز يكون مشروطاً بتوافق العاملين الاجتماعي والإعلامي داعماً للاجتماعي. أمّا إذا كان الإعلامي غير متكامل مع الاجتماعي، فإنّ التأثير قد يكون عكسياً، أي يظل الجمهور متمسكاً بما تفرزه العلاقات الاجتماعية ويزيل الصدقية في تعامله مع وسائل الاتصال.

ب- التنشئة الاجتماعية

 يقصد بالتنشئة الاجتماعية (Socialization) الصيرورة التي يتم من خلالها اكتساب قيم المجتمع وثقافته. وتعتبر وسائل الاتصال مؤسّسات اجتماعية تقدّم أحزمة ثقافية محلية أو وافدة، فهي الناقل أو المحول الذي يساهم في «جتمعة»الفرد وإحداث الألفة مع المحيط. ويعتبر علماء الاجتماع أنّ وسائل الاتصال هي أدوات التنشئة الاجتماعية. إنّ كلّ نوع من محتويات وسائل الاتصال يحدث تنشئة معينة، فالأخبار تساهم في التنشئة السياسية، والبرامج التعليمية تساهم في التنشئة التربيوية، والبرامج الدينية تساهم في التنشئة الدينية، وهكذا.

 ج- تحقيق الانسجام وتعزيز الترابط الاجتماعي

 تحدث وسائل الاتصال الإحساس بالانتماء إلى المجتمع الذي تربطه صفات مشتركة كالقيم والثقافة واللغة والتاريخ والتجربة والحيز الجغرافي. ويزداد هذا الدور في المجتمعات المتعدّدة الأجناس واللغات والمعتقدات، فيكون دور وسائل الاتصال لَمّ الشمل. إنّ وسائل الاتصال قد تعزّز العلاقات الاجتماعية، فأفراد الجمهور لا يكتفون عادة بما يقرأونه أو يسمعونه أو يشاهدونه في وسائل الاتصال، بل يتحدّثون عن تجاربهم الإعلامية مع ذويهم وأقرانهم. وبيّنت نظرية التدفق الإعلامي على مرحلتين أنّ تدفق الرسائل الإعلامية ليس مباشراً ويمرّ عبر قادة الرأي وشبكة من العلاقات الاجتماعية قبل أن تنتقل الرسالة إلى بقية أفراد الجمهور. ويعني ذلك أنّ تأثير وسائل الاتصال محدود ويتوقف على درجة التأويل والتعديل الذي تمارسه الفئات الوسيطة التي تشكّل مستوى آخر بين الرسالة الإعلامية والجمهور. إنّ وسائل الاتصال تدعم الحراك الاجتماعي وتعزّزه. فقد أظهرت دراسة عن «استخدامات سكّان مدينة الرياض للاتصال الهاتفي» أنّ العامل الاجتماعي احتل المرتبة الرابعة من بقية دواعي استخدام الهاتف في الجمهور المذكور. وتمثّل ذلك في «تهنئة الأُخرى بالمناسبات والأعياد، والسلام على الأهل، ودعوة الأُخرى للزيارة، أو التأكد من وجودهم في منازلهم قبل الذهاب لزيارتهم». وأضافت الدراسة أنّ هذا الاستخدام لم يحل محل التواصل الاجتماعي المباشر وإنّما عزّزه أكثر فأكثر.

د- توسيع دائرة الاستفادة من الثقافة

 ساهمت وسائل الاتصال في نشر المعرفة والثقافة في أوساط واسعة من المجتمع. فقد لعبت الصحافة المكتوبة العربية دوراً رائداً في نشر الأدب والمعرفة بعامّة. ويبرز هذا الدور المعرفي أيضاً في وسيلتي الإذاعة والتلفزيون، إذ لا تتأثر هذه الأخيرة بعائق أُمية المتلقي. وفي تاريخ الصحافة العربية، فقد لعبت هذه الأخيرة دوراً في نشر الوعي الوطني الذي أدّى إلى الاستقلال. إنّ هذه الوسائل أوجدت نوعاً من الثقافة أو اللغة المشتركة التي تتوجه إلى القاسم المشترك بين أفراد الجمهور. إضافة إلى ذلك، فإنّ الثقافة المعاشة في الواقع تتّسع عندما تنتقل إلى وسائل الاتصال، فعدد قراء رواية ما قد يكون محدوداً، ولكنّ دائرة الاستفادة من الرواية تتّسع إذا تحولت إلى فيلم.

هـ- الوعي بالعلم الخارجي أو توسيع المحيط

 ارتبطت وسائل الاتصال في نشأتها بالحاجة إلى معرفة الأحداث في  المحيط القريب أو البعيد. وساهمت هذه الوسائل في تحقيق الرباط بين أفراد المجتمع داخلياً وإحداث الاهتمام بالأحداث خارجياً. وأصبح الجمهور في مختلف الثقافات وبفضل وسائل الاتصال يهتم بما يجري من أحداث في الخارج. وقد بيّنت نظرية المحيط الضيق أنّ وسائل الاتصال تعمل على توسيع المحيط الاجتماعي في المجتمعات المتميزة بقلة التفاعل الاجتماعي والنزعة الفردية. فوسائل الاتصال تعرض هذا البعد الاجتماعي الغائب في الواقع.

و- النظر إلى الذات والمجتمع من زاوية خارجية

توفر وسائل الاتصال تجربة إضافية قد لا تتوفر محلياً كأن ينتقل الفرد من ثقافة إلى أُخرى بمجرد تغيير القناة (التلفزيونية مثلاً)، وذلك ما يجعل الفرد ينظر إلى ذاته ومحيطه من بُعد أو أبعاد تجتث الفرد من عالمه المحدود، وتجعله يفلت جزئياً من تلك المسلَّمات التي تمثّل جلّ ما يعرفه ويدركه عن ذاته ومجتمعه. وبتعبير آخر، فإنّ وسائل الاتصال تنقل الفرد من المطلق إلى النسبي. وتكمن أهمّية النظرة إلى الذات والمجتمع خارجياً في أنّ الفرد يستطيع الاطّلاع على وجهات النظر المتعدّدة ويدرك ما يتميز به من خصوصيات، ويميل إلى تقبّل الآخرين على ما هم عليه من تمايز، فالفرد يعرف بوعي ذاته ومجتمعه مَن الآخر أو الآخرون.

ز- معايشة عوالم متعدّدة تحمل الإنسان عبر الزمان والمكان

 تقدم وسائل الاتصال إمكانية تجربة عوالم قد لا تكون حاضرة في واقع الفرد المتعامل مع الوسيلة الإعلامية. فوسائل الاتصال تنقل الفرد إلى عدة عوامل رمزية وخيالية تجعل هذا الأخير يبتعد ولو إلى حين عن هموم الواقع ويجد التعويض في هذه المنظومة الرمزية الخيالية. وقد بيّنت الدراسات الأولى عن «سر» ارتباط الأفراد بوسائل الاتصال أنّ هذه الأخيرة توفر ملجأ لمن ضاق به الواقع. وبمعنى آخر، فإنّ الفرد «يهرب» من الواقع فيجد ضالته في وسائل الاتصال التي احتضنته لحظة الحاجة إلى عالم آخر يوفر له بعض الاستراحة إلى أجل ما.

ح- الإشباع .. التحويل والترفيه

 أظهرت نظرية الإشباع والاستخدامات أن ما يجعل الجمهور شديد الارتباط بالوسيلة الإعلامية يتمثّل بعملية الإشباع التي توفرها وسائل الاتصال. وبيّنت الدراسات الأولى في هذا المجال أنّ انقطاع قرّاء الصحيفة عن صحيفتهم ولو لفترة وجيزة يُحدث إضراباً في توازن الفرد وسلوكه اليومي، إضافة إلى الإحساس بالعُزلة أو الغُربة عمّا يجري حوله من أحداث. وما يغيب عن الفرد في غياب الوسيلة هو القدر على مراقبة المحيط، فالفرد الذي يتحرّك من دون المعلومة (والمعرفة) التي تأتي بها الوسيلة باستمرار أشبه بتائه لا يملك خريطة المدينة. ولذلك، فإنّ العلاقة بين الفرد والوسيلة الإعلامية مسألة إلزامية في المجتمع المعاصر. وتشمل الاحتياجات التي تقدمها وسائل الاتصال:

* الاحتياجات المعرفية، أي الحاجة إلى الخبر والمعرفة بشكل عام. إنّ الخبر أهم سلعة «حيّة» تنفرد في تقديمها وسائل الاتصال، وذلك سرارتباط الفرد والجمهور بهذه الوسائل.

* الاحتياجات العاطفية، أي الحاجة إلى المشاعر كالإحساس بالأخوة والمحبّة والفرح والسعادة... إلخ. ويظهر ذلك جلياً في المسلسلات والأفلام وغير ذلك.

* الاحتياجات الاجتماعية.

* احتياجات تحقيق الذات والاحتياجات الترفيهية. وقد أظهرت دراسة عن «شبكة الإنترنت وجمهورها في مدينة الرياض» أنّ الإشباع الذي تحقّقه الشبكة لدى الجمهور المستخدم مسألة معرفية، ثمّ عاطفية فاجتماعية فترفيهية فتجارية.

ط- نقد الذات وتغييرها

 تساهم محتويات وسائل الاتصال في إحداث الوعي بالذات وعلاقتها مع الآخرين، فالتجارب الرمزية التي تعرضها الوسائل قد تجعل الفرد يعدل من آرائه ومواقفه وسلوكياته وفق ما يراه ذا قيمة من ظواهر أو أحداث أو قضايا ما كان بإمكانه الاحتكاك بها خارج وسائل الاتصال. وتتضمن هذه العودة إلى الذات مرّة أُخرى وتقييمها بنظرة أُخرى.

ي- الإعلام والتفسير والتحليل (الوظائف)

 أسهمت النظرية الوظيفية كثيراً في فهم طبيعة وسائل الاتصال وأدوارها في المجتمع. واهتمت هذه النظرية بما تقدّمه وسائل الاتصال من وظائف بدل التركيز على التاريخ أو الملكية... إلخ. وترى النظرية أنّ أساس وجود أي مؤسسة هو وظائفها الحاضرة، وعادة ما تضمحل المؤسسة بزوال وظائفها في المجتمع. فوظائف وسائل الاتصال تتضمّن الإعلام أو الإخبار إضافة إلى الترفيه والبيع، وتتعدّد هذه الوظائف بدءاً بمهمة تنوير الرأي العام  إلى المساهمة في النشاط الاقتصادي إلى التأثير في صنّاع القرار في المجتمع.

2- التأثيرات السلبية

في المنظور المعياري نفسه، تتمثّل الجوانب السلبية في وسائل الاتصال في تلك التي تبتعد عن القيمة، ويشمل ذلك ما يلي:

أ- تحييد القيم

يقصد بتحييد القيم إبعادها كعوامل مؤثرة، ويتمثّل ذلك في تغييب القيم في المحتويات وبخاصّة الترفيهية، إذ لا تتقيد هذه الأخيرة بنظام مع القيم، إنّما تنبني على مبدأ ما يمكن أن يسوق إلى الجمهور الواسع. وإذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ رغبات الجمهور وأذواقه عادة ما تكون نتاج ما تعرضه وسائل الاتصال، فإنّ عملية استثناء القيم في المحتويات تكون دائرية: فوسائل الاتصال تعرض ما يرغب فيه الجمهور، والجمهور يرتبط بوسائل الاتصال التي تحقّق له رغباته. وقد أدّى ذلك إلى انتشار محتويات العُنف والجنس وغيرهما في الأفلام والمسلسلات ذات الطبيعة التجارية خاصّة.

ب- جمهرة الثقافة (التبسيط والتشويه)

 يقصد بالجمهرة في هذا السياق محاولة كسب الجمهور الواسع على حساب النوعية، فالثقافة ارتقاء، أمّا ما بثّته وسائل الاتصال على وجه الخصوص المسموعة والمرئية فإنّه ثقافة سُمّيت بالجماهيرية. وتعني الثقافة الجماهيرية تلك الثقافة التي تنتجها وسائل الاتصال كـ(المسلسلات، والأفلام، والإعلان... إلخ) الساعية إلى التأثير الدعائي وإحداث احتياجات وهمية أو حقيقية لدى الجمهور الواسع. وتتأثر هذه الثقافة في دلالتها كما كان الهدف الوصول إلى الجماهير الواسعة. وقد اعتبر منظرو الثقافة الجماهيرية أنّ هذه الأخيرة متأثرة بالعامل التجاري الهادف إلى استمالة الجمهور وإرضائه بغض النظر عن طبيعة المحتوى الذي عادة ما يتوجه إلى الرغبات الآنية والغرائز، فيكون الجمهور وسعته أساس نجاح البرامج لا المحتوى في حدِّ ذاته.

ج- تضييق المحيط

أظهرت نظرية المحيط الواسع والمحيط الضيِّق أنّ وسائل الاتصال تلعب دوراً سالباً بطريقة غير مقصودة في المجتمع الغنيّ بالعادات والتقاليد والتفاعل الاجتماعي، ذلك أنّ وسائل الاتصال تبعد أفراد المجتمع بعضهم عن بعض. ويترتّب عن ذلك أن تدفع وسائل الاتصال المجتمع الغنيّ بالثقافة المعاشة والعلاقات الاجتماعية إلى الفقر في المجالات المذكورة، ومن ثمّ التشابه مع المجتمعات التي تتصف بالانعزال الاجتماعي وقلة الروابط الثقافية.

د- تقليص المحلي وتوسيع العالمي

 تتّجه وسائل الاتصال عامّة نحو ما يرتبط بالعولمة أو القرية العالمية. يعني ذلك أنّ الاهتمام بالأحداث الخارجية في الثقافة الوافدة قد يكون على حساب الواقع المحلي. فقد أوجد التلفزيون ما سماه (ماكلوهان) القرية العالمية إذ يمكن للمُشاهد أن يتابع الأحداث مباشرة دون قيد الزمان والمكان. وأدّى الحساب والشبكات المعلوماتية إلى إيجاد ما يسمى بالمجتمع الخائلي (Virtual society)  الذي يتشكّل من الأفراد الذين يتفاعلون باستمرار من دون ارتباط هؤلاء بثقافة أو مجتمع أو مكان محدد. وكادت «تكنولوجيا الواقع الخائلي أن تسقط الحاجز بين الواقعي والوهمي، وبين الحاضر والغائب، وبين الاتصال مع كائنات الواقع الفعلي والكائنات الرمزية التي تقطن فضاء المعلومات». ويرى  بعض المنظّرين المستقبليين أنّ ذلك قد ينتج أفراداً يملكون وعياً عالمياً على حساب الخصوصيات المحلية. إنّ هناك العديد من السلبيات التي أفرزتها هذه الشبكات، ومنها تقلص الزمن الاجتماعي المخصص للعلاقات الاجتماعية وبروز بعض السلوكيات «المنحرفة» كانتحال الشخصية وسرقة البطاقات الائتمانية والتجارة بالأشخاص... إلخ. وبعامّة، فإنّ شدّة استخدام هذه الوسائل قد يبعد الفرد عن قضاياه المحلية المرتبطة بواقعه المعاش.

هـ- إضعاف نسيج الاتصال الاجتماعي

 تعمل وسائل الاتصال بطريقة غير مقصودة على تقليص الزمن الاجتماعي. ويرى بعض الباحثين أنّ وسائل الاتصال تمارس التفكيك الاجتماعي على اعتبار أنّ الزمن الذي يقضيه الفرد مع هذه الوسائل يكون بالنتيجة على حساب التفاعل الاجتماعي المباشر. ويحدث مع الزمن أنّ يألف الفرد هذا النمط من الاتصال، فيصبح انعزالياً ويعفي نفسه من المسؤولية الاجتماعية تجاه الآخرين. فقد أوجدت الصُّحف زمن القراءة، ثمّ أتت الإذاعة فأضافت زمن الاستماع فقللت بعض الشيء من زمن القراءة. ثمّ أتى التلفزيون فأضاف زمن المشاهدة فقلل بعض الشيء من الزمنين السابقين. ثمّ أتى الحاسوب والشبكات المعلوماتية فأضافت زمن التصفح. ونكون هكذا قد اقتربنا ممّا سمّاه (فيراروتي) بـ«نهاية المحادثة» والاتصال الشخصي المباشر.

و- إضعاف دور قادة الرأي والفكر

 ارتبطت الصحافة المكتوبة عامّة، والعربية خاصّة، تاريخياً بقادة الرأي ورجال الأدب والثقافة والإصلاح، فقد ارتبطت الصُّحف في بداية نشأتها بالشخصيات الثقافية التي أسّستها. وحديثاً، تقلّص دور هؤلاء وأصبح الناشر مؤسّسات إعلامية كبرى، وساهم في ذلك ارتباط المهنة الصحفية المعاصرة بالتخصص إلى جانب ظهور أنواع أُخرى من قادة الرأي في مجالات خارجة عن الرأي والفكر. وعامّة، فإنّ وسائل الاتصال تتحرّك كمؤسّسات ويكون دور المُرسل فيها عاملاً مكملاً، وأصبحت وسائل الاتصال مؤسّسات تضم أعداداً من المحررين والمخرجين والفنّيين الذين يشاركون كمجموعة في إنتاج المادّة الإعلامية وتسويقها.

ز- تقمص أدوار النجوم السينمائية وغيرها

يبرز تقمص الأدوار في تقليد الممثلين و«الشخصيات» التي يصنعها الإعلام عامّة. وقد أورد الباحث (باندورا) صاحب نظرية «التعلّم الاجتماعي» أنّ تأثير وسائل الاتصال يكمن في التقمص  (Modeling). ويعني ذلك أنّ الجمهور يلاحظ ويشارك تجربة الآخر، ثمّ يتخذ ذلك نموذجاً. أمّا التأثير السلبي فيكمن في طبيعة صاحب القدوة في ما إذا كانت صفاته قيمية أو غير ذلك.

ح- المعيارية والاستهلاكية

 أوردت النظرية النقدية أنّ وسائل الاتصال تحدث تأثيرات المعيارية والاستهلاكية في المجتمع المعاصر. تعني المعيارية (Standardization) قولبة الثقافة في شكل بضائع متجانسة قابلة للاستهلاك العام، فالعناصر الثقافية التي لا تتوافق مع ما هو معياري تستثنى ولا تسوق بناء على ذلك، الشيء الذي يضعف التنوّع الثقافي عامّة. وتظهر الاستهلاكية في الدور الذي تمارسه وسائل الاتصال في إحداث أو تعزيز النزعة المادّية بترويج عملية بيع السلع والخدمات بصفة مباشرة عبر الإعلان، أو بصفة غير مباشرة عبر أنماط الحياة التي توردها الأفلام والمسلسلات.

ط- المزج بين الرمزي والحقيقي

 إنّ محتويات وسائل الاتصال ليست الواقع في حدِّ ذاته، بل تشكّل تعبيراً عن الواقع، ويحدث التأثير السلبي عندما يتم المزج بين العاملين فيصبح الرمزي هو الواقع عند المُتلقي. وقد أظهرت نظرية التثقيف أنّ العالم الرمزي الذي تعرضه وسائل الاتصال يؤثّر في تصوّر الجمهور للحقيقة. وأظهرت الدراسات أنّ الأطفال في المراحل المبكرة من العمر يصدّقون ما يشاهدونه في الأفلام والرسوم المتحركة على أنّه حقيقة ويتأثرون به في سلوكياتهم. ودلّت الدراسات أنّ الكبار الذين يتابعون الأخبار بكثرة يشعرون أنّ العالم أقل أمناً ممّا هو عليه في الحقيقة. وقد عبّر (غربنر) عن ذلك بقوله أنّ بعض هذه المحتويات تحدث «محيطاً خاطئاً من الخوف»، أي أنّ هذه الوسائل تنشىء بفعل هذه المحتويات «حقيقة عنيفة».

ي- إضعاف الحساسية تجاه الممنوعات الثقافية

 إنّ بعض محتويات وسائل الاتصال كأفلام العنف والجنس واللغة التي تخل بالقيم تعمل مع الزمن على إضعاف درجة الانفعال أو المقاومة التي تصاحب هذه المحتويات في بداية أمرها. ويرى الباحثون في المجال أنّ التلفظ بالعنف يعدّ إلى حدٍّ ما مشاركة فيه، فذلك يعدّ مقدّمة لما قد ينتج من ذلك من سلوكيات. وعلى هذا الأساس، عمد العديد من الثقافات إلى وضع حدود لما لا يمكن التلفظ به خشية تحوّل ذلك إلى الفعل. وبيّن هؤلاء الباحثون أنّ تكرار الرسالة التي تخرج عن سياق الثقافة قد يؤدّي إلى إضعاف الحساسية (Desensibilization)، ومن ثمّ لا يقدر المُتلقي على نقد الرسالة أو الشكّ فيها. ويدخل في التأثيرات أفلام العنف والجنس، إذ أظهرت الدراسات هذه التأثيرات السلبية العديدة التي تبرز في أشكال التقمص (تقليد الصفات السلبية)، والتعلّم (مثل تعلّم مهارات السرقة مثلاً) والتحفيز والتعزيز (بإثارة النزعات العدوانية التي قد تكمن في الفرد).

ك- الفجوة الإعلامية

 أظهرت نظرية الفروق المعرفية أنّ مستويات الاستفادة الإعلامية (المعرفية والمعلوماتية) تختلف من شريحة اجتماعية إلى أُخرى. فالأكثر «معرفة» أكثر استفادة إعلامياً من الأقل معرفة. ويتبيّن أنّ وسائل الاتصال قد تفيد الجميع على السواء في المدى القصير، لكنّها تفيد الأكثر معرفة أكثر من غيرهم على المدى المتوسط والبعيد. ويعني ذلك أنّ وسائل الاتصال تزيد في تعميق الهوة بين الأكثر معرفة والأقل معرفة.

ل- الإدمان على الوسيلة

 يتضح أنّ شدّة الارتباط بالوسيلة الإعلامية يكون على حساب المسؤوليات الاجتماعية الأُخرى. وقد برز هذا الانشغال مع التلفزيون والفيديو، ثمّ ازداد مع الحاسوب. وتقدّر الدراسات الغربية أنّ الفرد يشاهد التلفزيون ما معدله ست ساعات يومياً. وحديثاً، تشير الدراسات إلى أنّ الحاسوب قد يتجاوز التلفزيون في عدد الساعات المخصصة مع هذه الوسيلة. ويترتّب عن هذا الإدمان قلة التفاعل الاجتماعي المباشر وما ذلك من أثر في إضعاف الروابط. إلى جانب ذلك، لقد بيّنت الدراسات التربوية أنّ هناك علاقة ارتباطية بين كثرة مشاهدة التلفزيون وضعف الأداء المدرسي عند الأطفال.

م- منع الفرد من نقد ذاته أو تغييرها

 إنّ شدّة تعلّق الفرد بوسائل الاتصال قد يدفعه إلى التفريط في معالجة واقعه. فوسائل الاتصال تشغله عن الاهتمام بعالمه الذاتي وإصلاحه أو تغييره. ويكون هذا التأثير سلبياً على اعتبار أنّ هذه الوسائل تلهيه أو تحوّل انتباهه إلى قضايا قد تكون ثانوية على حساب ما يجري في محيطه المباشر.

ن- التركيز على حاسة البصر على حساب الحواس الأُخرى في الوسائل المسموعة المرئية

 أوجدت الوسائل المسموعة المرئية وبالأخص السينما والتلفزيون والفيديو ثقافة أساساً على الصورة. وتلعب حاسة العين دوراً أساسياً في استقبال محتويات هذه الوسائل. إنّ طبيعة الاستقبال وحجمه ووتيرته تفرضها الوسيلة الإعلامية لا العين، وذلك عكس القراءة، إذ تتحكم العين في عميلية القراءة وزمنها. يترتّب عن سطو الوسيلة أن تستسلم العين وتبقى سجينة مقتضيات هذه الوسيلة. ويتبيّن أنّ شدّة سكون العين وارتباطها بالصورة التلفزيونية يضعف عملية التفكير ويصبح المُشاهد كائناً ساكناً في أدنى مستويات نشاطه الذهني. وقد بيّنت الدراسات النفسية والتربوية أنّ هناك علاقة بين كثرة مشاهدة الأطفال للتلفاز والكسل الذهني وضعف الأداء المدرسي. وفي منظورنا، فإنّ القيمة ارتبطت بالكلمة المسموعة التي تتضمن الجهد قصد الارتقاء إلى أسمى المعاني الممكنة، أمّا التصوير، ففيه تجسيد وتقليص للمعنى. وقد أشار (ماكلوهان) في سياق مشابه إلى أنّ التلفزيون وسيلة باردة، فلا تتضمن التفاعل الجدي ولا يبذل المُتلقي جهداً يذكر في تلقي الرسالة، فالعين تبقى مشدودة نحو الصورة وينزعج الفرد لو أتينا بينه وبين الصورة، بينما تكون القراءة اتصالاًساخناً، إذ يكون النشاط الذهني واسعاً في فك مضمون الرسالة.

 

المصدر: كتاب دراسات في نظرية الاتصال نحو فكر إعلامي متميز

تعليقات

  • سارة محمود محمّد عبداللطيف

    المقال مهم حقيقة، ولقد استفدت منه كثيراً، كان لدي استفسار.. هل يوجد مقالات أخرى حول الإعلام الجديد أو الإعلام الاجتماعي؟ وشكراً.

ارسال التعليق

Top