• ٢٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٢٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

حوار لمعرفة الأفضل من الأعمال

أ. د. أسعد السحمراني

حوار لمعرفة الأفضل من الأعمال

◄الإنسان مفطور على السعي إلى الأفضل من كلِّ شيء يخصُّه، وما دام الأمر يتعلّق بالإسلام، فإنّ المسلم الحقَّ يحاول تبيُّن السبيل المثل لأداء فرائضه وواجباته، من هذا القبيل كانت حوارات عديدة، منها الحوار الآتي:

(أخبرنا عبدالوهاب بن عبدالحكم عن حجّاج قال ابن جريج: أخبرني عثمان بن أبي سليمان عن علي الأزدي عن عبيد بن عمير عن عبدالله بن حُبْشي أنّ النبي (ص) سُئِل:

أيُّ الأعمال أفضل؟

قال: "إيمان لا شكّ فيه، وجهاد لا غلول فيه، وحجّة مبرورة.

قيل: فأيُّ الصلاة أفضل؟

قال: طول القنوت.

قيل: فأيُّ الصدقة أفضل؟

قال: جهد المقلِّ.

قيل: فأيُّ الهجرة أفضل؟

قال: من هجر ما حرَّم الله عزّ وجلّ.

قيل: فأيُّ الجهاد أفضل؟

قال: من جاهد المشركين بماله ونفسه.

قيل: فأيُّ القتل أشرف؟

قال: من أُهريق دمه، وعُقِر جواده").

السؤال الأوّل: أي الأعمال أفضل؟ والجواب إجمال يتضمن ثلاث ثوابت: أوّلها الإيمان الذي يرتقي إلى مستوى اليقين، وهو الإيمان الراسخ المقترن بالإخلاص والعزم وتعلُّق القلب بالله تعالى، ومثل هذا الإيمان يولِّد خشوعاً في القلب، وخشوع القلب يتبعه خضوع لله تعالى، وتسليم من العبد.

والإيمان الراسخ يوجد حالة تديُّن عند المسلمين، والتديُّن يحتاج للقوة التي تحمي وتصون، ونشر الدعوة محتاج لقوة تزيح العوائق من الظالمين وأعداء الحقِّ، وذلك لا يحققه إلا جهاد هو عماد الأُمّة، لكن هذا الجهاد يجب أن يكون مع قِيَم حدَّدها الإسلام للحرب، إذ للجهاد أهداف ومقاصد سامية، وليس من باب الانتقام أو التشفّي، أو الهوى الشخصي. وبالمقابل يبيّن هذا الحديث بأنّ الجهاد من الأعمال الأفضل التي تحتاجها الأُمّة، ولا يصح من أحد أن يعطِّله، أو أن يلتفت عليه من خلال تفسيرات موهومة يصوغها بعضهم إرضاء لبعض الجهات.

أما الحج المبرور فقد جاء في إجمال القول عن أفضل الأعمال، لأنّ الحاجَّ إذا أدّى الفريضة وفق الأصول يخرج من حجِّه كما ولدته أمُّه مبرأً من الذنوب والآثام، وبذلك يكون قد ظفر بفرصة كبرى عليه أن يحفظ نفسه بعدها من مزالق شطوط المفاسد، وأن يلوذ بحمى الفضائل ومحاسن الخلق والسلوك. والوجه الآخر هو أنّ الحج يربط المسلم مع الأصل المكاني من خلال أركانه في مكة المكرمة، إضافة إلى الارتباط العبادي بالأصل المتقرب به إلى الله تعالى من خلال الارتباط مع إبراهيم وإسماعيل (ع) ثمّ الاقتداء بمحمّد (ص) القائل: "صلُّوا كما رأيتموني أصلِّي".

ثمّ كان السؤال الثاني عن الصلاة الأفضل، لأنّ الصلاة ركن، وهي عمود الإسلام، وتحقق الصلة مع الله تعالى، والصلاة دعاء، وهنا يأتي الجواب من رسول الله: إنّ الصلاة الأفضل؛ أي: الدعاء الأفضل: طول القنوت. والقنوت دعاء فيه تقرُّب ورجاء وطلب وذكر، وفيه دعاء على الأعداء، وطلب للنصر عليهم بتأييد إلهي.

بعدها جاء السؤال عن الصدقة، والصدقة إنفاق في سبيل الله تعالى، ومن خلاله يتحقق التضامن الاجتماعي والتكافل، حيث يقدم المقتدر العون لصاحب الحاجة، وهذه الصدقة تكون الأفضل حين يقدِّمها مَن كان من قليلي الثروة والملكية، والذي تطيب نفسه بالإنفاق رغم ذلك.

أما الهجرة الأفضل فهي أن يغادر العبد كلّ ما نهى الله تعالى عنه من وجوه الحرام، وأن يمارس ذلك خوفاً من الله تعالى وطاعة له سبحانه، وهذا لا ينتقص من قدر الهجرة في سبيل الله من المكان عند الضرورة، أو يهاجر الإنسان بمشاعره وأفكاره متسامياً فوق المحيط الذي يكون فيه باتجاه علوي، أو عندما يجد صخباً وتشويشاً في مكان ما فيغادره كي لا يشترك مع الخائضين، ومن الهجرة ما كانت لكلِّ أنواع المفاسد التزاماً بالآية الكريمة: (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) (المدّثر/ 5).

ويعود السؤال مجدداً إلى الجهاد لمكانته في سيرورة الدعوة، ومقاومة الظلم والباطل، ولأنّ المسيرة لا تستقيم بدونه. إنّ مجاهدة الأعداء، أعداء الدين والأُمّة، وكلّ غاصب محتل واجب ماضٍ في الأُمّة، ويكون الجهاد بكلِّ وسيلة، ومن ذلك الجهاد بالكلمة والقلم والمال والنفس والفن والأدب والإعلام والاقتصاد، وكلّ موهبة يمتلكها الإنسان، والحديث النبوي جاء في هذا الحوار مؤكداً على الأمر الوارد في قوله تعالى: (انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) (التوبة/ 41).

وجاء السؤال الأخير في هذا الحوار مجدداً حول الجهاد والاستشهاد فكان: "أيُّ القتل أشرف"؛ ما دام الإنسان سيقدم نفسه في سبيل الله تعالى، فإنّ المجاهد يريد أن يكسب المزيد من الأجر، ولذلك يجب أن يعرف أي القتل أشرف؟ ويأتي الجواب: إنّ القتل الأشرف هو إقدام شخص وشجاعته مع التضحية بنفسه وإهراق دمه ومعه آلة الحرب، ونموذجها جواده، وقد أرشدت إلى ذلك الآية الكريمة: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة/ 111).

إنّ هذا الحوار لمعرفة الأفضل من الأعمال ورد فيه الجهاد والفداء في ثلاثة مواقع من السؤال والجواب، وهو كافٍ لإعطاء الدرس لكلِّ من يعمل لمرضاة الله تعالى كي يعرف موقع الجهاد في الإسلام.

وإذا كانت مواقع من البلاد محتلة مغتصبة هذه الأيام، وأوّلها وأولاها بالعناية فلسطين والقدس والمقدسات، وتليها المواطن والمواقع كافة لمنع كلّ هيمنة من الأعداء على حقٍّ من حقوق الأُمّة، فإنّ الجهاد يكون أفضل الأعمال وليس بين الأفضل منها.

لقد وردت حوارات عديدة في السياق نفسه فيها ما كان يضيف عملاً آخر بين الأفضل، ومنها ما كان يؤكد، وفيها جميعاً تتكرر الصلاة، ويتكرر الجهاد.

من هذه الأحاديث: (عن أبي عبدالرحمن عبدالله بن مسعود (رض) قال: سألت النبي (ص): أي الأعمال أحبُّ إلى الله تعالى؟

قال: "الصلاة على وقتها".

قلت: ثمَّ أيُّ؟

قال: "برُّ الوالدين".

قلت: ثمّ أيُّ؟

قال: "الجهاد في سبيل الله").

 

المصدر: كتاب الحوار في الإسلام (آدابه وقواعده)

ارسال التعليق

Top