• ١٠ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢ ذو القعدة ١٤٤٥ هـ
البلاغ

قيم التسامح

نبيل نعمة الجابري

قيم التسامح

التسامح والحوار:
إنّ الحوار في معناه الصحيح لا يقوم ولا يؤدي إلى الهدف المنشود إلا إذا كان هناك احترام متبادل بين أطراف الحوار، واحترام كلِ جانب لوجهة نظر الجانب الآخر وبهذا المعنى فإنّ الحوار يعني التسامح واحترام حرية الآخرين، واحترامُ الرأي الآخر لا يعني بالضرورة القبول به.
وليس الهدف من الحوار مجرد فكّ الاشتباك بين الآراء المختلفة أو تحييد كل طرف إزاء الطرف الآخر، وإنما هدفُه الأكبر هو إثراء الفكر وترسيخ قيمة التسامح بين الناس، وتمهيد الطريق للتعاون المثمر فيما يعود على جميع الأطراف بالخير، وذلك بالبحث عن القواسم المشتركة التي تشكل الأساس المتين للتعاون البنّاء بين الأمم والشعوب. والحوار بهذا المعنى يُعد قيمة حضارية ينبغي الحرص عليها والتمسك بها وإشاعتها على جميع المستويات.
والوعي بذلك كله أمر ضروري يجب أن نعلمه للأجيال الجديدة، وبصفة خاصة عن طريق القدوة وليس عن طريق التلقين ولا جدال في أنّ الحوار قد أصبح في عصرنا الحاضر أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى، بل أصبح ضرورة من ضرورات العصر، ليس فقط على مستوى الأفراد والجماعات، وإنما على مستوى العلاقات بين الأمم والشعوب المختلفة.
وإذا كانت بعض الدول في القرن الجديد لا تزال تفضل شريعة الغاب بدلاً من اللجوء إلى الحوار، فإنّ على المجتمع الدولي أن يصحّح الأوضاع، ويعيد مثل هذه الدول الخارجة على القيم الإنسانية والحضارية إلى صوابها حتى تنصاع إلى الأسلوب الحضاري في التعامل وهو الحوار، فليس هناك من سبيل إلى حل المشكلات وتجنب النـزاعات إلا من خلال الحوار.
ومن منطلق الأهمية البالغة للتعارف بين الأمم والشعوب والحضارات والأديان -برغم الإختلافات فيما بينها-كانت دعوة الإسلام إلى الحوار بين الأديان. (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) (الحجرات/13)
وذلك لما للأديان من تأثير عميق في النفوس ويعد الإسلام أول دين يوجه هذه الدعوة واضحة صريحة في قوله تعالى:(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ).( سورة آل عمران/ 64)
يتضح مما سبق إنّ التسامح الديني أو التسامح الشامل له قيم على أساسها يبنى وفي خضمها يحقق غايته وهذه القيم هي:
1- قيمة التسامح في كونه ضرورة وجودية:
إنّ ما يجب تسليط الضوء عليه أنّ أهمية التسامح الديني تتمثّل في كونه ذا بُعد وُجودي، أي أنه ضروري ضرورة الوجود نفسه.
ولتوضيح ذلك يمكن الإلماع إلى أنّ سُنّة الوجود قد اقتضت أن يكون وجود الناس على الأرض في شكل تجمّعات بشرية، وهي وإن اتّفقت في ما يجمع بينها من وحدة الأصل والحاجة إلى التجمّع والحرص على البقاء والرغبة في التّمكّن من مقوّمات الحياة والسّعي في إقامة التمدّن والعمران والتَّوق إلى الارتقاء والتقدّم فإنها قد تباينت في ما تتفرّد به كل مجموعة من خصوصية عرقية ودينية وبيئية وثقافية.
وقد صرّح القرآن بهذه الحقيقة الوجودية فقال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا)(الحجرات/13).
وقد ألمع القرآن إلى ضرورة هذا الاختلاف النمطي، وإلى حتمية وجوده حتى يتمكّن كل فرد وكل مجتمع من العيش حسب ما لديه من إرادة وحرية واختيار وبالطريقة التي يهواها ويرتضيها.
وهكذا نلحَظ، أنّ الغاية من اختلاف الناس إلى شعوب وقبائل وتنوعهم إلى ثقافات ومَدَنيات إنما هو التعارف لا التَّناكر، والتعايش لا الإقتِتَال، والتعاون لا التَّطاحن، والتكامل لا التعارض، وبات واضحاً أنّ أهمية التسامح الديني تتمثّل في كونه ضرورياً ضرورة الوجود نفسه.
2- قيمة التسامح الديني تتمثّل في كونه يقتضي الاحترام المتبادل:
أنّ قيمة التسامح الديني تتمثّل في كونه يُقرّ الاختلاف ويقبل التنوّع ويعترف بالتغاير ويحترم ما يميز الأفراد من معطيات نفسية ووجدانية وعقلية، ويقدر ما يختص به كل شعب من مكونات ثقافية امتزج فيها قديم ماضيه بجديد حاضره ورؤية مستقبله، هي سبب وجوده وسرّ بقائه وعنوان هويته ومَبعث اعتزازه.
3- قيمة التسامح الديني تتمثّل في كونه يقتضي المساواة بالحقوق:
من الواضح أنّ قيمة التسامح الديني تتمثّل في كونه يقتضي التسليم المطلق – إعتقاداً وسلوكاً وممارسة – بأنّه إذا كان لهؤلاء وجود فلأولئك وجود، وإذا كان لهؤلاء دين له حُرمته فلأولئك دين له الحُرمة نفسها، وإذا كان لهؤلاء خُصوصية ثقافية لا ترضى الانتهاك فلأولئك خُصوصية ثقافية لا تقبل الـمَسّ أبداً.
4- قيمة التسامح الديني تتمثّل في كونه داعماًً لإقامة مجتمع مَدني:
من الواضح أنّ التسامح الديني يُعدّ أرضية أساسية لبناء المجتمع المدني وإرساء قواعده، فالتعدّدية والديموقراطية وحرية المعتقد وقبول الاختلاف في الرأي والفكر وثقافة الإنسان وتقدير المواثيق الوطنية واحترام سيادة القانون، خيارات استراتيجية وقيم إنسانية ناجزة لا تقبل التراجع ولا التفريط ولا المساومة، فالتسامح عامل فاعل في بناء المجتمع المدني، ومشجّع على تفعيل قواعده.
معطيات التسامح الإجتماعي والسياسي
قبل أن نبدأ بالحديث عن الأبعاد الاجتماعية لثقافة التسامح، لا بد لنا أن نوظف عقولنا وأفكارنا وعلومنا وبقلوب صافية ونقية، لفهم المعاني الحقيقية لهذه الثقافة وما يمكن أن تحققه في مجتمعاتنا العربية من خيرٍ وحبٍ وسلامٍ ورفاهيةٍ وتقدم.
فعلى الصعيد الاجتماعي تتجلى هذه الخصيصة الحضارية في محيطنا الاجتماعي في ماذا سنجني من التسامح وماذا سيمنحنا من مكتسبات ترتقي بنا إلى مصاف التحضر؟
فالتسامح الاجتماعي يحرص إلى تعزيز الأمور التي سوف أسوقها في بحثي هذا وهي:
1- تعزيز الحرية:
إنّ التسامح يفتح آفاقاً جديدة في فهم حقوق الآخرين وواجباتهم تجاه غيرهم وعدم فرض قيود على الآخرين ما يتيح تحول الأفراد والمجموعات لمزيد من التمدن ويؤصل من قيمة الحرية.
إنّ الحد من سلطة السلطة والقوة لدى الفرد والتفكير بطريقة متعايشة ومحبة للآخرين يدعو لمزيد من تشذيب سلوكياتنا وتقنينها نحو الحقوق والواجبات التي تؤطر حياتنا.
فالسلطة المتسامحة حينما تترك للشعب أن يكون مسؤولاً لما سيختاره لنفسه، فإنها في واقع الأمر ستساهم في دفع الأفراد للحد من سلطتهم تجاه غيرهم وسنجد أنفسنا في أحضان دولة مدنية يحكمها القانون ويسودها التبادل المنفعي مما يؤدي إلى تعزيز العدالة بشكل كبير.
بل إنّ التسامح سيساهم بجدية في تكريس الأطر الديمقراطية، ذلك أنّ جزءاً كبيراً من مفهوم الديمقراطية يرتبط بالمشاعر الشخصية فاحترام الأغلبية لرأي الأقلية يتطلب روحية معنوية خاصة تتقبل احترام الأقلية وترتضي عن طيب خاطر ممارسة الأقلية حقوقها المشروعة وشعائرها.
2- تحقيق العدالة:
إنّ كل شخص لديه الحق في التسامح المساوي لحقوق الآخرين، فلا نستطيع أن نقول أنّ التسامح يقتصر على آرائنا وأعمالنا وسلوكياتنا ولا يحق لآراء وأعمال الآخرين التمتع به.
إنّ ذلك سيكرس مفهوماً تكاملياً جديداً للعدالة في المجتمع ويضيف أبعاداً أكثر أهمية من خلال المناصفة وتوزع الحقوق على الجميع بشكل عادل ومساوٍ.
3- التسامح الإجتماعي مجال خصب لصناعة الأفكار:
يقول الرسول الأكرم (ص): (الرفق رأس الحكمة).
أنّ التسامح يدعو لفهم الأفكار واستيعابها ويعمل على استحواذ انتباهنا لخلفيات كافة الأفكار المحيطة بنا وخاصة أفكار الآخرين المنافسين أو الأنداد، وإن كانت وجهة نظرنا تبدو غريبة وكريهة وغير منطقية.
ففي الوقت الذي تطالب وبإلحاح الاهتمام الجدي بما تقوله وتطرحه من أفكار ومعتقدات فأنت مطالب أيضاً بالاستماع والانتباه لما يقوله الآخرون.
وفي ذلك يقول المفكر الفرنسي(فولتير): (أنا لا أؤمن بكل ما تريد أن تقول ولكنني سأدافع حتى الموت في حقك أن تقول ما تريد).
إنّ التبادل الأخلاقي مع الآخرين وفكرهم ينطوي على صناعة وتأصيل الوعي المتزايد ويشكل خلفية ثقافية ناهضة تقبل على قراءة وتفحص ما يتبناه الآخر المختلف كما يتفحص الآخرون فكرنا، مما يثري الساحة ويحدث موجة من التلاقح الفكري والحيوي والثقافي.
والتسامح كذلك يؤسس قاعدة تغيير أفكار الآخرين على أسس عقلانية وهو بحد ذاته جهد ثقافي وفكري جبار مما يلزم إحداث تجديد فكري وثقافي في الأمة يتناسب وعقلانية قادرة على مجاراة النهوض الفكري المنتشر، خصوصاً وما يحدث اليوم على الساحة العالمية من نظرتها تجاه الإسلام هذه النظرة التي ألبسها بعض المتطرفين ليظهروا للعالم أنّ الإسلام لا يحمل مثل هذه الخصيصة الإنسانية، فعن طريق التسامح يكون العمل على صياغة آليات عمل مناسبة لصهر الجميع في بوتقة المجتمع والدولة وعدم إتاحة الفرصة لتغلغل مشاعر الفرقة والشتات والضياع.
4- نقد الذات:
يفعل التسامح فعل السحر في ممارسة النقد الذاتي، إذ أنّه يلح على رواده توجيه التفكير نحو الحقيقة والوصول إلى جوهر الفكرة وأصالتها، لا التفكير بنزعات النفس والهوى الملازم للفكرة، ولنا أن نتصور كيف يمكن أن يحافظ المتسامحون على الروح النقدية من كافة المعضلات والمشاكل والأحداث التي تحيق بهم إذا امتلكوا روحاً شفافة تبحث عن الحقيقة وتؤثر من ذاتها لأجل نصرة الحق.
ولنا في ذلك ضرب في الأمثال متمثل في أئمتنا (عليهم السلام) وما حدث مع الإمام الباقر (ع) هو خير مصداق لكلامنا، فيذكر أنّ رجلاً مرّ على الإمام الباقر (ع)فقال له: السلام عليك يا بقرة!
فقال الإمام (ع): أنا الباقر .
فقال له الرجل: يبن الطباخه!
فقال له الإمام (ع): هو دأبها.
فقال الرجل: يبن بذيئة اللسان!
فقال الإمام (ع): إن كانت كذلك غفر الله لها وإن كنت كذلك غفر الله لك.
فقال الرجل: الله يعلم أين يضع سره.
وهذا يوضح ما لممارسة نقد الذات والأفكار والأطروحات من تشكيله لقاعدة جوهرية في إدراك رفيع لتلك الأفكار والمضامين بعيداً عن التشنج والتعالي.
ولو أمعن رواد الحركة الإسلامية في التسامح وابتعدوا عن عقلية الاحتكار والتفرد والوصاية على عقول وتفكير الآخرين لوجدوا أنفسهم في حضن النهضة الثقافية حيث تزدهر تطلعاتهم وتنهض لديهم أفكار مبدعة، لكن النظرة الفوقية دائماً لا تتيح التمتع بمميزات وآراء ذلك الأدنى خاصة إذا اصطبغت أفكار وآراء ذلك الأدنى بلون الكفر.
توصيات عامة للوصول إلى التسامح:
لأجل الوصول إلى التسامح الشامل في مجالات الحياة السياسية
أو الاجتماعية أو حتى العقدية منها (الدينية) لا بدّ علينا من أن نهتم بالأمور الآتية:
1- العمل على تأصيل مبدأ التسامح، لا التأصيل النابع من ناحية المفهوم وأولوية السبق المصطلحي بين الشرق والغرب، لأننا لسنا في صدد إثبات أقدمية التسامح في الإسلام، إنما من أجل إبعاد الحساسية التي أبداها بعض مفكري عصرالنهضة من غربة الفكرة وإستيرادها.
ولأجل ذلك نحن مدعون إلى تجسيد ثمة معطيات رئيسية في التعامل والتكامل مع الآخرين عن طريق:
أ- الإصغاء للآخرين أياً كانوا بدافع التعلم منهم لا احترامهم فحسب، خاصة خصومنا وأندادنا ونعني بالإصغاء ملاحقة وملاحظة قيمهم وفكرهم وطرق تفكيرهم والأسس الفكرية التي انطلقوا منها في تدعيم رأيهم وفكرهم ومنطقهم.
ب- المطالبة بتوفير الأجواء المناسبة للتسامح وأهمها جعل القيمة ذات مضمون حياتي في مختلف مشارب تعاملاتنا، وأولها تأصيلها في الأسرة الصغيرة وتشذيب سلوكياتنا بمزيد من التسامح والاتساع في ذلك ليشمل كل أبعاد الحياة.
ج-الكف عن ممارسة السلطة أو استخدام القوة في التدخل بآراء الآخرين وأعمالهم ونشاطهم وأساليب تحركهم وطرق تفكيرهم، نعم بإمكاننا التنبيه على المزالق التي يقعون بها أو كشف من يخل بالالتزامات الأخلاقية للتسامح أو يتجاوز قواعدها الأساسية بطريقة مشينة، ولكن لا يحق لنا أن نتدخل بآرائهم وأعمالهم وإن كنا لا نوافق عليها عقيدياً أو فكرياً أو أخلاقياً.
2- التأكيد على حق الإختلاف بين البشر فالإختلاف آية بينة، وإن كان لا يلغي الإئتلاف، فالتسامح لم يرد في الشريعة الإسلامية إلا أنه يشير إلى إحدى خصائص المجتمع المسلم، كما جاءت الشريعة بما يقاربه أو يدل على معناه، فقد دعا القرآن الكريم إلى التقوى والتشاور والتآزر والتواصي والتراحم والتعارف، وكلها من صفات التسامح.
3- المطالبة بتكريس التسامح في الحياة السياسية ففي ظل التعدد في التركيبة المجتمعية الموجودة في مجتمعانتا ، فإنه لا بد من تقبل قيام أي أقلية أو طائفة أو تنظيم سياسي أو ديني تشكيل حزب سياسي يمثله والقيام بالترويج لأفكاره وإن كان مناهضاً لأطروحاتنا، فليس لنا الحق بادعاء إمتلاك الحقيقة السياسية ومصادرة رأي الآخرين.
4- نهوض الثقافة المدنية القائمة على فلسفة تأصيل طرائق التعددية وبناء مفهوم جديد للمواطنة يقوم على إحترام الحريات والحقوق الممنوحة للفرد والتداول السلمي للسلطة ورفض أشكال الاستبداد والدكتاتورية كافة في مختلف مناحي الحياة وهذا يتطلب سعياً حثيثاً نحو تغيير كل مؤسسات الدولة وطرقها عن طريق القضاء على الفساد الموجود في مؤسسات الدولة المختلفة، كما ويسعى إلى تأصيل مبادئ حقوق الإنسان، والعمل على إزاحة معالم الدولة العسكرية و(عسكرة الشعوب) والمركزية المطلقة في الحكم.
خاتمة:
ومما تقدم يتضح لنا بجلاء إلى أي مدى يعتبر التسامح الإيجابي -بوصفه تسامحاً شاملاً أو تسامحاً دينياً- من العناصر الأساسية في تعاليم الإسلام، وبالتالي من الأهداف التي ترمي إليها التربية الإسلامية.
ومن هنا فإن التزام المسلمين بذلك وحمايتهم لحقوق الإنسان والجماعات المتنوعة وأتباع الديانات الأخرى الذين يعيشون في المجتمعات الإسلامية أمر يدخل في إطار التزاماتهم الدينية التي تقضي بالحفاظ والدفاع عن الحقوق الإنسانية العامة للجميع.

ارسال التعليق

Top