• ٣٠ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٢١ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

لغةٌ عربيّةٌ ولغةٌ جديدةٌ معاً

أحمد بسام ساعي

لغةٌ عربيّةٌ ولغةٌ جديدةٌ معاً
◄ينقل السيوطي لنا،عدداً من الشهادات المتقدّمة من كبار اللغويّين والنقّاد الذين أدركوا، كما يجب أن نتوقّع، أنّ التجديد اللغويّ والأسلوبيّ هو أحد أهمّ الجوانب الإعجازيّة في القرآن، إن لم يكن أهمّها على الإطلاق. ومن هذه الشهادات الهامّة ما ينقله عن ابن سُراقة (ت 415هـ) في قوله: "اختلف أهل العلم في وجه إعجاز القرآن، فذكروا في ذلك وجوهاً كثيرةً كلّها حكمةٌ وصواب، وما بلغوا في وجوه إعجازه جزءاً واحداً من عُشر معشاره: فقال قوم: هو الإيجاز مع البلاغة. وقال آخرون: هو البيان والفصاحة. وقال آخرون: هو الرصف والنظم. وقال آخرون: هو كونه خارجاً عن جنس كلام العرب من النظم، والنثر، والخطب، والشعر، مع كون حروفِه في كلامهم، ومعانيه في خطابهم، وألفاظِه من جنس كلماتهم، وهو بذاته قَبيلٌ غير قبيلِ كلامهم، وجنسٌ آخر متميّزٌ عن أجناس خطابهم، حتى إنّ من اقتصر على معانيه وغيّر حروفه أذهبَ رونقَه، ومن اقتصر على حروفه وغيّر معانيه أبطل فائدته، فكان في ذلك أبلغُ دلالةٍ على إعجازه"[1]. ومع هذه التصريحات الجريئة الكاشفة فإنّنا، على مدى قرونٍ من تاريخ مكتبتنا التراثيّة، نتعثّر هنا وهناك بالعديد من القصص الغربية التي وضعها الوضّاعون للدفاع عن فكرة "أنّ القرآن لم يأتِ بلغةٍ جديدة" وكأنّما هي سُبّةٌ تلحق بكتاب الله تعالى أن يخالف أعراف العرب اللغويّة والنحويّة والبلاغيّة ويأتي فيها بجديدٍ لم يُسبق إليه! ويصل بعض هذه القصص في ضعفه إلى حدّ التهافت، ويصل تفكير بعض من قَبِل هذه القصص أو صدّقها إلى حدّ السطحيّة والسذاجة. وهذا النوع من الحصار الفكري لم يقتصر على جانب الإعجاز التجديديّ في القرآن، بل تجاوزه إلى جانبٍ لا يتحدّث أصحابه عادةً إلّا بلغة الأرقام، وهو جانب الإعجاز العلميّ، فانبرى بعض المتشدّدين ليوصد الباب أمام من يحاولون من اللغويّين والنحويّين والعلماء، وإن لم يشملهم جميعاً، فهذا الخطّ المتشدّد يمتدّ عميقاً في تراثنا وعند بعض علمائنا، وعلى رأسهم الشاطبي الأندلسي (ت 970هـ) الذي كان على رأس من هاجموا، منذ ذلك الوقت، التفسير العلميّ للقرآن الكريم. إنّ من المؤكّد أنّ القرآن لم يأتِ بلغةٍ جديدةٍ منفصلةٍ عن اللغة العربية، وهذا موضع إعجازه، لأنّه نزل بالعربيّة وانطلق من قواعدها، ولكنّ تفرّده يأتي من تجاوز هذه اللغة والقفز فوق محدوديّة ألفاظها وتراكيبها وسبائكها وصورها وعلاقاتها اللغوية، كما يأتي من تطوير أعرافها، ثمّ قواعدها، من غير إلغاء هذه القواعد، وفتح الباب أمامها للمزيد من التطوّر والغنى، ومنحِها أبعاداً وآفاقاً واسعةً لم يكن أصحاب هذه اللغة يحلمون بها أبداً. إنّ إعجاز القرآن لا يكمن في إيجاد لغةٍ من لا شيء، وإلّا لا نفصل بنفسه وبتعاليمه عن البشر، أيّاً كانت لغتهم، وإنّما في بناء لغةٍ جديدةٍ على أسس اللغة القديمة نفسها، والتحليق بعد ذلك في فضاءاتٍ واسعةٍ لم تعرفها أو تصل إليها اللغة التقليديّة. ولطالما واجهتُ في أثناء محاضراتي في موضوع هذا البحث احتجاجاً من بعض الحضور على إطلاقي تعبير (لغة جديدة) على لغة القرآن، لأنّني أوهِم بهذا أنّها لغةٌ غير عربيّة، واقترحوا أن أجد بديلاً لهذا التعبير غير لفظ "لغة"، ولكنّ الإعجاز يكمن حقيقةً في هذا التناقض؛ التناقض بين حقيقة "أن تكون لغةً عربيّةً" وحقيقة أن تكون في الوقت نفسه "لغةً جديدةً". حقّاً قد يبدو هذا غير منطقي، ولكنّ منطق المعجزة هو ألّا تقوم على منطق، وإذا استندت المعجزة إلى المنطق توقّفت عن أن تكون معجزة. الإعجاز لا قاعدة له، وحتّى يكون الإعجاز إعجازاً فلابدّ أن يتجرّد من المقاييس والموازين والقواعد الإنسانيّة التقليديّة. لغة القرآن الكريم "لغةٌ عربيّةٌ" وهي أيضاً "لغةٌ جديدةٌ"، شاء منطقنا الإنسانيّ أم أبى. يقول الناقد الإنجليزيّ ميدلتون مري Middleton Murry: "إنّ إبداعَنا لعملٍ أدبيٍّ عظيم ليس في انتصار اللغة بل في الانتصار على اللغة"[2] وهذا ما حقّقته لغة القرآن الكريم في حركة تقاطعها الفذّة مع اللغة الجاهليّة، فكانت انتصاراً على اللغة من داخل اللغة نفسها. إنّه بتعبيرٍ آخر: انتصارٌ باللغة على اللغة.  الهامش: [1]- السيوطيّ، جلال الدين. الإتقان في علوم القرآن، ج2، ص236.

[2]- Murry, John Middleton. The Problem of Style. Oxford: Oxford University Press, 1960. P. 101.

المصدر: كتاب المعجزة (إعادة قراءة الإعجاز اللغوي في القرآن الكريم)/ ج1

ارسال التعليق

Top