• ٢٨ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٩ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

مبادئ ومفاهيم التربية الحديثة

د. عبدالعظيم كريمي

مبادئ ومفاهيم التربية الحديثة

المراد بمبادئ التعليم والتربية، البحث عن مفاهيم ثابتة ومستقلة تنسجم مع الأُسس العقلية والمتطلبات الاجتماعية. وهي المفاهيم أو المفردات التي يمكن بواسطتها تربية الأبعاد المختلفة للشخصية.

من مستلزمات مبادئ التعليم والتربية أن تكون فاعلة ومتحركة، ومتفاعلة أيضاً، بحيث يمكن اكتشاف جميع العناصر من خلال التعامل مع المتربي.

من الوظائف الأساسية للتربية الحديثة هو أن يقوم المعلم بإيصال العمل التعليمي أو العملية التربوية إلى مرحلة يصبح فيها المتربي في غنىً عن المربي. لذلك يتضح مدى كفاءة المعلم في مدى استغناء المتربي عن المربي.

على صعيد آخر، نظراً لاقتران وجود الإنسان بأنواع التناقضات رغم وحدة ذلك الوجود، لذلك قد يؤثّر عليه الكلام في بعض الأحيان، ولا يؤثّر عليه في أحيان أخرى، وذلك لوجود قوى واستعدادات مختلفة لديه، فتُبدي ردود فعل مختلفة باختلاف المقتضيات والأحوال. لكن المهمّة التي ينبغي على نظام التعليم والتربية القيام بها هي إيقاظ وتربية وصقل جميع استعدادات الإنسان وطاقاته المفيدة، والتنسيق بين هذه القوى والاستعدادات، أي:

أ‌. التنسيق بين القوى الذاتية لفرد ما وإزالة التناقضات الكامنة فيه، من خلال خلق القابلية على مجابهة هذه التناقضات والعقبات، وتفسير مشاكل الحياة وصعوباتها.

ب‌. تفعيل القوى المنسجمة وتوحيدها من أجل قطع طريق النمو.

ت‌. التنسيق بين الأجهزة الفاعلة في عملية التعليم والتربية مع الحفاظ على هُويّتها المستقلة.

ث‌. قانون التربية معناه الانصياع لطبيعة الطفل وإعداد الظروف والمناخات الموائمة لتربية الطفل كما يستطيع وليس كما يشاء أو كما نشاء.

اضف إلى ذلك، لابدّ من الإشارة إلى أمر آخر وهو ألا نتخذ من مبدأ واحد ثابت مصدراً للأعمال التربوية، وإنما ينبغي أن تنسجم الأصول التربوية مع الظروف والبيئة، والزمان، وأن ينطبق معها أي شيء يُضاف إلى المحيط، فضلاً عن تطبيق المحيط عليها. وفي مثل هذه الحال يتضح الحدّ الفاصل بين (التكييف) و(الانسجام)، لأنّ العملية التربوية عملية داخلية وإرادية وفاعلية. ووردت هذه الفكرة في كتاب (التربية عند الإيرانيين)، نقلاً عن إفلاطون. فهو يعتبر التربية استخراجاً للقوى الباطنية لروح الإنسان.

على ضوء هذه الآراء يمكن القول إنّ التعليم والتربية عملية باطنية وفاعلة تستوعب اكتشاف القوى الإنسانية الخلّاقة وتفعيلها.

لابدّ أن نعلم أنّ هناك عملية مجابهة مستمرة بين القوى الخلّاقة والقوى المخرّبة أو القوى الإلهية والقوى الشيطانية عند الإنسان. ومن مهام التربية الحقيقية اكتشاف القوى الخلّاقة وتربيتها وتفعليها من أجل الحدّ بنفس المقدار من اتّساع وتأثير القوى المخرّبة المفسدة.

إذن لابدّ للمعلم أن ينطلق لتربية الإنسان وهو يحمل فكرة أنّ الإنسان ذو فطرة سليمة خيّرة. ولذلك يقول المربي السويسري (بستالوزي): "إنّه لو نُظر إلى الإنسان على أنّه ذو طبيعة سيئة، فهذا يؤدّي إلى إغلاق طريق الخير والصلاح بوجهه. فينبغي على العملية التربوية القيام بإزاحة العقبات، وتوفير مستلزمات النمو الطبيعي".

من المهام الأخرى التي تترتب على التعليم والتربية، (تربية شخصية الإنسان وإعداده للتعامل الصحيح مع حوادث الحياة). ويقول (فروبل) بهذا الشأن: "لابدّ لعملية التعليم والتربية أن تجعل الإنسان يعي أوّلاً ذاته وما هو كامن في وجوده، وأن تجعله يتكيّف مع طبيعته، كي يُصبح قادراً بعد ذلك على الاتحاد مع ربّه".

لا ريب في الإنسان إذا تميّز خلال ذلك التعامل مع الحياة والمصادر الاجتماعية المتنوّعة، بفكر عميق وصحيح، فستكون لديه القابلية على الانتخاب الأحسن، الذي ينسجم مع قواه الجسمية والنفسية، والإمكانات الزمانية والمكانية. والفرص الاجتماعية.

إذن فالتربية مؤثّرة جدّاً على تحقيق الحدّ الأعلى من التطوّر، والتكامل والسعادة للإنسان، ومن ثم انعكاس ذلك على المجتمع بأسره، حيث تدفع الآخرين أيضاً للمساهمة في تلك السعادة.

يعتقد المربي الألماني (ارنست كريك) أنّ الإنسان يتربى تلقائياً وعن غير قصد. أي أنّ التربية لا تقوم على منهاج معدّ سلفاً، بحيث يتربى الفرد على ضوئه منذ البداية من دون إرادة ورغبة.

من جانب آخر يعتقد (كرشن اشتاينر) أنّ العمل التربوي القائم على التبعية، ينبغي أن يُعدّ الفرد لتربية مستقلة. فالمربي لا يستطيع أن يضع هذا الهدف بعيداً عن عينه. فمن الممكن تربية الشخصية عن طريق السعي الدائم لدفع الشخص من دائرة القيم المقيّدة إلى عالم القيم المطلقة. وتسعى (المدرسة الفعّالة) لتوجيه نمو الشخصية في هذا المسار.

المبادئ التالية المقتبسة من كتاب (أصول التعليم والتربية) والتي تعبّر عن نظرية (اشتاينر) التربوية، تكشف عن تعقيد العملية التربوية وتضاربها:

مبدأ الفعالية: دع أي عمل - ما كان ذلك بوسعك مع رعاية الوضع النفسي - للنشاط الحر لتلميذك. فاترك - ليس تطوّر العمل فحسب - بل العمل المنجز أيضاً، إلى روح البحث الدقيقة عند الطفل، إلى الحدّ الذي يسمح بذلك شكل العمل الشخصي ومادّته.

مبدأ الاجتماعية: احرص على أن يحقّق تلميذك ليس الاستقلال الأخلاقي الشخصي فحسب، وإنما أن يساعد المجتمع كي يتطوّر أخلاقياً عن طريق نشاطه الحر أيضاً.

مبدأ الفردية: ينبغي وجود تشابه كامل أو جزئي على الأقل في التركيبة المعنوية بين المتربي والرصيد الثقافي، كي يكون هذا الرصيد الثقافي مفيداً في التربية.

يُستفاد من هذه المبادئ أنّ حجر الزاوية في العملية التربوية هو تربية الفردية، وروح الاستقلال، وترك زمام الأمور إلى المتربي، كي ينال التطوّر الأخلاقي والاجتماعي من دون الشعور بالحاجة إلى المربي.

يقول (بستالوزي): لقد أخفت الطبيعة في الإنسان المواهب والقابليات الأفضل كاختفاء الجواهر في الأصداف. لذلك لو حطمت الصدفة قبل أوانها لرأيت الجوهرة غير مكتملة بعد".

يبدو أنّ جذور معظم الاختلالات التربوية والسلوكية التي نشاهدها عند الأطفال، نابعة من حالة الاستعجال التي قد تأخذ طابع الحرص والعطف، ومن التدخلات التي لا تحسن عملية التوقيت.

يبدو أنّ هذا الاستعجال الطفولي للكبار، يترك آثاراً سيئة ويعطي نتائج معكوسة تؤثّر سلباً على شخصية الطفل وفي أية خطوة تربوية، لأنّ تلك الخطوة منبثقة من ذهن المربي فقط، وغير مرتبطة بطبيعة الطفل وقابلياته. ويمكن أن نلمح أمارات هذا الاستعجال بشكل واضح في الأعمال التربوية التي تنهض بها المدارس. حتى أنّ بعض مدراء المدارس ومعلميها يسعون جاهدين لفرض أذواقهم ورغباتهم على الطلبة، لكنّهم لا يحقّقون هذا الهدف مهما اصروا على هذا اللون من السلوك التربوي.

إذن التربية القائمة على الصبر، والانتظار، واكتشاف الفرص، أكثر تأثيراً من التربية القائمة على الفرض، والقسر، والنقل.

يقول(روسو): "إذا ما أراد المرء أن يكون صالحاً ومتقياً فلن يحتاج في ذلك إلى العلم والفلسفة. ولن يحتاج إلى معلومات من قبيل الإلهيات لاختيار السلوك الذي يريده. فلو رجع كلّ شخص إلى ضميره واستشاره بصدق؛ فسيُلهم الطريق والسلوك الذي ينبغي أن يتخذه".

ويقول في موضع آخر:"لا يُفسد التقوى شيء مثل العمل بها لمصلحة مادّية. عليك أن تتذكر دائماً أنّ الجهل لا يُلحق الشر، وإنما يُلحقه التخبط والخطأ. والإنسان لا يضلّ لأنّه لا يعرف، وإنما يضلّ حينما يتصوّر أنّه يعرف".

إذا لم نعرف شيئاً عن التربية، ولا تتوفر لدينا معلومات عن كيفية التربية، فإنّنا لن نتضرر بحجم الضرر الذي يلحقه الفهم الخاطئ للتربية. أي إنّ المعلومات التربوية الخاطئة التي نمتلكها، تشكّل خطورة أكبر بكثير مما لو كنا جاهلين بالمعلومات الصحيحة. وهذه الفكرة تنطبق مع قول الرسول الأكرم محمّد (ص): "إنّي لا أخاف عليكم فيما لا تعلمون".

إذن الجهل بشيء ما، وعدم القيام بعمل ما، ذو خطر أقل من المعرفة الغلط، والعلم الضال الذي يلحق الضرر بالمجتمع والفرد، سيما إذا كان صاحبه يصرّ على أنّه يعلم العلم الصائب الصحيح!

التربية تمهّد طريق ظهور الفطرة، وتفتح أبواب ظهور الدِّين، والصدق، ومن ثم الفضائل الأخلاقية. لذلك ليس من الصحيح إدخال هذه السجايا الحميدة إلى ذهن الطفل من الخارج، وإنما ينبغي توفير الظروف والفرص كي تنبثق من أعماقه وضميره.

يؤكد الإسلام - لاسيما من خلال القرآن الكريم - على مبدأ الذكر والتذكير، كما يؤكّد على أنّ رسالة الأنبياء تمثل - في حقيقة الأمر - تذكيراً بالميثاق القائم بين الإنسان والخالق. وهذا ما يكشف بدوره عن أهمية المبدأ التالي وهو أنّ التربية الفطرية تمثّل نوعاً من الذكر والتذكير المحفّز على اكتشاف الباطن الذي يتبلّور على أساس الفطرة.

على هذا الضوء، تذهب أدراج الرياح جميع البرامج والتدابير الذهنية التي يدوّنها الكبار ومسؤولون التعليم والتربية في قالب مبادئ التربية وفرضياتهم الذهنية. ونحن نلاحظ بوضوح كم هو البون الشاسع بين ما يُطرح كأهداف تربوية معدّة سلفاً وبين ما يظهر في سلوك وشخصية التلميذ. ويكشف هذا البون الشاسع بوضوح عن الحدِّ القائم بين الذهنية والعينية في عملية التربية، وكذلك الحدّ الفاصل بين التربية المفروضة والتربية التلقائية.

يعتقد (فريدنبرغ) أنّ عمل المدراس ينصّب منذ مرحلة الروضة وحتى المرحلة الجامعية على أحداث تطابق بين المتعلمين والمجتمع المريض، وصناعة مُخ عام من أجل السيطرة به على الجيل الجديد.

يقترح (غودمن) إلغاء التربية التي يعبِّر عنها بالعمدية والقسرية، لأنّها غير صحيحة. ويُطالب بإيقاف التعليم الرسمي لأنّه يقف وراء التعارض الواسع الراهن مع طبيعة الإنسان، ويعرقل التربية الفطرية.

يعتقد (أ. آس. نيل) بالتربية الطبيعية على غرار (روسو)، ويقول: "نحن نريد أن نشيّد مدرسة نسمح فيها للصغار للتعبير عن ذواتهم وأنفسهم. ومن أجل تحقق هذا الطلب لابدّ لنا من تجاهل جميع الأنظمة، والتعاليم، والتلقينات، والتعليمات الأخلاقية. وهذا الهدف بحاجة إلى شيء متوفر لدينا وهو الإيمان الكامل بأنّ الطفل موجود خيّر وليس كما يريد هو أيضاً بدافع الهوى. يرى (نيل) أنّ الطفل عاقل وواقعي بالطبع. لذلك فإنّه سينضج لو تُرك لحاله بعيداً عن أي تلقين من الكبار. وأنّ كلّ طالب سيندفع باتجاه المهنة أو العمل الذي ينسجم مع طموحه وقابلياته الذاتية.

وتقوم هذه المدرسة على مبدأ الثقة بالطفل، مع دعم وتقوية حالة الإدارة الذاتية والتوجيه الذاتي لديه، كي يتمكّن من انضاج قابلياته واستعداداته في ظل الفرص الحرة، وجوّ الثقة والاحترام.

 

المصدر: كتاب مرتكزات التربية والديمقراطية

ارسال التعليق

Top