• ١ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٢ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

صاحب الجنّتين والمُعدَم.. قيمة المال والإيمان

أسرة البلاغ

صاحب الجنّتين والمُعدَم.. قيمة المال والإيمان

في هذا العرض نلتقي بالنموذجين في مشهد حواريّ واحد.

فهناك الثريّ المترف صاحب المال والأراضي الزراعية الشاسعة والأولاد والجاه والأبّهة. وهناك الفقير المعدم الذي لا يمتلك من ذلك شيئاً، لكنّه يملك ما هو أثمن وأغنى وأدوم، وهو إيمانه بالله وفضله وعظمته. يقول تعالى في تصوير الشخصيتين: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا * وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا * قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلا * لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالا وَوَلَدًا * فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا) (الكهف/ 32-40).   - مقارنة بين الشخصيتين: المشهد الحواري السابق بين صاحب الثروة المادية العريضة وبين صاحب الإيمان العميق بالله يكشف عن هويّة كلّ منهما وإن كنّا نجهل أسماءهما، لأنّ القرآن لم يذكر ذلك، وهو ليس بالمهم، فالمهم فحوى القصة ومضمون الحوار وقيمة النموذج. 1- صاحب الجنّتين يرى أنّ ملكه نعيم خالد لا يزول. والمؤمن المعدم يرى أنّ هذا الملك – مهما كان عريضاً – فهو عرضة للزوال في أيّة لحظة[1]. 2- صاحب الجنّتين يرى أنّ قيمته في كثرة ما لديه من ثروات وبنين. والمؤمن المعدم يرى أن قيمته فيما يؤمن به. 3- صاحب الجنّتين يرى أنّ الله سيتفضّل عليه بالآخرة أيضاً كما تفضّل عليه في الدنيا كجزء من غروره وخيلائه وتصوّره أنّ الله يحبّه لذاته ويكرمه لأجل سواد عينيه. والمؤمن المعدم يرى أنّ عطاء الله للمؤمنين وما ادخره لهم من جنّات النعيم ومُلكٍ لا يبلى، سيكون أوسع وأفضل وأدوم من عطائه للأثرياء في الحياة الدنيا. 4- صاحب الجنّتين لا يؤمن أنّ هناك قوّة أقوى من قوّته يمكن أن تدمّر ما يملك حتى ولو كان الفيضان، فيما يرى الفقير المؤمن أنّ دوام الحال من المحال، وأنّ جنّات الأرض مهما كانت غنّاء عامرة يمكن أن تصبح خاوية على عروشها في فيضان أو حريق يأتي عليها فيجعلها قاعاً صفصفا، لأنّها لا تملك صفة الدوام، فهي كصاحبها فانية (كلّ مَنْ عليها فان * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ) (الرحمن/ 27).   - التطبيقات العملية: إنّ لصاحب الجنّتين في الحياة أشباهاً ونظائر، فقد تلتقي بأناس أثرياء يخلدون إلى ثرواتهم ويركنون إليها كمن يستند إلى ركن وثيق. فلا يعرفون فضل الله عليهم ولا يذكرونه ولا يشكرونه وكأنّ ما لديهم من صنع يديهم وقولهم كما قال (قارون) صاحب الثراء الفاحش (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي) (القصص/ 78). وقد تلتقي بأثرياء في أرصدتهم وعقاراتهم وممتلكاتهم ولكنّهم فقراء في نفوسهم، بخلاء في عطائهم، ضعفاء في إيمانهم وإلتزامهم، وهم يتصورون أنّهم في بروج مشيّدة لا يدركهم الموت. وتلتقي بفئة ثالثة تنظر إلى مَنْ هو أدنى مستوى منها نظرة ازدراء واستصغار حتى ولو كان أكبر منهم في مقامه الإيماني والعمليّ والجهاديّ والعلميّ، لأنّهم يعتبرون ما يملكونه أعظم من الإيمان والعلم والعمل والجهاد. وفي مقابل هذه النماذج الحياتية، ترى: أناساً فقراء لا يملكون من طعام الدنيا شيئاً كأنهم أغنياء من التعفّف، وكلّهم ثقة وأمل وإيمان أن عطاء الدنيا – مهما كان كبيراً – فهو لا يساوي شيئاً في موازاة عطاء الآخرة، فللآخرة يعملون، ولا ينسون نصيبهم من الدنيا. وهاتان الصورتان (صورة الثري صاحب الجنّتين) و(صورة المؤمن الفقير المعدم) لهما انعكاسات في التعامل الاجتماعي، فبعض الناس يحترمون صاحب الثروة ويقدّرونه أكثر من تقديرهم للمؤمن العامل، فتراهم يفسحون له في مجالسهم، ويقومون له اكباراً واجلالاً وإذا خطب ابنة أحدهم هرعوا لتزويجها من ابنه، وإذا طلب منهم خدمة تهافتوا أو سارعوا لقضائها، ولا يفعلون ذلك مع المؤمنين المعدمين إلاّ نادراً، الأمر الذي يعني أنّ النموذجين المذكورين في الآيات الكريمة ما زالا يعيشان في مجتمعاتنا، وإنّ صورة صاحب الجنّتين هي التي تخطف الأبصار رغم أنّ المال لا يشكّل قيمة داخلية تعبّر عن إنسانية الانسان وعلمه وخلقه وسجاياه.
الهامش: [1]- ينبغي أن لا يتبادر إلى الذهن أنّ المؤمن لأنّه فقير فهو يقول ذلك، فهو حتى لو امتلك الثروات فإنّه يبقى يقدّر قيمة الإيمان ويعتبره أنفس من كل ثروة، لأنّه يفكّر بما هو باقٍ لا بما هو نافذ وزائل.

ارسال التعليق

Top