• ٣٠ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٢١ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الإسلام بين الأديان كالشمس بين الكواكب/ ج1

د. عبدالكريم اليافي

الإسلام بين الأديان كالشمس بين الكواكب/ ج1
◄الطريق إلى الله: الطرق إلى الله كثيرة وأصحُّها وأعمرها اثنتان: طريق النبوة، وطريق التأمل والنظر والعرفان. وكلتاهما متضافرتان وفي الحقيقة متحدتان. أما النبوة فنحن ندرك أن بين البشر من هم أولو طاقات رفيعة ومواهب عالية في ميادين مختلفة قاموا بأعمال وأتوا بأفكار رفعت الإنسانية من مستواها الحيواني إلى مستوى فكري وروحي هو خاصية الإنسان الحقيقية كالعلماء والمصلحين والفنانين والمبتكرين والسياسيين المخلصين الذين خرجوا من نطاق إقليميتهم الضيقة وقوميتهم المحدودة إلى النطاق الإنساني العالمي الواسع وقدموا لصالح الإنسانية أيادي بيضاً وخدمات جلى. وإذا سلمنا بوجود هؤلاء في التاريخ السالف والعصر الحاضر فإنّ ثمة رجالاً لا كالرجال عرفوا بالأمانة والإخلاص ومكارم الأخلاق والصدق وطهارة السيرة وهم الأنبياء. حدّثوا انّهم تلقوا وحياً من الله ربّ الأرباب لإصلاح أقوامهم أو لإصلاح الإنسانية وبيان السبيل الأمثل لها نحو الرفعة والمعالي. وكما نعجب بالفلاسفة والعلماء والمصلحين والسياسيين ونشهد لهم بالتفوق فعلينا أن نشهد بالتفوق الأكبر لهؤلاء الرجال الذين تدل حياتهم كلّها على صدقهم والذين اصطفاهم الله لتلقي وحيه وأداء رسالاته والذين اخلصوا كلّ الإخلاص في أداء تلك الرسالات وتحمُّل الأذى والمشاق حتى الإرهاق والمقاطع والنفي والهجرة في تبليغها: "والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك دونه – ما تركته" (جواب الرسول العربي لعمه أبي طالب لما كثر ضغط المشركين عليهما). لا نريد أن ندخل في تفاصيل تاريخ الأنبياء، والمرسلين والأولياء والمصلحين ولكنا نشير هنا إلى خاتمهم وسيدهم المصطفى (ص) وهو الذي إذا قرأنا سيرته وتصفحنا حياته وأعماله وقرأنا كلامه وقد أوتي جوامع الكلم تلمَّحنا من كلِّ ذلك كماله وعظمته وأنّه الطريق الحقّ إلى معرفة الله جلّ وعلا (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) (الأنعام/ 124)، هذا مع العلم أنّ حياة كلٌّ من الرسل والأنبياء الآخرين يحفها الغموض والاختفاء إلّا ما نسبه الباحثون إليهم على اختلاف درجاتهم وتفاوت انتسابهم ومذاهبهم دون نصوص قاطعة (ما عدا ما أتى به القرآن الكريم من أخبارهم). وأما طريق التأمل والنظر والعرفان فكلّ شيء في الكون يدل على اتساع هذا الكون وعمقه واشتباك جوانبه وتأخذ ظواهره وبواطنه ومراتب كائناته وأنّ أعلى هذه المراتب يتبوؤها الإنسان المفكر المدرك الذي انما اعتبرنا علوه لأنّه يأتي فوق الجماد والنبات والحيوان ويمتاز بالفكر الذي هو أسمى خصائصه والذي يرتفع به على غيره من الكائنات. وهو يسعى دائماً نحو الخروج من نفسه بتفهُّم كنه الكون ويبحث عن سر وجوده هو نفسه فيه ومصيره بعد موته جسماً وروحاً. وفي كثير من الأحيان يبلغ في تأمله إلى وجود الكائن الأعظم الذي نفخ فيه من روحه وجعله بشراً سوياً: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (آل عمران/ 190-191). كان الفيلسوف اليوناني الشهير افلاطون يقول ما معناه أنّ انتصاب قامة الإنسان وكون رأسه في أعلاها دليل على أنّ أصله من السماء. تعبير يكاد يكون شعرياً ولكنه يشير إلى امتياز الإنسان عن الحيوان والنبات بالفكر والعقل والتأمل. وهكذا نرى بعض أبناء العرفان إذا ساعفتهم الهداية ووصلوا إلى الإيمان بوجود الله ينظرون إلى جميع الموجودات من حيث احتياجها الدائم إلى المكوّن الأعظم الذي يمدها بالوجود امداداً متواصلاً مثلما تمد الشمس الكواكب بنورها فتبدو متألقة. بل ينظرون في عمق عرفانهم إلى المدد الإلهي في كلِّ شيء فهو سبحانه يملأ قلوبهم وأفكارهم وسرائرهم: وأي الأرض تخلوا منك حتى *** تعالوا يطلبونك في السماء تراهم ينظرون إليك جهراً *** وهم لا يبصرون من العماء بصائر أمثال هذا القائل وهو الحسين بن منصور منفتحة لأنوار العرفان. وفي غالبية الأحيان يستند أمثال هؤلاء العارفين في بداية طريقهم إلى دين من الأديان وإلى ما جاء به رسولهم وما صدع به من وحي وتنزيل. ثمّ يترقون بالمجاهدات إلى المقام الذي يستطيعون الوصول إليه مارين بمختلف الأحوال. وعندئذٍ يشعرون بنعمة الرسالة وكرم الهداية. يهتف الحلاج نفسه حين وجد نفسه مغموراً بنور الهداية الربانية فيرتل ثناءه على رسول الإسلام: "سراج من نور الغيب بدأ وعاد، وجاوز السُّرُج وساد، قمر تجلَّى من بين الأقمار، برجه في فلك الأسرار، سماه الحق أميناً لجمع همته، وكريماً لعظم نعمته، ومكيناً لتمكينه عند قربته" [طسن السراج]. ولا شك أنّ أبا المغيث كانت تتلامح في ذهنه الآيات الكريمات: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ[1]) (التكوير/ 19-21). وأهم العارفين الذين استندوا في عرفانهم إلى دين من الأديان صوفية الإسلام. ومن المعلوم مكانتهم العالية في آفاق العرفان لا تطاولهم في ذلك فئة أو جماعة ولذلك قلنا آنفاً إنّ الطريقين طريق النبوة وطريق العرفان متضافرتان وقد تتحدان. يعتمد بعض أرباب العرفان من الصوفية حديثاً قدسياً صح عندهم معناه على سبيل الكشف دون تأكد الاسناد وهو قوله جلّ وعلا: "كنت كنزاً مخفياً فأردت أن أُعرف فخلقت الخلق فبه عرفوني". وفي رواية فبي عرفوني. والمعنى على الروايتين يكاد يكون واحداً. أي أنّه سبحانه وتعالى جلّ عن التشبيه (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الشورى/ 11)، أراد أن تدرك أسماؤه الحسنى وأن يعرف جماله وجلاله وأن تقدّر آلاؤه وأن يُعبد على أفضل وجه وأسلم طريق وأتم مجلى فخلق الخلق وبعث النبيين مبشرين ومنذرين ليحفزوا العباد على معرفته ومحبته اللتين هما أصل الخلق وعلى عبادته أكمل عبادة. ولا يمكن للخليقة أن تبلغ الكمال في عبادته ومعرفته غبّ خلقهم. بل لابدّ من النمو والنشوء والتطور حالاً بعد حال وطوراً تِلْو تطور جرياً على سنن الطبيعة وقوانين الخليقة المدرجة في الكون وتدرجاً على مدى أزمانٍ وحقب. وهكذا بعث الله الرسل تترى واحداً بعد واحد إلى الأقوام القديمة وأوحى تعاليمه الإلهية إليهم وحمّلهم المسؤولية في الدعوة كما حمَّل الأقوام المسؤولية في الهداية وفي تزكية النفوس وتقوى القلوب. فكانت رسالات الرسل مراحل في الهداية حسب تقدم البشرية وفي السعي نحو معرفته جلّ وعلا، وكانت حثاً على عبادته وحفزاً لأولئك الأقوام على الصلاح تدريجاً قوماً بعد قوم، وجيلاً بعد جيل حتى تطورت الإنسانية تطوراً كافياً وأنّ لها أن تسلك في معرفته أقوم سبيل وأوضح وجه فأرسل محمداً خاتم النبيين والمرسلين وصفوة عباده المصطفين الأكرمين. فعلى طريقه غدت المعرفة أصح والعبادة أخلص والتوحيد أوكد وأقوى وكان النور المشع الذي انبجس والسراج المنير الذي أضاء، وحمل العرب تلك الرسالة وحملها معهم المسلمون من بقية الشعوب واخلصوا جميعاً في حملها واناروا بها المشرق والمغرب والشمال والجنوب. ولم يكن بدٌّ لذلك النور لكي يستوسق ويقوى من أن يصادف قلوباً عليها أكنّة فهي لا تدرك وعيوناً عليها غشاوات فهي لا تبصر وأيدياً مغلولة ومشدودة إلى الأرض والمادة فهي لا تأتي بخير ونفوساً ذات نزوات ضيقة، وأمثال أصحاب هذه النزوات والأيدي والعيون والقلوب تسوّل لهم الشياطين أعمالهم، وقد ينجحون في أعمالهم هذه استدراجاً ولكنهم في الحين بعد الحين يرتطمون بعصابٍ وتعترض لهم عقبات ويحتاجون إلى بصيص من النور في غياهب مساعيهم ونزواتهم. ومن خصائص النوع الإنساني حرية الأفراد وحرية المسؤولين في المجتمعات في حدود تفرضها الأحوال التاريخية، والسياسية، والاقتصادية والثقافية وأمثالها، وتلك الحرية في رأينا هي الأمانة التي حملها الإنسان دون أن يعي فداحة عبئها وثقل أدائها أداءً صالحاً فردياً واجتماعياً. وهكذا تشعبت الاتجاهات الفكرية والسياسية وتفاوتت المصالح ونشأت حروبٌ لا تستند دائماً إلى ملاحظة الصواب واتباع الهدى واحقاق الحقّ. ووقع من جراء ذلك الظلم والاستبداد والافتئات على حقوق الغير واستغلال الضعفاء واستثمار الشعوب واستعمارها وذرّ قرن الاستكبار والصلف والابتزاز. وطوى الزمان الأديان إذ انحرف اتباعها عن سبلها القويمة ولم يتفهموا مضامينها الإنسانية وغاياتها الإرشادية وفحواها التقدمي والاجتماعي، وتخبط كثير من المجتمعات في الظلام والمتاهات في مختلف الدعايات والانحرافات على الرغم من تقدم بعضها في الجوانب المادية والتقنيات الحديثة. ولحق التخبط بالمسلمين في مجتمعاتهم كما لحقهم التأخر بالنسبة إلى أمم وشعوب حديثة استفادت في الماضي من بعض ما حققه المسلمون في مجال العلوم الطبيعية والتجريبية ولكن المسلمين على الرغم من تأخرهم وتخبطهم يشعرون في أعماقهم بمزايا دينهم وإن كانوا لا يحققونها ولا يرعونها حقّ رعايتها ولكنهم يرون صحيحاً ما كتبه أحد اعلامهم الحديثين وهو الشيخ محمد عبده في (رسالة التوحيد) ومن أنّ الإسلام لم يدع أصلاً من أصول الفضائل إلّا أتى عليه ولا أمّاً من أمهات الصالحات إلّا أحياها، ولا قاعدة من قواعد النظام إلّا قررها، فاستجمع للإنسان عند بلوغه رشده حرية الفكرية واستقلال العقل في النظر وما به صلاح السجايا واستقامة الطبع، وما فيه من انهاض العزائم إلى العمل وسوقها في سبيل السعي. ومن يتلو القرآن حق تلاوته يجد فيه كنزاً لا بنفذ وذخيرةً لا تفنى[2] وكذلك تابع الإسلام المرء في حياته الفردية وعلاقاته الاجتماعية والمدنية فنظمها تنظيماً جيِّداً يعود بالخير عليه وعلى المجتمع معاً، ولذلك نجد الناشئة في بلاد الإسلام عوضاً من أن ينصرفوا عن الدين يقبلون عليه ويتمسكون بمبادئه التي هي مبادئ الحرية والعقل والتقدم، وهم في الوقت نفسه يدركون ما كان في المجتمعات الشرقية الشيوعية من خللٍ وارتباك وانحراف واستطاع زعيم فذ وهو غرباتشيف أن يعلن الخلل ويحاول رتق الفتق ورأب الصدع بإعادة البناء، ويدركون أيضاً ما في المجتمعات الغربية الرأسمالية والاستعمارية من نفاق ومن استغلال ومن تردٍّ على رغم البريق الأخاذ وانّه لابدّ من أن ينهض فيها مفكرون وزعماء يحاولون تلافي ذلك التردي وتجاوز العقبات وتحامي المزالق الكثيرة والمهاوي السحيقة بحيث يسعون نحو إعادة البناء أيضاً إعادةً سليمة قائمة على رعاية حقوق الإنسان والشعوب في جميع أقطار الأرض رعاية صادقة ومستندة إلى بسط العدالة الإنسانية والاجتماعية في مختلف الأقطار دون تفرقة لون، أو عرق، أو جنس كما نوه الإسلام، وقد ورد من أقوال الرسول الكريم في آخر خطبة له: "أيها الناس! إنّ ربكم واحد وإنّ أباكم واحد. كلّكم لآدم وآدم من تراب. أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي على عجمي فضل إلّا بالتقوى". إنّ الإسلام دين يفتح ذراعيه لجميع الأديان، ويسرنا أن ندقق هنا خاصة في علاقة الإسلام والمسيحية والموسوية (اليهودية) لأنّها أشد ما تكون اشتباكاً في هذا العصر المضطرب وذلك لجلاء مواقف هذه الأديان الثلاثة بعضها من بعض وبيان استمداد اليهودية والمسيحية قسطاً لا بأس به في تعاليمها من الإسلام ثمّ تنكر اتباعهما له تنكراً لا يدل على صحة إيمان هؤلاء الاتباع بجوهر ديانتيهم الإلهيتين.   الإسلام والمسيحية والموسوية: هذه الأديان الثلاثة من أرومة واحدة هي الأرومة السامية، وهي جميعاً مرتبطة في تسلسلها بالجد القديم إبراهيم الذي تأمَّل الكون وقلب وجهه في السماء وبحث وفكر فلم ترضه عبادة الأصنام الجامدة المصنوعة، ولا عبادة النجوم المتغيرة الأفلة فتجاوزها جميعاً إلى الإيمان بوجود آله حي متعال واحد. وبهذا الاعتبار يرى المسلمون انّ هذه الأديان في أصولها الروحية بمثابة أخوة، وإن كانت لكلِّ أخ خصائصه المرتبطة بالزمان والمكان واللغة والناس الذين آمنوا به، هذه الخصائص إلى التعاون التتامّ والالتئام أكثر دفعاً منها إلى الافتراق والتشادّ والانفصام والخصام، ويرون انّ الإسلام أحدث هذه الأديان عهداً وأكثرها حفاظاً على أصول التعليم الإلهي (القرآن، الإنجيل، التوراة) وأشدها احتراماً ودعماً للأخوة والقرابة المتسلسلة. هذا وقد نشأ في أحضان كلّ دين بحسب السياق التاريخي والاجتماعي فرقٌ مختلفة بينها فروقٌ كبيرة أو طفيفة حسب مواقف المفكرين ورجال العلم فيها، هذه الأديان بفرقها المختلفة تكاد تكون موحدة. وإذا كان في الأديان نصيب من التعليم الإلهي في رأي بعض المؤمنين فإنّ فيها نصيباً آخر هو من صنع الإنسان واجتهاده، وهذا النصيب الآخر هو أقل ما يكون في الإسلام على رأي المسلمين. لا شك انّ المشرق العربي هو مهد هذه الديانات الثلاث التوحيدية، جاءت الموسوية لإنقاذ بني إسرائيل ولهدايتهم، فهي بهذا الاعتبار ديانة ضيقة، ولما جاءت المسيحية ثمّ الإسلام كانت رسالتهما توحيدية وتأليفية للبنى الاجتماعية المتفرقة كما كانت تقصد إلى حل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية وإلى توجيه شعوب هذه المنطقة وجهة حضارية، أخص صفاتها تبليغ الرسالة إلى الشعوب الأخرى وتحقيق الأخوة العالمية. جاء السيد المسيح فقد كانت دعوته إنسانية، فهمه الحواريون وأيده المستضعفون المساكين وطلاب العدالة في مجتمع قائم على العنف، وقاومه رؤساء الكهنة والفريسيون خوفاً على مصالحهم الخاصة، بل سلَّمه بعضهم للصلب بدلاً من أن يؤمنوا به ويعلو شأنه. ولما أتى الإسلام أخيراً كان من تعاليمه توكيد ما في الموسوية والمسيحية من قيم رفيعة، وكان كلما خاطب الوثنيين من قريش يستشهد بأهل الكتاب وهم اليهود والنصارى ويعلن رجوعه من خلال ديانتيهم المتطورتين إلى ملة إبراهيم الصحيحة، وقد أسلم بعض هؤلاء ممن اتسعت قلوبهم لمزايا الدين الجديد الداعم لقيم دينهم الأصلي، هذا وقد أشاد الإسلام إشادةً كبيرة بالأنبياء الذين جاؤوا قبله ولا سيما موسى الذي عدَّه كليم الله وعيسى الذي اعتبره كلمة الله. وهكذا جرى المسلمون بواقع دينهم ومضمونه ودوافعه على احترام الديانتين اليهودية والمسيحية احتراماً عميقاً كما اضمروا لاتباعهما المودة والإخلاص والحماية (لا مجرد التسامح)، وأعلن رسول الإسلام انّ "من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة"[3] ويدخل في المعاهد أصحاب الديانات الأخرى. وغدا الدين الإسلامي أبعد النحل والمذاهب عن التمييز العنصري والتعصب الديني، جاء في القرآن: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (البقرة/ 256)، كذلك يدعو إلى تعارف أبناء البشرية داعماً تفاهمهم وسعيهم نحو القيم الرفيعة: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات/ 13). وموقف الإسلام من بقية الديانات كموقفه من اليهودية والمسيحية وإن بقي أقرب لهما منه لها (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ) (فاطر/ 24)، هذا إن حافظت تلك الديانات على جوهرها وروحها وأصالتها وابتعدت عن الزيف والتحريف، وقد ورد من أقوال الرسول العربي: "الخلق كلّهم عيال الله فأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله" [هذه رواية الطبراني عن ابن مسعود، وللحديث روايات أخرى]. ولو شئنا أن ننوه بانفتاح الدين الإسلامي للناس جميعاً على وجه العموم وبدعمه للديانتين المسيحية واليهودية خاصة لا تسع الكلام وهو متعارف ومتداول عند المسلمين. وهكذا يستبين مما سلف تسامح الدين الإسلامي وأخوته لجميع الديانات على خلاف ما ينسب إليه المغرضون من التعصب، وهم أولى بهذه الصفة السيئة منه. ثمّ انّ الدين الإسلامي بأصوله المتنوعة، وهي بالترتيب القرآن والسنة والقياس والاجتماع، مرنٌ إلى آخر حدود المرونة، وليس بجامد كما يتهمه المغرضون، ومرونته تزداد بمبدأين آخرين مهمين وهما مبدأ الاجتهاد، وهو في اصطلاح الأصوليين استفراغ الفقيه الوسع لتحصيل ظن بحكم شرعي. وقد نادت به الحركات الاصلاحية المتعددة التي جرت في سياق التاريخ، ثمّ مبدأ المصالح المرسلية، وهي الأوصاف التي تعرف عليتها ولم يشهد لها الشرع بالاعتبار ولا بالإبطال، ولا سيما إذا كانت المصلحة ضرورية قطعية كلية، وهذه أمور داخلة في مباحث أصول الدين الواسعة يرجع الباحث إليها في كتب الأصول. وثمة مزية كبرى في الإسلام تجعل أتباعه مستمسكين به وهي وجود نص الوحي كما تنزلَّ بقرؤونه وينهلون من معينه البليغ فيُروون ظمأهم الروحي في الحين بعد الحين أو يصغون لتلاوته. وهو لي مترجماً ولا منقولاً بالألفاظ غير التي تنزَّل بها ولا محرّفاً بل هو محفوظ بجملته وتفاصيله. وهذه خاصة عظيمة للغة العربية يجدر بمن يهتم بالنبوات والميتافيزيقا ويريد أن يطلع على نص الوحي المحفوظ أن يدرس تلك اللغة دراسة وافية كي يتفهم ذلك النص تلوح من خلال حروفه وألفاظه ومعانيه وأشاراته الألوهة المتعالية. هذا وعندنا أنّ الفكر الديني المعاصر إذا رغب أن يتطور ويتقدم وتتسع آفاقه ويؤتي ثماره لزمه ألّا يبقى عبارة عن ردة فعل أزاء الغرب، وإلّا حاكى اتجاه الغرب في تعصبه، بل عليه اتخاذ المبادرة بإصلاح الإنسان إصلاحاً جذرياً وتقوية عناصره الإيجابية، فلا يتنكر لما يجيء به الغرب الرأسمالي أو الشرق الشيوعي بل يتفاعل به، ويمكن أن يتجاوز بالسلام والتعاون لخير الإنسانية عامة. وقد يرد إلى الفكر سؤال هو: من المؤهلون لتجديد التعبير الصحيح عن الفكر الديني الأصيل والقيام بالإصلاح السليم المنشود؟. لا شك انّ المؤهلين هم علماء الدين أكثر من غيرهم. ولكن القسم الأكبر من علماء الدين الإسلامي في الوقت الحاضر محتاجون أن يتجاوزوا مجرد اطلاعهم على أصول الدين الإسلامي إلى التزود الواسع بالعلوم الإنسانية الحديثة، بل بالعلوم الموضوعية أيضاً لتتسنى لهم صحة النظر في حاضر الأوضاع والتنظيمات العامة الحديثة في مشكلات الحضارة المعترضة. وقد يتم ذلك بالتعاون مع غيرهم في مختلف الأقطار الإسلامية وسواها، لا شك أنّهم أنفسهم أولو ثقافات متفاوتة وقد تلقوا تأثيرات متباينة. ثمّ انّ ارتباط الشعب المتدين بعلمائه الدينيين يختلف شدة وليناً، وليس ثمة ضرورة في أن تكون الأحكام المستجدة واحدة قاطعة في الفروع، لأنّ هنالك مرونة عجيبة في الدين الإسلامي. وقد ورد في بعض الأقوال الدينية أنّ "اختلاف الأئمة رحمة". ومن المناسب أن ننبه إلى وهم خادع عند بعض المستشرقين المغرضين، وهو أنّ الإسلام خليط من بعض المبادئ التي جاءت في المسيحية واليهودية، عمد إلى جمعها رسول الإسلام. هذا القول أبعد ما يكون عن حقيقة الإيمان الذي يجب أن يتحلَّى به المؤمن اليهودي أو المسيحي لأنّه بذلك يتنكر للوحي ولجوهر الدين، كلّ دين. وكذلك هذا القول بعيداً جدّاً عن صحة المعلومات التاريخية وفيه طمس للحقائق. فإذا دققنا في تاريخ الديانات الثلاث، وجدنا الدين الإسلامي يعلن أنّه جاء مصدّقاً لما في التوراة والإنجيل من مبادئ سليمة. وانّه استوعب الدينين استيعاباً علوياً إلهياً. يتبع...

 

الهوامش:


[1]- وقع المستشرق الكبير لويس ماسينيون في خطأ التحريف وكذلك المستشرق بول نويا ثمّ الذين نشروا من المسلمين هذا النص دون أن يهتدوا إلى الصواب الذي اثبتناه فأوردوا أميا مكان أميناً وحرمياً مكان كريماً ومكياً مكان مكينا. ولم ينتبهوا لاقتباس الحلاج بعض ألفاظ القرآن الكريم. ولا وجه لما أوردوه لأنّه من تحصيل الحاصل. [2]- طبعة مصر سنة 1361هـ، ص207.

[3]- أخرجه أحمد والبخاري والنسائي وابن ماجه.

     المصدر: مجلة الغدير/ العدد 12 و13 لسنة 1991م

ارسال التعليق

Top