• ٢٤ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٥ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

المتقين.. خصائص ومميزات/ ج(2)

المتقين.. خصائص ومميزات/ ج(2)
◄المحور الثالث: العلاقات الاجتماعية:

نعني بـ(العلاقات الاجتماعية): ما يلتزمه المتقون من منهج في السلوك الاجتماعي سواء في ما بينهم أنفسهم، أو بينهم وبين أعدائهم أعداء الله سبحانه وتعالى، وهو ما نعبّر عنه بـ(حماية الشريعة). ومن هنا سيكون الحديث في ذلك على قسمين:

القسم الأوّل: سلوكهم مع إخوانهم في الدين:

لا يخفى أنّ بعض ما سوف نذكره لا يختصّ بسلوكهم وكيفيته مع هذا الصنف من الناس، بل يتجاوزه إلى أعدائهم، ذلك أنّ هذه الصفات، كالوفاء بالعهد، والصدق، والإحسان.. تأصّلت فيهم حتى صارت جزءاً لا يتجزّأ من ذواتهم، ولهذا لا يمكن أنّ نتصوّر تطبيقهم إياها على فريق دون فريق، مهما كان أحد الفريقين أقرب إليهم. ويمكن تصنيفها كما يلي:

1-    العدل:

(العدل) من أبرز ما يتّصف به المتقون، وقد ورد الأمر به في آيات عديدة، منها قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى...) (المائدة/ 9). فنجده سبحانه يدعو عباده إلى التزام العدل على نحو العموم، وفي كلّ شيء، ومع جميع الناس، دون أنّ تؤثر عداوة أحد لهم في تطبيق العدالة. ويعقِّب جلّ وعلا أمره ذاك ودعوته تلك بقوله: (وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المائدة/ 8)، دفعاً لما يمكن أنّ يتصوره بعض الجهلة من عدم إحاطة الله وأنّ بإمكانه أنّ يفعل ما يشاء دون أنّ يطّلع عليه أحد بما في ذلك الله سبحانه وتعالى، والعياذ بالله.

2-    كظم الغيظ والعفو عن الناس:

هذه الصفة، أو هاتان الصفتان، ممّا يميز المتقين من غيرهم، فهم لا يمكن أنّ يتأصّل العداء في أنفسهم لأحد، بدرجة لا يمكن معها السماح عنه، والعفو عمّا بدر منه. وهذا لا يعني أنّهم يقبلون كلّ ظلم يقع عليهم، ويعدّونه تقوى إنّ هم سكتوا عنه، كما لا يخفى. إذ يتوجّب على الإنسان الدفاع عن مبدئه ونفسه وماله وعرضه ولو كلفه حياته، وذلك في ما إذا وقع عليه ظلم من شخص آخر، فهاتان الصفتان تخصّان المتقين. قال الله تعالى: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ) (آل عمران/ 134).

3-    الإحسان:

صفة (الإحسان) هذه وردت في القرآن في مواضع عديدة تجاوزت الستة، وكلّها جاءت في سياق مدح هذا الصنف الخاصّ من الناس، بسبب ما يتصفون به من (إحسان).

قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) (النحل/ 128).

وقال: (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا...) (النحل/ 30).

وقال سبحانه: (.. أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ) (الزّمر/ 33-34).

وقال تعالى: (آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ) (الذاريات/ 16).

والإحسان لا ينحصر في صورة واحدة، بل له وجوهٌ عديدةٌ، يهدف كلّ واحد منها إلى إشاعة الخير، وتعميم العدالة الاجتماعية، والارتفاع بالإنسانية إلى مقامها الشامخ.

4-    الوفاء بالعهد:

صفة (الوفاء بالعهد) أيضاً من صفاتهم الحميدة، حيث لا يرون لأنفسهم حقّاً في أنّ ينقضوا ما تعهّدوا به، ولا أنّ يغدروا في معاهدة، إلّا أنّ يكون الطرف الآخر هو المبادِر إلى ذلك، فيكون قد أسقط حقّه في الوفاء بما التزم له به.

وقد ورد ذكر هذه الصفة في ثلاثة عشر موضعاً. وهذه الصفة قد تكون هي الفاصل الحقيقيّ والأدقّ في تمييز المتقي من غيره. وبالطبع، فإنّ هذه الصفة لا يُقتصر في التزامها بين شخص وآخر من سائر الناس، بل تشمل ما يلتزمه المتقي من عهد بينه وبين مولاه عزّ وجلّ.

قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) (الأحقاف/ 13).

والالتزام بما عاهد الله به هو زيادة في التقوى إلى تقواه، قال تعالى: (بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (آل عمران/ 76).

وقال تعالى: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُم) (النحل/91)، فاعتبر جلّ وعلا أنّ عهد المؤمن إنما هو عهد مع الله، فلا ينبغي – إذاً – للإنسان المعاهد أنّ ينقض عهده، فالمتقون (لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) (المؤمنون/ 8).

5-    القول السديد:

يأمر المولى عزّ وجلّ عباده بتقواه وبالقول السديد، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا) (الأحزاب/ 70). وطبيعي أنّ لا يصدر عن غير المتقين إلّا ما يتناسب وروحه التي تحمل بين جنبيها ما يلوّث لسان صاحبها، بخلاف التقيّ صاحب الروح الطاهرة، فلا ينعكس على لسانه إلّا صفاء روحه وهو القول السديد، فكلّ إناء بالذي فيه ينضح.

ويشمل القول السديد كلّ قول أريد به إحقاق الحقّ وإزهاق الباطل، أمرٍ بمعروفٍ، أو نهىيٍ عن منكرٍ، أو نصيحةٍ، أو موعظةٍ.

6-    الكون مع الصادقين:

يراد بعنوان (الكون مع الصادقين) أنّ يلتزم المؤمن (المتقي) معيّة الصادقين الأخيار وصحبتهم والتزام خطّ الصدق والصلاح، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة/ 119).

والكون مع الصادقين إمّا:

أ‌)       أن يكون شيئاً آخر من لوازم التقوى.

ب‌) أو هو مصداق من مصاديقها.

والمتقي دقيقٌ إلى حدٍّ بعيدٍ في تطبيق هذه النقطة بالذات، لأنّ صحبة غير الصادقين قد تضرّ بتقواه، بل يكفي في ذلك ضرراً ألّا يكون مع الصادقين.

7-    إصلاح ذات البين:

(إصلاح ذات البيت) مهمّة يشعر المتقون بضرورة تنفيذها وفي أسرع وقت في ما إذا حدث سوء تفاهم بين مؤمنَيْن أو طائفتين من المؤمنين أو أكثر؛ لأن في طبيعة سوء التفاهم، لو استمر، إخلالاً ببنية المجتمع ونسفاً لأسسه إلى حدّ سلب صفة الإيمان منه.

إذاً، من المهم والضروري أنّ يبادر المتقون إلى رفع مثل هذا الاختلاف حتى يبقى المجتمع متماسك البنية قويّ الأساس.. قال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ قُلِ الأنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ) (الأنفال/ 1).

وقال سبحانه وتعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) (الحجرات/ 10).

وبالطبع، فإنّ وقوع الخلاف وسوء التفاهم لا يرفع الإيمان ممّن وقع بينهم، فكما أشرنا سابقاً فإن تقوى المتقي لا تعني عصمته عن الوقوع في الخطأ والاشتباه؛ فلا منافاة بين أن يكون الشخص مؤمناً وبين أن يقع بينه وبين أخيه المؤمن خلاف. ولسنا بصدد بيان فلسفة ذلك لأنّه يستدعي شرح الإيمان وحقيقته وهو بحث طويل ليس محلّه هنا.

القسم الثاني: علاقة المتقين بأعداء الإسلام (الدور الوظيفي في حماية الشريعة):

التقوى، في المنطق القرآني، ليست شعاراً، كما أنّها ليست مضموناً فردياً، يعود نفعه على المتقي نفسه فحسب، وإلى هذا وذاك فليست التقوى محصورة النفع في دائرة المتقين، بل إنّها تتجاوز ذلك إلى المحافظة على الشريعة التي خلقت فيهم روح التقوى. وتتخذه هذه المحافظة أشكالاً عدّة، نذكر منها ما يلي:

1-    المتقون والإنفاق في سبيل الله:

هذه الصفة، وإن كان أعمّ من هذا القسم، إذ تشمل أيضاً القسمين الأوّل والثاني.. فقد رأينا من الأنسب وضعها هنا، لأنّ أبرز مصاديق الإنفاق وأعلاها، هو الإنفاق في ما يحمي الشريعة من جهاد في سبيل الله بسلصيف أو بالقلم... وقد يطلق عليه الجهاد بالمال. كما في قوله تعالى: (لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) (التوبة/ 44).

وقد ورد الحديث عن الإنفاق في قوله تعالى: (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (البقرة/ 3)، وقوله تعالى: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) (آل عمران/ 134)، وقوله تعالى: (وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) (الذاريات/ 19)، (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا) (الإنسان/ 8)، وقوله تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى) (الليل/ 5)، وغير ذلك من الآيات التي تحثّ على الإنفاق في سبيل الله بإعطاء المحتاجين، والجهاد بالمال في سبيل حفظ الدعوة الإلهية.

ويؤكّد سبحانه في بعض الآيات أنّ إنفاق الناس أموالهم إنما هو إنفاق لما هو مودع عندهم كـ(أمانة)، لأنّ الإنسان ليس هو المالك، بل إنّ المالك الحقيقي هو الله سبحانه، ومع ذلك يثيب الله، كرماً منه، عباده، وكأنّ الإنسان أنفق من خالص ماله. قال تعالى: (آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) (الحديد/ 7).

الإنفاق، بعدُ، على وجه الخصوص بحاجة إلى بحثٍ مستفيضٍ.

2-    الجهاد في سبيل الله:

(الجهاد في سبيل الله) سمة من أبرز خصائص المتقين الحقيقيّين، إذ بالجهاد وحده ترتفع راية الإسلام ويندحر أعداء الله، فهو قوام الدين ودرع المسلمين، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (المائدة/ 3).

ولـ(الجهاد) مقوّمات أساسية بدونها يتعذّر الجهاد، وأهمّ تلك المقومات:

1-    الطاعة لله ولولي الأمر من قِبَله. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ) (النساء/ 59).

2-    الصبر في البأساء والضرّاء. قال تعالى: (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (البقرة/ 177).

3-    التوكل على الله. قال سبحانه وتعالى: (إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (آل عمران/ 122).

4-    الغلظة على الكافرين. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (التوبة/ 123).

5-    الرحمة بين المؤمنين. قال تعالى: (مُحمَّدٌ رَّسُول اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) (الفتح/ 29).►

 

المصدر: كتاب التقوى والمتقون في القرآن الكريم

ارسال التعليق

Top