• ٢٤ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٥ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

«تعليم الحياة» ممكن

«تعليم الحياة» ممكن
 كثيرون منّا يحتفظون بذكريات حية، من الساعة والمكان اللذين كشف لنا فيهما بعض الكبار حقيقة بسيطة بصورة مثيرة تفيض حياة التصقت في أذهاننا، وبدأ منذ ذلك الحين شيء ما يدق في أعماقنا ولم يتوقف بعد ذلك قط.

وعندما كنت صغيرة، كنت إذا تشاجرت مع إخوتي أو زميلاتي في اللعب، أحاطتني عمة عجوز بذراعيها قرب المساء وقالت لي: لا تدعي الشمس تغيب قط على سخطك يا عزيزتي. وكنّا نقف حيث تستطيع أن نرقب الشمس الغاربة، وعيناها الحلوتان تبتسمان لي، وعندئذ أحس أنّ شيئاً بارداً وجامداً يذوب في أعماقي، فأهرع لمصالحة من تشاجرت معهم.. وما زلت حتى هذه الساعة أحرص على أن أزيل كلّ ظل لسوء تفاهم أو أذى قبل أن تغرب الشمس ويظلم النهار إلى الأبد.

وهناك رجل من معارفي – يعد من عمد القوّة والشجاعة لأسرته وأصدقائه وشركائه في العمل – أفضى لي أخيراً بسره.. قال: إنّه عندما كان طفلاً صغيراً جدّاً، علمته أمه أن يبتسم لنفسه في المرأة كلما أصابته الحياة بصدمة أو كدمة.. قال: وكلما حدث شيء أصابني بأذى في البدن أو القلب أو الذهن، كانت أُمّي تمسك بي أمام المرآة، وتقف خلفي وهي تسخر من ملامح الألم والدموع التي تبدو في وجهي حتى اضطر إلى الضحك، ثمّ تقول لي: حسناً.. لقد ذهب هذا الأذى؛ وتتركني، فانطلق لأواصل لهوي.

وعندما كبرت وجدت أنني اكتسبت عادة المرآة، مجازاً وحقيقة، وإذ كنت غلاماً يملأ النمش وجهي، فقد كنت أهرع إلى غرفتي وابتسم لنفسي أمام المرآة، لأمحو بعض الأذى أو خيبة الأمل.. وعندئذ لا يستطيع المرء أن يأخذ متاعبه بصورة جدية إلى حد كبير؛ بل يبدو مكتئباً بصورة تثير الضحك.. وهكذا فإنّ بَسْمَتَكَ تزداد عمقاً حتى تصل إلى روحك، فيزول ما تشعرين به من أذى.

وقد ذهب شاب منذ وقت قريب إلى إحدى الحدائق في مدينة كبرى، وقال لمراقبها: أنت لا تذكرني؛ ولكنني كنت من أبناء هذه المنطقة الذين اعتادوا اللعب هنا عندما كنت أنت مساعداً صغيراً.. وحدث يوماً أنك جلست في الظل تحدثني عن التقدم في الحياة، فأشرت إلى دودة بنية اللون كانت تزحف من الحشائش في طريقها إلى جذع شجرة، وقلت لي: لقد بدأت هذه الدودة من مكان ما، وهي تحنى جسمها انحناءة بعد أخرى، خطوة خطوة وسوف تصل إلى قمة هذه الشجرة.

وقد أثر ذلك في نفسي.. كان هناك شيء ما لم أستطع إدراكه.. وهكذا رحت أتقدم خطوة خطوة حتى اجتزت دراستي بنجاح، وفي الأسبوع الماضي قُبِلت في نقابة المحامين.

وعندما كنت طفلة صغيرة، كان إخوتي الصبيان مكلفين بتشذيب الحشائش وانتزاع الأعشاب من حديقة الخضراوات التي نزرعها، وكانوا يكرهون هذا العمل بطبيعة الحال ويؤجلونه أطول فترة مستطاعة، وكانوا يضطرون عادة إلى قضاء أيام السبت الثمينة في أداء هذا العمل.. وحدث أن جاء أحد أعمامنا لزيارتنا، وراح يتجول في الحديقة، وهناك رأى إخوتي يؤدون العمل في عبوس وتجهم.

وسألهم عمي: هل تعرفون يا أبنائي لماذا تنتزعون هذه الأعشاب؟

لأنها لصوص تسرق الغذاء الذي يخص الخضراوات.. هل تعلمون كيف تستطيعون انتزاع أكبر كمية منها ويظل لديكم وقت كثير للعب!

قسّم الحديقة إلى (6) مزارع صغيرة، ورسم (6) قطع على الأرض بعصاه، ثمّ قال: ليعمل كلّ واحد منكم على تطهير مزرعة واحدة صغيرة فقط بعد الظهر مرة واحدة كلّ أسبوعين، وهكذا لن يستغرق وقتاً طويلاً، وستكونون أحراراً في أيام السبت والآحاد.. فضلاً عن أنّ الحديقة ستصبح نظيفة جدّاً إلى حد يجعلكم تفخرون بها.

وأصبحت الحديقة رائعة جدّاً بقية الصيف، تعجب الأولاد: لماذا كان انتزاع الحشائش متعباً إلى هذا الحد من قبل!.

وكلما سمعت أناساً يرددون كالببغاء قولهم: ليس هناك من يستطيع أن يفهم الشباب كيف يعيشون حياتهم، بل لابدّ من أن يتعلموا من التجربة.

كلما سمعت هذا القول، فكرت في عمي الواعي وحكاية الأعشاب.. وهذا القول القديم ليس صحيحاً، فإنّ من المستطاع تعليم الأطفال دروساً تقدر بثمن في فن الحياة بطريقة حاسمة كما نعلمهم الحساب، وقد علَّم عمي الأولاد ثلاثة دروس في كيفية عمل شاق، وقد ظلت هذه الدروس معهم طوال حياتهم.. وهي:

1-  ارسم صورة للسبب الذي يدفعك إلى عمل شيء ما، وضعها أمام عينيك.

2-  تصور هذا العمل بعد أن يتم.

3-  قسّم العمل إلى أجزاء يمكن إنجازها بسهولة، ثمّ أنجز كلاً منها على حدة.

وما زلت أذكر أيضاً رجلاً حكيماً آخر والطرق التي كان يستخدمها مع الصغار.. فإنّ تعليم الأطفال قيمة المال في بيت مريح من أصعب الأمور، ولهذا كان هذا الرجل يحتفظ دائماً بما يوازي خمسة جنيهات من الملاليم الجميلة اللامعة في كوم مهيب المنظر.. وعندما كان أطفاله صغاراً، كان إذا تلهف أحدهم على الحصول على لعبة ما، سأله الأب: كم تساوي هذه اللعبة؟.. وبعد العشاء يقوم مع أطفاله بإحصاء ثمن اللعبة من الملاليم فوق غطاء المائدة الأبيض، ويضعها في كوم كبير ثمّ يسأل الطفل مرّة أخرى:

هل تريد حقاً هذه اللعبة التي تساوي كلّ هذا المبلغ؟

فإذا قال الطفل: نعم؛ فقد كان يحصل على لعبته في العادة.. ولكن العجيب أنّ الطفل كان في أغلب الأحوال يقرر أنّ اللعبة لا تساوي هذا الكم الكبير من النقود.

وعندما كبر الأطفال، كانوا إذا أرادوا أشياء أغلى ثمناً، كالدراجات أو آلات التصوير السينمائية، كان الأب يسحب من البنك ثمن هذا الشيء أوراقاً من فئة الدولار، وينثرها فوق المائدة ثمّ يسأل الابن؟

هل تريدها إلى هذا الحد؟

ولم يحدث قط أن ارتكب أحد هؤلاء الأطفال الغلطة التي ارتكبها "بن فرنكلين" عندما دفع مبلغاً ضخماً لشراء صفارة!

وأعرف كذلك أباً وأُمّاً اعتادا أن يقولا لأطفالهما الصغار: إنّ الكثير من النجارين يسحقون إبهامهم وهم يتعلمون الطريقة الصحيحة لاستخدام المطرقة، والكثير من الجزارين قطعوا أصابعهم وهم يتعلمون أسلم الطرق لاستخدام السكين؛ ألا يكون من الحماقة أن نؤذي أنفسنا عندما نحاول تعلم شيء عرفوه هم فعلاً.

ويقال للأطفال: إنّ الأذكياء لا يرتكبون أخطاء ارتكبها من قبل أشخاص آخرون، وتوضح لهم دروس في كيفية استخدام المقص، وإشعال الثقاب، وكيف توضع الأطباق فوق الموقد، وقد أعدت لهم بطاقات خاصة بهذه الدروس المنزلية، بحيث يفوز بنجمة ذهبية كلّ من يمضي شهراً بلا جروح لنفسه أو لغيره..

وهناك حيل صغيرة يمكن أن تعلم دروساً كبيرة للأطفال.. فالسيطرة على النفس، والمثابرة من أكبر الفضائل البشرية، وإني أعرف أُمّاً تعلم أطفالها هاتين الفضيلتين بنجاح بوساطة جهاز توقيت سلق البيض، فكلما تشاجر الأطفال أو تمردوا، جعلتهم يقفون أمام الجهاز منتظرين إلى أن يسقط كلّ الرمل من الوسط، وفي ذلك الوقت تكون الأعصاب قد هدأت، وأصبحت عادة ضبط النفس أكثر رسوخاً، كما تعلم الأطفال أنّ اللعب أكثر متعة من التنازع.

وبعض الدروس التي لا تنسى، تنبثق من حادث صورة شخص بالغ مدر بطريقة مثيرة.. وإني أعرف امرأة من العلماء، تنسب الفضل في عادة استقلالها في التفكير إلى جولة قامت بها مع أبيها في الغابة، فقد ظلت تنهال عليه بأسئلة تافهة، وفجأة توقف أبوها، وضرب إحدى الأشجار بعصاه بقوة، وصاح في لهجة جادة: لا تسألي قط سؤالاً إلا بعد أن تحاولي بذل كلّ ما في وُسعك للإجابة عليه بنفسك، ادخري نقودك واشتري منظاراً مكبراً لتري بنفسك ما شكل فم النملة.

وصدمتها فظاظة أبيها غير المعهودة، ولكنها فعلت ما طلب منها تماماً، فقادها ذلك إلى حياة علمية بارزة.

إنّ تعليم الأطفال كيف يواجهون الحياة أمر يتطلب كلّ ما لدينا من ذكاء وحكمة وصبر.. وكثيراً جدّاً ما نتقاعس عن أداء هذه المهمة؛ ولكنه استثمار عظيم؛ بل لعله أفضل ما يمكننا عمله..

 

المصدر: كتاب تمتع بالحياة/ ستون طريقة لجعل حياتك أفضل

ارسال التعليق

Top