• ٢٠ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١١ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

العقل العربي وسط إعصار المعلومات

العقل العربي وسط إعصار المعلومات
لقد وضعت وفرة المعلومات العقل العربي في مأزق وسلبته حجته الأثيرة بأن سبب تقاعسه هو نقص المعلومات. ما الذي ستفعله الإنترنت ببشر هذا العصر بعد أن أطلقت هذه الشبكة الفريدة إعصار المعلومات من قمقمه، هل سيعصف هذا الإعصار بعقل الإنسان وقد أصيب بتخمة المعلومات لينسحق منهزماً أمامها، يكتفي منها بالقشور والمرور العابر، أو يلوذ بقوقعة تخصصه، أو يلعن القطائع المعرفية على كل ما يصعب عليه أن يستوعبه، هل سيستكين أم سيتصدى هذا العقل الوثاب لهذا التحدي الجديد مجدداً معارفه ومهاراته وأدواته يروض بها مارد المعلومات الذي انطلق من عقاله؟. لقد كانت المشكلة في الماضي هي ندرة المعلومات أو الشح المعلوماتي Under – information، أو حمل المعلومات الزائد كما يطلق عليه البعض، وهي مشكلة لا تقل صعوبة عن سابقتها إن لم تكن أكثر منها حدة وإثارة، إنّ المعلومات تتضاعف بمعدل هندسي حيث تنتج البشرية حالياً من المعلومات والمعارف في سنوات قلائل قدراً يفوق ما كانت تنتجه سابقاً في قرون، ونكتفي هنا ببعض أرقام عن إحصائيات النشر في المجتمع الأمريكي (2009) دلالة على هذا الانفجار المعلوماتي: 45000 كتاب سنوياً. 1500 جريدة يومية. 3700 مجلة متخصصة. 250 مجلة للمهندسين. هذا عن الإنتاج السنوي، أما عن الكمّ المتراكم، فندعو القارئ لزيارة موقع مكتبة الكونجرس على الإنترنت ليدرك بنفسه مدى حجم المعلومات التي يكتنزها هذا المستودع المعرفي الضخم، ورغم ضخامته تلك، فما هو إلا مجرد قطرة من محيط المعلومات التي تموج بداخل هذا الماموث الشبكي الجديد، ونقصد به "الإنترنت"، شبكة الشبكات، أو الشبكة الأُم التي تغرينا بشدة لخوض بحارها، فهل لنا من عاص اليوم ينجينا من فيضاناتها؟ فهل يمكن لعجينة العقل الرمادية أن تحيل هذه المعلومات إلى معرفة حقيقية، وأن تقطر هذه المعرفة وتسمو بها إلى مستوى الحكمة ذات البصيرة النافذة؟!!، هل يمكن لك ذلك، أم أنك أيها العقل ستظل مكبّلاً بقيود من مواردك العضوية وبنيتك التشريحية وأدواتك المعرفية وقدراتك الوظيفية؟!!، وقبل أن تتسرّع في الإجابة، دعنا نحدد الفروق بين رباعية "البيانات والمعلومات والمعارف الحكمة"، تلك الرباعية الأخاذة التي هي غذاؤك ورحيقك، ملهاتك ومأساتك، والتي ستبقى دوماً مناهل ابتكاريتك ومصادر إشكالياتك وما تواجه من إشكاليات، إنها رباعية الفكر التي تشابهت على الكثيرين فاختزلوها تحت مصطلح واحد، مصطلح المعلومات، ليطمسوا بذلك تفاصيل الرحلة المثيرة والدائمة التي تقوم بها آليات الذهن البشري متنقلة ما بين معالم تلك الرباعية الرمزية الجامعية.   - موقف العقل العربي: تتفق الآراء على أنّ العقل العربي يواجه حالياً معركة مصيرية على جميع الجبهات: تنظيراً وإبداعاً وتعليماً وإعلاماً، وحتما لا يمكن له مواجهة إعصار معلومات الإنترنت بعدته المعرفية التي عفى عليها الزمن، ولا بما في حوزته حالياً من الأدوات العملية لمعالجة المعلومات التي لم تتطور بعد تلبية لمطالب عصرالمعلومات، وليس لدى الكاتب أجندة محددة يطرحها في هذا الصدد، فهذا أمر يحتاج بالحتم إلى جهد فريق متكامل قادر على تناول الجوانب المختلفة لهذه القضية المتشعّبة: الثقافية والتربوية والنفسية والإعلامية والتكنولوجية، بل والسياسية والأمنية أيضاً، وسنكتفي هنا بتحديد أولي لبعض المطالب الأساسية للتصدي للظاهرة على مستوى إرسال المعلومات واستقبالها (أو دفع المعلومات PUSH أو سحبها PULL باستخدام لغة الإنترنت)، ونقصد بإرسال المعلومات، أو دفعها: العمليات الخاصة بنشرها وبثها إلكترونياً، ونقصد باستقبال المعلومات، أو سحبها عمليات استرجاعها وتوظيفها وإعادة استخدامها. أوّلاً: مطالب الإرسال أو دفع المعلومات: لابدّ أن تتوافر في المعلومات المزمع نشرها أو بثّها من خلال الإنترنت مقومات أساسية عدة كي يحوز النص أو الوثيقة صلاحية السريان عبر الشبكة networthy مثلها في ذلك مثل حيازة الطائرة لصلاحية الطيران airworthy وحيازة السفينة لجدارة الإبحار seaworthy، إن لم تتوافر هذه المقومات فيما يرسل من المعلومات فمآلها في النهاية إلى صناديق القمامة، وما أكثرها في الإنترنت، وهو أمر منطقي يتسق وظاهرة الإفراط في المعلومات التي نمت معها نزعة إهلاك المعلومات، بينما ضمرت نزعة الاحتفاظ بها. إنّ كل من يستعرض الوثائق التي تنشرها مواقعنا العربية على الإنترنت سواء باللغة العربية أو باللغات الأجنبية، سيدرك على الفور كم تعوزها الشروط الأساسية التي يجب أن تتوافر في الوثيقة الإلكترونية، وبالتالي في كيفية تأليفها وإخراجها، ويمكن تلخيص هذه الشروط في "القابليات" الأربع التالية: قابلية القراءة (المقروئية)، وقابلية البحث، وقابلية الاختزال، وقابلية الربط أو التناص. أ- قابلية القراءة (المقروئية): تتجاوز قابلية القراءة، أو المقروئية، أساسيات فصاحة اللفظ وبلاغة المعنى واستساغة المصطلح، إنّ هذه القابلية تتوقف في المقام الأوّل على معمار الوثيقة العام ومدى تماسكها اللغوي والمنطقي، ولاشك في أنّه تنقصنا الدراسات الجادّة في تحليل بنية النصوص العربية وأساليب كتابتها، وهو الأمر الذي يحتاج إلى بناء قواعد ذخائر النصوص Textual data Bases، وتوفير أدوات برمجية لتحليل النصوص صرفياً ومعجمياً ونحوياً تمهيداً لكشف مضمونها وإبراز هيكليتها العامة، فما أندرها تلك الدراسات الحديثة التي تتناول أنماط الوثائق ووسائل الربط بين الجمل والفقرات. على صعيد آخر، لابدّ أن نولي نظم تعليمنا اهتماماً أكبر بتكنيك الكتابة وتنظيم الأفكار، فمازال الأمر مقصوراً على تلقين الطلبة مهارات "الإنشاء" التي يسودها طابع الخطابة واللفظية دون البناء والمضمون. إنّ الوثيقة الإلكترونية لابدّ أن تحمل معها عدة قراءتها لخدمة القراء على اختلاف مستوياتهم وغاياتهم، ولا يتأتى ذلك إلا بتضافر التأليف والإخراج بحيث تبرز الوثيقة نقاطها الحاكمة، وتعين القارئ في تتبع مسارات تشعبها من خلال ما يطلق عليه حالياً روابط التشعب النصي Hypertext links. ب- قابلية البحث: كما هو معروف يتم البحث في مضمون الوثائق الإلكترونية المتوافرة على الشبكة إما باستخدام الكلمات المفتاحية Keyword Search التي يحددها واضع الوثيقة للدلالة على مضمونها (فعلى سبيل المثال، يمكن أن نبحث مضمون هذه المقالة من خلال مداخل عدة باستخدام الكلمات المفتاحية التالية: الإنترنت – النشر الإلكتروني – التناص – أزمة الفكر العربي – المهارات الذهنية)، وإما عن طريق البحث المباشر داخل متن النص نفسه Text Search (كأن نبحث عن كلمة أو عدة كلمات داخل النص، مثال من هذه الوثيقة: حمل المعلومات الزائد)، وكلتا طريقتي البحث تحتاج من ناشري النصوص العربية على الشبكة إلى مطالب أساسية عدة، من أهمها الأدوات البرمجية للفهرسة الآلية لاستخلاص الكلمات المفتاحية حيث يصعب الاعتماد على القوى البشرية في هذا الصدد أمام ظاهرة الإفراط المعلوماتي التي تواجهها، وتكفي الإشارة هنا إلى أنّ الكتب العربية دون استثناء ليس بها فهارس كتلك التي ترد في نهاية الكتب الأجنبية، ومازال البعض منا يخلط بينها وبين قائمة المحتويات التي ترد عادة في بداية الكتاب، وهو الأمر الذي يجعل القارئ رهين الخطية أو التسلسل السردي الذي فرضه عليه المؤلف حيث يتعذّر عليه اقتفاء مفهوم أو مصطلح معين عبر الكتاب على اتساعه، في حين يكفي القارئ للكتاب الأجنبي الرجوع إلى الفهرس لمعرفة أرقام الصفحات التي ورد بها المفهوم أو المصطلح الذي ينشده. لقد واجهت الفهرسة الآلية العربية مشاكل عدة: فنية ولغوية، إلا أنّه قد تم تذليل معظم هذه المشاكل ولا حجة لنا أن تبقى نصوصنا منغلقة على نفسها دون مفاتيح تكشف عن مضمونها، إنّ هذه الأداة الأساسية التي تبدو بسيطة في ظاهرها هي وسيلة القارئ كي يرى المفهوم نفسه، أو المعنى أو المصطلح في سياقات مختلفة مما يعينه على مزيد من الاستيعاب، ويطلق لعقله العنان كي يتمثل الأمور بصورة أشمل وأعمق. ج- قابلية الاختزال: لابدّ للنصوص الإلكترونية أن تكون قابلة للاختزال حتى يمكن استخلاص أفكارها المحورية، وتسهل عمليات أرشفتها ودمجها مع غيرها، وبالطبع، تتوقف قابلية الاختزال في المقام الأوّل على قدرة مؤلف النص في أن يجمع بين التركيز والوضوح، وهي، بلا شك، مهمة عسيرة، ألم يقل قائل: "لو كان لديّ وقت أطول لكتبت بطريقة أقصر"، مرة أخرى تنزع الكتابة العربية الحديثة نحو الإطالة، ويتجنى البعض أحياناً، فيعزون تلك النزعة إلى طبيعة لغتنا العربية، فكما تغري سلاسة العربية وإيقاعها بالإطلالة، فهي في ذات الوقت توفر العديد من وسائل الإيجاز نظراً لتراثها الصرفي والمعجمي ومرونة نحوها، وما يسمح به من آليات الحذف والتقدير. كما يعرف الجميع، فالكتابة المركزة تحتاج إلى وضوح الفكر في المقام الأوّل، وقدرة الكاتب على التجريد والتعميم والتفرقة بين الأصل والفرع والحقائق والآراء، علاوة على توافر المصطلح واستقراره لإعفاء الكاتب من الدخول في دوامة التعريفات. مرة أخرى، تحتاج اختزالية النصوص العربية إلى نظم برمجية للاستخلاص والتلخيص الآلي Automatic abstracting، وهي أمور تحتاج منا إلى العديد من البحوث في مجالات اللسانيات النظرية، ونظرية المعنى، ونظرية الأدب، والإحصاء اللغوي، وذلك على سبيل المثال لا الحصر. د- قابلية الربط أو التناص: النصوص التي يتم بثها عبر الإنترنت لابدّ أن تظل حرة طليقة غير منغلقة على نفسها، قادرة على أن تقيم روابط الصلة مع غيرها من الوثائق من خلال ما يعرف بعلاقات "التناص Intertextuality". إنّ الوثائق مقطوعة الصلة بغيرها هي كالطرق المسدودة أو المياه الراكدة تضيع أدراج الرياح وسط أمواج المعلومات الهادرة السارية عبر الشبكة، وربما يفيد هنا مثال مبسط من نصوص تراثنا الديني لإبراز ما نعنيه بالتناص، هذا المفهوم الأساسي للبحث عن الوثائق داخل الإنترنت، فيمكن لنص آية قرآنية معينة أن يتناص مع مجموعة من الأحاديث النبوية التي تتناول المعنى نفسه، والتي يمكن أن تحيلنا بدورها إلى مجموعة من الشروح عادة ما تتشعب هي الأخرى إلى نصوص فلسفية قديمة وحديثة عدة تقودنا بدورها إلى بعض النصوص التاريخية أو الصور وأفلام الفيديو التي تعرض ظاهرة علمية ذات صلة بمسار البحث. ما قلناه هنا يتناول المستوى الأوّل للتناص القائم على العلاقات السافرة ما بين النصوص، ولكن هناك مستويات أعمق له كما نلحظه في تناص أدب ماريكز وجيمس جويس ونجيب محفوظ مع الأساطير الإغريقية والفرعونية القديمة، وتناص فن بيكاسو مع رموز القبائل الإفريقية والرسوم اليابانية وهلم جرا. غني عن القول إنّ الفهرسة الآلية التي سبق الإشارة إليها، تعد من المقومات الأساسية التي يستند إليها التناص، فهي – أي الفهرسة – التي تكشف عن الأفكار المحورية للوثيقة بدلالة عدد قليل من الكلمات المفتاحية التي يمكن أن تتشعّب من خلالها الوثيقة إلى الكلمات المفتاحية للوثائق الأخرى التي يمكن أن ترتبط بها. والتناص بحكم طبيعته، لا يعرف حدوداً، فهو يعبر الحواجز الفاصلة بين فصائل المعرفة المختلفة، فكما يمكن أن تتناص وثيقة في علم الوراثة مع وثيقة في علم اللغة، يمكنها أيضاً أن ترتبط بعلاقة ما مع وثيقة ذات طابع سياسي أو اقتصادي أو تاريخي، والأمر كذلك كيف لنصوصنا العربية أن تتناص مع غيرها ونحن مازلنا أسرى التخصص الضيق مشتتين بين ثقافة الإنسانيات وثقافة الطبيعيات، وبين فكر المشرق وفكر المغرب، ناهيك عن التماريس، بل السدود، المعرفية التي تقيمها بعض مدارس الفكر العربية في وجه الفكر المناهض لها؟ إنّ ثقافة الإنترنت تفرض علينا أن ننظر بصورة أشمل لخريطة الفكر الإنساني، وأن ندرك مغزى انهيار الحواجز التي كانت تفصل فيما مضى بين فروع المعرفة المختلفة واحداً وراء الآخر. لقد سردنا فيما سبق مجموعة من الوسائل والمقترحات فيما يخص شق الإرسال المعلوماتي، ولكن سيظل السؤال المحوري هو: كيف يولد العقل العربي معرفة جديدة؟ وكيف يستعيد هذا العقل عافيته مستغلاً موارد المعلومات التي توفرها الإنترنت من أجل أن يستكمل عدته المعرفية، أو يتخلص من عاهاته الفكرية وانحيازاته الأيديولوجية؟ يتوقف نجاحنا في ذلك على الكيفية التي "يستقبل" بها هذا العقل اجديد المعلومات والمعارف، وهو موضوع فقرتنا التالية: ثانياً: على صعيد استقبال المعلومات (أو سحبها): لسنا بحاجة إلى أن نؤكد أن شق الاستقبال في إشكالية الإفراط المعلوماتي هو أكثر صعوبة سواء من الناحية النظرية أو العملية، وهو، بلاشك، أكثر أهمية لكوننا حالياً مستهلكين للمعرفة أكثر من كوننا منتجين لها، إن استقبال المعلومات من خلال الإنترنت أبعد ما يكون عن طابع التلقي السلبي، فهو عملية تفاعلية تحتاج إلى تدريب وممارسة ومتابعة، ونحيل القارئ المهتم هنا إلى كمّ البحوث الهائل عن النواحي الفنية والتربوية والنفسية التي تسعى لإلقاء الضوء على ثالوث "استقبال المعلومات"، ونقصد به: مهارات البحث، وقدرة الاستيعاب، وتوظيف المعرفة، وسنتناول كلا منها هنا بإيجاز شديد. أ- مهارات البحث: كيف يهتدي الباحث إلى ضالته، ويلتقطها من هذا الكم الهائل من المعلومات؟، وهي العملية التي شبّهها البعض بمن يبحث عن إبرة في كوم من القش، مرة أخرى، لم تعد المشكلة هي في تخزين المعلومات، بل في كيفية البحث عنها، وهو ما يفسر لماذا تعتبر الشركات التي تقدم خدمات الأدلة والبحث Directory & Search Services من أهم شركات الإنترنت وأنجحها حالياً. إنّ البحث داخل النصوص يتطلب وسائل لغوية ومعجمية عدة لكي ننفذ إلى جوهر مضمونها بواسطة مداخل من رؤوس الموضوعات المرتبة في سليمات شجرية تقسم الأصل إلى فروع والفروع إلى "فريعات" انتهاء بالأوراق، وكمثال مبسّط على ذلك يمكن تقسيم علم اللغة (الأصل) إلى فروع الصوتيات والصرف والنحو والدلالة، ثمّ يقسم فرع الصرف إلى فريع الاشتقاق وفريع التصريف ليوزع بعد ذلك فريع الاشتقاق أوراقاً بين الاشتقاق الأكبر، والاشتقاق الأصغر، والاشتقاق العكسي وهلم جرا. المشكلة أن سلميات رؤوس الموضوعات تلك قد تم وضعها وفقا لمعايير الفكر الغربي سواء من حيث رؤيته الفكرية أو اهتماماته العملية، وهو ما يحتاج من الباحثين العرب إلى مزيد من الجهد لإضفاء الصبغة العربية على هذه الموارد المعلوماتية الأساسية. علاوة على ذلك، يحتاج البحث داخل النصوص العربية إلى آليات بحث متطورة تتجاوز القرات المحدودة للبحث في دلالة الكلمات المفتاحية التي سبقت الإشارة إليها، تقوم هذه الآليات على وسائل برمجية لفهم (أو تحليل مضمون) النصوص آلياً وهو ما يحتاج بدوره إلى دعم لغوي سواء على مستوى اللغويات النظرية والتطبيقية أو على مستوى المعجم. مرّة أخرى، إنّ فاعلية البحث في الإنترنت تتوقف على خلفية الباحث من المعلومات والمعارف، فهي بوصلته التي تهديه مبحراً في محيطات المعلومات ومنها يستقي مداخله التي تفتح أمامه أبواب المعرفة الموصدة. بقول آخر، كما تختلف قراءة الكتاب وفقاً لخلفية القارئ تختلف عملية البحث داخل الإنترنت وفقاً لخلفية ملامحها. ب- قدرة الاستيعاب: تبدأ عملية استيعاب النص بقراءته ثمّ تحليله ثمّ التخلاص مفاهيمه المحورية، ولزيادة طاقة الاستيعاب لابدّ من تنمية مهارات القراءة على مستوياتها المختلفة والتي اصطلح ترتيبها تصاعدياً على الوجه التالي: - القراءة العابرة (Skimming) - القراءة الانتقائية (Skipping) - القراءة العادية (Normal) - القراءة المتعمقة (In-depth) إنّ علينا أن نحسن استغلالنا لمواردنا الذهنية، واستخدامنا لحواسنا بأن نعطي كل نص ما يستحقه من مستوى القراءة وفقاً لطبيعته، والغرض من قراءته، ولاشك في أن قراءة النصوص العربية مازالت تحتاج إلى الكثير من البحوث في مجال علم النفس اللغوي والتربوي حتى تتضح لنا الأسرار الخفية لهذه العملية الذهنية الأساسية التي اعتدنا أن نأخذها كقضية مسلمة، ولم يعد مقبولاً أن نظل مخدوعين بمقولات أخّاذة من قبيل: "إن النص العربي يفهم ليقرأ" فما أبعدها تلك المقولة عن الصحة العلمية والمنطقية! ترتبط عملية القراءة ارتباطاً وثيقاً بآلية الترشيح المعلوماتي للتفريق بين الغث والسمين، فما أكثر المعلومات التافهة، بل والضارة خلال الإنترنت! هذا فيما يخص شق القراءة وأجهزة الاستقبال، أما عمليات تحليل النص، فتحتاج إلى مهارات ذهنية عدة من أهمها عمليات الاستنباط والاستقراء والتحليل بالتركيب، والتركيب بالتحليل وما شابه، وكلها أمور تحتاج إلى إلمام كاف بنظرية المعرفة وأساليب تحليل النظم والتجريد الرياضي والإحصائي، والمنطق الحديث، ونظريات اللغة. إن على الإنسان العربي أن يعي مسؤوليته تجاه تنمية عقله، أهم موارده لمواجهة حمل المعلومات الزائد، فنجاحه في حياته عموماً متوقف على نجاحه في إدارة هذه الموارد الفسيولوجية المحدودة وترشيد استخدامها. ج- توظيف المعرفة: وننهي حديثنا عن عمليات استقبال الذهن البشري للمعلومات والمعارف بأكثر وظائفه صعوبة، ونعني بذلك كيف نوظف هذه المعلومات والمعارف، وهي الخطوة التي إن غابت أصبح كل ما سبقها هدراً. وأس الداء في فكرنا العربي يكمن – في رأيي – في عدم اكتمال دورته المعرفية، فكثير من علمائنا يكتفون باكتساب المعرفة دون توظيفها، أما ذوو المهن منا فينافقون العلم ونظم المعلومات الحديثة دون عزئمة صادقة في تطبيقها. إننا نعيش في عصر اقتصاد المعرفة ويعني ذلك أنّ العلم هو ممارسة العلم، والثقافة هي سلوك الثقافة، والمعرفة هي تطبيقها عملياً في حل إشكاليات قائمة أو استحداث أخرى جديدة. يتطلب توظيف المعرفة تنمية قدرات العقل العربي في التعامل مع الظواهر المعقدة، والمنظومات ذات الجوانب المتعددة، وفي أساليب حل المسائل، واستغلال نظم المعلومات، وجميعها ملكات ذهنية قد ضمرت للغاية لدى معظمنا بفعل تعليم يسوده طابع التلقين السلبي يحيل عقول التلاميذ إلى أوان تملأ حشواً ولغواً سرعان ما تفرغ، وإعلام يسوده طابع التضليل السلبي يحيل المواطنين إلى مجرد مشاهدين، وقد انتزعت منهم رغبة المشاركة، بل مجرد المساءلة، بجانب هذه القدرات الذهنية يحتاج توظيف المعرفة إلى بنى تحتية كنظم الأرشفة والتبويب وإعادة الصياغة وما شابه، وفوق هذا وذاك بيئة اجتماعية تحتفي بالمعرفة وأصحابها.   * متخصص في البرمجيات العربية للكمبيوتر

ارسال التعليق

Top