• ٣ تشرين أول/أكتوبر ٢٠٢٤ | ٣٠ ربيع الأول ١٤٤٦ هـ
البلاغ

نحن ونعمة التفاؤل

نحن ونعمة التفاؤل

يقول ونستون تشرشل: «المتشائم يرى الصعوبة في كل فرصة، والمتفائل يرى الفرصة في كل صعوبة»، ويقول جبران خليل جبران: «هناك من يتذمر لأن للورد شوكًا، وهناك من يتفاءل؛ لأن فوق الشوك وردة»، وتشير الكاتبة والناشطة الاجتماعية الأمريكية هيلين كيلر إلى أن «التفاؤل هو الإيمان الذي يؤدي إلى الإنجاز».

من الناحية العلمية يؤكد علماء النفس على جميع هذه الأقوال بحيث يشددون على أهمية التفاؤل والتفكير الإيجابي الذي هو السمة المميزة للتطور، لأنّه يسهل تصور ما هو ممكن، ويؤدي إلى الإبداع وتحقيق النجاح.

بالنسبة للعديد من علماء النفس، يعكس التفاؤل الاعتقاد بأن نتائج الأحداث والتجارب ستكون إيجابية بشكل عام، ويرى آخرون أن التفاؤل هو نمط تفسيري، ليس إلّا، بحيث يكمن في الطريقة التي يفسر بها الأشخاص أسباب الأحداث، إذ من المرجح أن يرى المتفائلون أسباب الفشل والتجارب السلبية على أنها مؤقتة وليست دائمة، وأنّها محددة وليست عامة، وأنّها خارجية وليست داخلية، وأن مثل هذا المنظور يمكّن المتفائلين من رؤية إمكانية التغيير بسهولة أكبر. بشكل عام، يشمل مصطلح «التفاؤل» مفهومين أساسيين مترابطين بشكل وثيق: الأول، المتمثل بالميل إلى التمسك بالأمل، والثاني يشير إلى الميل إلى الاعتقاد بأنّنا نعيش في «أفضل العوالم الممكنة»، وهي العبارة التي صاغها الفيلسوف الألماني غوتفريد فيلهلم لايبنتز في كتابه الشهير «نص حول جمال الله وحول حرية الإنسان وحول مصدر الشر» الصادر في 1710. ومن جهة أخرى يمكن القول إن جذور التفاؤل ليست بعيدة عما قاله الكاتب الفرنسي من عصر التنوير ميشل دي مونتين قبل خمسة قرون من أن التفاؤل يبدأ بما قد يكون أكثر المواهب البشرية استثنائية وهو السفر العقلي عبر الزمن، أي القدرة على التحرك ذهاباً وإياباً عبر الزمان والمكان داخل أذهاننا، وأنه من أجل التفكير على نحو إيجابي في الآفاق المستقبلية، من المفيد أن نكون قادرين على تخيل أنفسنا في المستقبل.

وعلى الرغم من أن معظمنا يعتبر هذه القدرة أمراً مفروغاً منه، إلّا أن قدرتنا على تصور زمان ومكان مختلفين أمر بالغ الأهمية لبقائنا، فهو يسمح لنا بالتخطيط للمستقبل، وتوفير الغذاء والموارد لأوقات الندرة، وتحمل أعباء العمل تحسبا لمكافآت مستقبلية.

 

صحة أفضل ونجاح أكبر

مما يدعو إلى التفاؤل أن الأبحاث تظهر أن البشر، بالإجمال، يميلون لأن يكونوا أكثر تفاؤلاً من عدمه، وهذا ما تؤكده العالمة البريطانية المتخصصة في علم الأعصاب تالي شاروت في كتابها «علم التفاؤل: لماذا نحن مفطورون على الأمل»، الذي جاء خلاصة أبحاث شاروت الخاصة في مجال دراسة التفاؤل باستخدام مزيج من التصوير العصبي والعلوم السلوكية لاستكشاف أسبابه. تقول شاروت بأننا نميل لأن نكون متفائلين أكثر من كوننا واقعيين، وأن هذا الأمر يعني الكثير بالنسبة لرفاهيتنا اليومية، بحيث أنه على الرغم من أن الإيمان بمستقبل أفضل غالبًا ما يكون وهمًا، إلا أن للتفاؤل فوائد واضحة في الحاضر. فمع تساوي كل العوامل الأخرى، يتمتع المتفائلون بصحة أفضل، ويعيشون لفترة أطول، ولا يقتصر الأمر على أن الأشخاص الأصحاء هم أكثر تفاؤلًا فحسب، بل إن التفاؤل يمكن أن يعزز الصحة، إذ إن توقع مستقبل جيد يقلل من التوتر والقلق، وهو أمر مفيد للصحة. كما أن الباحثين الذين يدرسون مرضى النوبات القلبية وجدوا أن المتفائلين كانوا أكثر عرضة من المرضى غير المتفائلين لتناول الفيتامينات، وتناول وجبات غذائية قليلة الدهون، وممارسة التمارين الرياضية، ومن ثم تقليل مخاطر الإصابة بأمراض القلب التاجية بشكل عام.

من ناحية أخرى، كشفت دراسة أجريت على مرضى السرطان أن المرضى المتشائمين الذين تقل أعمارهم عن 60 عاماً كانوا أكثر عرضة للوفاة في غضون ثمانية أشهر من المرضى غير المتشائمين الذين لديهم نفس المرض والمؤشرات الصحية الأخرى والعمر الأولي. وفيما يخص حياتنا المهنية، يمكن أن يصبح التفاؤل نبوءة ذاتية التحقق، كما أن التفاؤل يرتبط أيضاً بالنجاح في مجالات متعددة، سواء كان ذلك في مجال الأعمال أو السياسة أو الرياضة، إذ إن لدى الرؤساء التنفيذيين ميلاً لأنّ يكونوا أكثر تفاؤلاً من الأشخاص العاديين، كما هي الحال مع رواد الأعمال، الذين يزداد تفاؤلهم بشكل أكبر بمجرد أن يتخذوا خطوة كبيرة في بدء أعمالهم التجارية. وفي هذا الإطار تقول شاروت: «أعتقد أن التفاؤل هو الذي يسبب النجاح، وليس النجاح الذي يولد التفاؤل، على الرغم من أنني متأكدة من أن الأمر قد يكون في كلا الاتجاهين».

 

تحيز التفاؤل

ولكن معظم العلماء يحذرون من المبالغة في تقدير احتمال توقع أحداث إيجابية، وبالتالي التقليل من شأن الأحداث السلبية المحتملة، وهذا ما يُعرف باسم «تحيز التفاؤل»، وهو أمر، حسب التقديرات العلمية، يمتلكه 80 في المئة من سكان العالم إلى حد ما. والجدير بالذكر أن في جذور تحيز للتفاؤل افتراضين: أولاً، أن الشخص يمتلك سمات إيجابية أكثر من الأشخاص العاديين؛ ثانياً، أن الشخص لديه نوع من السيطرة على العالم من حوله. تقول شيلي لاسليت، الرئيسة التنفيذية لشركة Vitae.Coach الأسترالية التي تستخدم علم الأعصاب والتكنولوجيا كأداة للتدريب على الأعمال: «لولا «تحيز التفاؤل»، لم يكن الجنس البشري ليتقدم»، بحيث تنسب لاسليت الفضل إلى التحيز للتفاؤل باعتباره السمة التي تسمح لنا بتجربة أشياء جديدة، حتى لو كانت على درجة كبيرة من الصعوبة؛ لأنّها تمنع القلق من الشكوك المستقبلية، وتوفر لنا قدراً معيناً من الثقة بأن القيام بذلك سوف يسير على ما يرام. وكلّ ذلك هو أمر محفز للعمل والإنتاج.

والأمر الأكثر إثارة للدهشة في هذا التحيز، هو أنه «يتحدى الواقع»، فعلى الرغم من الأحداث السلبية غير المتوقعة التي تحدث لنا - أو نسمعها في الأخبار - فإنّ الأحداث الإيجابية هي التي تميل إلى ترك الانطباع الأكبر على أنظمة معتقداتنا، بينما تميل الأشياء السيئة إلى أن تحظى بمصداقية أقل، فيتجاهلها بعض الناس تماماً.

باختصار، نحن ببساطة نتعلم بشكل أفضل من الأشياء الجيدة التي تحدث من حولنا، ونتفاعل معها بطريقة أحسن، مما يديم التحيز. ومع ذلك، فإن الإفراط في التفاؤل يمكن أن يؤدي إلى تقييم غير كاف للمخاطر المحتملة، ومن هذا المنطلق تسمي هيلين كيلر هذا التحيز للتفاؤل «التفاؤل المتهور» الذي تميزه عن «التفاؤل الذكي» وذلك في كتابها «التفاؤل» الصادر 1903، فتقول إن: «التفاؤل من دون أساس هو كالبيت المبني على الرمل. يجب على الإنسان أن يفهم الشر، ويعرف الحزن قبل أن يتمكن من أن يعتبر نفسه متفائلاً، ويتوقع من الآخرين أن يصدقوا أن لديه سبباً للإيمان الموجود في داخله». ومن الأمثلة الشائعة على ذلك استهانة المخططين بالميزانيات والأطر الزمنية، وبالنسبة للأشخاص العاديين قد يعني تحيز التفاؤل عدم الحصول على تأمين صحي، أو عدم ارتداء خوذة في أثناء ركوب الدراجة، أو ربما حتى الإصابة بالأمراض المعدية؛ بسبب عدم اتخاذ الاحتياطات الكافية.

ومن ناحية أسباب وجود تحيز التفاؤل فقد وجد الباحثون أنّه نتاج الطبيعة والتنشئة على حد سواء، بحيث تظهر الدراسات التي أجريت على التوائم، على سبيل المثال، أن الجينات تؤدي دوراً يتراوح بين 30 إلى 40 في المئة فيما يتعلق بوجود النزعة التفاؤلية، بينما تلعب التربية دوراً في النسبة المتبقية. ويعتبر ذلك أمراً مفيداً، لأنّ فهم الدور الذي يلعبه تحيز التفاؤل في حياتنا وتعلم كيفية التأثير في مستويات التفاؤل لدينا يمكن أن يساعد على الاستفادة من فوائده وتجنب المخاطر المصاحبة له.

 

مخاطر التفاؤل المفرط

وأخيراً يمكن القول إن، نعم، التفاؤل غير عقلاني على مستوى ما، ويمكن أن يؤدي إلى نتائج غير مرغوب فيها، لكن التحيز للتفاؤل يمكنه أن يحمينا ويلهمنا في آن، فهو يجعلنا نتحرك للأمام ويمنحنا الأمل. ومن أجل تحقيق التقدم، يجب أن نكون قادرين على تصور حقائق بديلة، وليس فقط أي واقع قديم، بل واقع أفضل، بالإضافة إلى الثقة بأننا قادرون على الوصول إليه، ومثل هذا الاعتقاد يساهم في تحفيزنا للسعي وراء أهدافنا.

فالسؤال الذي يمكن طرحه هنا هو: كيف يمكننا أن نبقى متفائلين، مستفيدين من ثمار التفاؤل، في الوقت نفسه الذي نحمي فيه أنفسنا من مخاطر التفاؤل المفرط؟ نحن لا نولد بفهم فطري لتحيزاتنا، بل علينا أن نتعرف على أوهام الدماغ من خلال الملاحظة العلمية الدقيقة والتجارب الخاضعة للاختبار. وبمجرد أن ندرك أوهامنا المتفائلة، يمكننا أن نعمل على حماية أنفسنا منها. والخبر السار هو أن الوعي نادراً ما يحطم الوهم، فيبقى الكأس نصف ممتلئ. من الممكن تحقيق التوازن، أي الاعتقاد بدوام الصحة الجيدة في الوقت نفسه الذي نحصل فيه على تأمين صحي على أي حال؛ واليقين بأن الشمس سوف تشرق، ولكننا نأخذ مظلة معنا في طريقنا للخروج من البيت فقط في حال هطول المطر، والإدراك بأنّ الموت ينتظر في مكان ما في المستقبل، ولكننا نستمر في العمل والإنجاز والحلم بمستقبل أفضل.

على أي حال، يجب التمسك بالأمل والإبقاء على أحلامنا الكبيرة لأنّه، وكما عبرّت الكاتبة الأمريكية دبي ميلمان في كتابها «انظر في كلا الاتجاهين: مقالات مصورة عن التقاطع بين الحياة والتخطيط»: «إذا تخيلت القليل فأنت تستحق القليل بلا شك... فأطلق العنان لخيالك واحلم الأحلام الكبرى».

ارسال التعليق

Top