• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

آفات العمود الفقري

آفات العمود الفقري

التقدم في العمر سبب أوّل لآفات العمود الفقري تَليه الأحمال الثقيلة و... الوزن الزائد!

70 بالمئة من المصابين بالـ"ديسك" تتحسّن أعراضهم بعد تعاطيهم العلاج الدوائي وخضوعهم للمعالجة الفيزيائية.

·      معظم مرضانا يعالجون جراحياً عن طريق شقوق صغيرة تجري فوق المنطقة المصابة من عمودهم الفقري.

·      أنصح بالتمارين الرياضية المدروسة والمنتظمة ولاسيّما السباحة.

 

مَن منّا لم يَشْكُ من آلام الظهر مرّة (أو مرّات) في حياته؟ لا أحد بالتأكيد! إلا أنّ هذه الآلام قد لا يتعدّى سببها أحياناً، تشنجاً عضلياً نتيجة اتخاذنا وضعية غير صحية أو حملاً ثقلاً غير عادي أو تعرّضاً للبرد في معظم الأحيان. غير أنّ السبب كثيراً ما يكون علّة بسيطة أو معقدة في العمود الفقري، ذلك العضو الذي يدعم جسمنا بالكامل، ويسمح لنا (دون بقية المخلوقات) أن نمشي بوضعية الوقوف على طرفين وحسب.

وقد خطا الاختصاص الذي يتناول أمراض العمود الفقري بالتشخيص والمعالجة، خطا خطوات كبيرة في العقود القليلة الفائتة، فلم يعد، مثلاً، الأطباء يطالبون المرضى بالاضطجاع على السرير أيّاماً وأسابيع بعد حدوث أي طارئ يعكّر صفو "سلسلة الظهر"، كما جرت العادة من فترة غير بعيدة، ولم يعد الجراح ملزماً بإجراء عمليات واسعة يحتاج المريض بعدها للمكوث في المستشفى فترات طويلة..

وللإطِّلاع على ما استجد في هذا الموضوع الذي يهمّ شريحة كبيرة من القرّاء، التقينا الطبيب الجراح موفق عبدالحق، رئيس قسم الجراحة العصبية في مستشفى "هنري فورد" بمدينة ديترويت بالولايات المتحدة، وأجرينا معه الحوار التالي:

س: لقد أصبح اسمكم لامعاً في مدينة ديترويت وولاية ميشيغان بكلِّ ما يخص جراحة العمود الفقري. هل يمكن أن نبدأ حديثنا بأخذ فكرة عن العلل والآفات المتعلقة بالعمود الفقري التي تُعرض عليكم؟

ج: العمود الفقري، كما هو معروف، مؤلف من 26 قطعة عظيمة تدعى الفقرات، تفصل بينها أقراص غضروفية مدورة disks تسمح له بالانحناء لأي من الجهات الأربع. وككلّ عضو في الجسم، يتعرّض لعدد من العلل المرضية تدعو المريض لعيادة الأطباء للمعالجة الداخلية أو الجراحية، يمكن تصنيفها فيما يلي:

-         أمراض تنكسية تحصل مع تقدُّم العمر، مثل التهاب المفاصل التنكسي osteoarthritis، والتضيّق الفقري spinal stenosis، والانزلاق الغضروفي herniated disc (أو ما يدعى باللغة الدارجة "ديسك").

-         اذيات ورضوض، كالكسور التي تصيب الفقرات بعد حوادث الاصطدام أو السقوط من مكان مرتفع.

-         التهابات إنتانية كالتي تحدث بعد غرز إبرة ملوثة في القناة الشوكية.

-         الأورام بأنواعها.

-         حالات خاصة بالعمود الفقري مثل التهاب الفقار اللاصق ankylosing spondylitis والجنف (التواء العمود الفقري) scoliosis.

س: انّ العرض الأوّل لعلّات العمود الفقري هو ألم الظهر، وهناك، كما هو معروف، أكثر من طريقة لمعالجة هذا الألم الشائع.. هل يمكن أن تشرح لنا الأسباب التي تتسبب بهذا الوجع، وكيف تتصرفون حيالها؟

ج: تَنتج آلام العمود الفقري المختلفة عن الضغط الذي يحصل على النخاع الشوكي (الذي يقبع داخله ويتصل بالدماغ في جمجمة الرأس)، أو عن الضغط على الأعصاب التي تتفرع من النخاع الشوكي. وهذه الآلام إما أن يكون محورياً تتمركز في الرقبة أو الظهر (حسب توضع المرض)، أو ينتشر إلى النواحي التي تتفرّع إليها الأعصاب المحيطية المتعرضة للضغط (حسب توزع هذه الأعصاب في الأطراف). ومهما يكن من أمر، فوسائل التشخيص صارت اليوم متطورة جدّاً بحيث يمكن تحديد سبب هذه الآلام بدقة متناهية، وصار بالإمكان وصف العلاج اللازم لكلِّ حالة..، والعلاجات تتراوح بين الطرق البسيطة التي لا تتعدى تناول الأدوية أو التمارين الفيزيائية أو حقن الدواء حول النخاع الشوكي epidural، إلى أن تصل للطرق المعقدة التي تشمل الجراحة العصبية المختصة.

ويمكن القول أنّ الجراحة لا توصف اليوم إلا للحالات القليلة التي لا تستجيب للعلاجات البسيطة والمحافظة.

س: ما هي أكثر آفات العمود الفقري شيوعاً؟

ج: أكثر آفات العمود الفقري شيوعاً هي الآفات التنكسية التي تحدث مع تقدم العمر، وأكثر ما تتظاهر به. الانزلاق الغضروفي disc herniation (حيث يحدث فتق للنواة اللبية في القرص الغضروفي المتوضع بين كلّ فقرتين)، أو التضيّق الشوكي spinal stenosis (حيث يحدث تضيق. في القناة الشوكية بسبب تكلّسها)، ويحدث الانزلاق الغضروفي عادة في العقدين الرابع والخامس من العمر، بينما يحدث التضيّق الشوكي في العقدين السادس والسابع، وكلتا الحالتين تتظاهران بأعراض متشابهة، هي عبارة عن ألم متوضع في الظهر (أو الرقبة)، قد يمتد إلى أحد الأطراف، وقد يصاب الغضروف نفسه بالالتهاب في حالات نادرة..

س: لنأخذ كمثال شائع عن أمراض العمود الفقري حالة الانزلاق الغضروفي، (المعروف شعبياً بالـ"ديسك"). هل يمكن أن تعرّف قراءنا باختصار على هذا المرض.. لماذا يحدث، وما هي عواقبه، ومتى تستوجب معالجة "الديسك" بالجراحة؟

ج: إذا تكلّمنا عن الانزلاق الغضروفي بشكل خاص، فسببه يعود، في معظم الحالات، لتنكّس (اهتراء) القرص الغضروفي مع تقدم العمر، لكنه قد يحدث بسبب رض أو حمل ثقيل غير عادي أو اتخاذ وضعية غير مناسبة، خاصة في الشباب تحت سن الـ40 عاماً، وهو يحصل في منطقة العمود الفقري السفلية (القطنية) أكثر بكثير من المنطقة الرقبية أو الصدرية.

ومتى حدث هذا الانزلاق، يتعرّض المصاب لأهم مضاعفات آفات العمود الفقري، وهي انحباس entrapment الأعصاب التي تتفرع عن النخاع الشوكي، والتي تؤدّي عادة لآلام تمتد لأحد الساقين تحت مستوى الركبة.. هذه الآلام قد تكون أسوأ من ألم الظهر، وقد تترافق بحس الخدر (التنميل)، وضعف في عضلات الساق المصابة.. وهي كثيراً ما تخف عند الاضطجاع، وتزداد عند الوقوف أو المشي، وعند رفع الساق.

إنّ الخطورة من انحباس الأعصاب المحيطية هو تخرّب العصب المنحبس، الأمر الذي لا يمكن ترميمه في المستقبل، لذلك يعتبر هذا إحدى علامات الخطر التي تستوجب المداخلة الجراحية المستعجلة.

بالنسبة للعلاج، نبدأ في إصابة الانزلاق الغضروفي بالمعالجات المحافظة (الأدوية المسكنة والمضادة للالتهاب، ثمّ المعالجة الفيزيائية بعد أسبوعين) والتي يستجيب لها معظم الحالات.. فإذا بقيت الأعراض أكثر من 3 إلى 6 أسابيع رغم المعالجة الحثيثة، وإذا ترافقت خاصة بعلامات الخطر الحمر، كان لابدّ من الاستشارة العصبية الجراحية دون تلكوء.

وفيما يلي نعرض علامات الخطر هذه التي تستوجب العمل الجراحي، والتي لا تنحصر فقط في حالات الانزلاق الغضروفي، بل تشمل كلّ آفات العمود الفقري:

-         ضعف وضمور في عضلات الطرف المصاب مع فقدان المنعكسات العصبية عند الفحص السريري.

-         فقدان الحس في الناحية المصابة (سواء في الطرف المصاب، أو في المقعدة – العانة والشرج).

-         تعطل مفاجئ لوظيفة المثانة (التبول).

-         تعطل مفاجئ في معصرة الشرج (عدم التحكّم في البراز).

س: لنتكلّم قليلاً عن المعالجة المحافظة لآلام الظهر الناتجة من آفات العمود الفقري. كيف تبدؤون العلاج، وكيف تتطور المعالجة مع تفاقم الحالة؟

ج: نبدأ المعالجة عادة بالمسكنات (مثل Paracetamol) مع الأدوية المضادة للالتهاب غير السيترويدية، فإذا بقي الألم، كثيراً ما نضيف أدوية أقوى مثل codeine أو tramadol، وقد نصف بعض مضادات التشنج مثل diazepam إذا احتاج الأمر.. كلّ هذا مع نصح المريض بالحركة والرياضة الخفيفة (خاصة السباحة)، فلا دور هنا للمعالجة القديمة بالاضطجاع على السرير. إلا اننا ننصح المريض كذلك بتجنّب كلّ ما من شأنه زيادة أعراضه حدة، مثل رفع الأثقال، والجلوس الطويل، كما قد يفيد تطبيق الحرارة الموضعية والمساجات المدروسة في تخفيف الأعراض.

فإذا بقي الألم أسبوعاً إلى أسبوعين رغم هذه الإجراءات، انتقلنا للمعالجة الفيزيائية المختصة، وإذا لم تحصل الفائدة المرجوة بعد أسابيع قليلة، أو إذا ظهرت أي من علامات الخطر التي تحدثنا عنها، فلابدّ من استشارة اختصاصي عصبية/ جراحية لإجراء الاسنقصاءات اللازمة، ابتداء بالصور الشعاعية العادية، ثمّ الدراسات الأكثر تعقيداً، مثل الدراسة الطبقية المحورية مع تصوير القناة الشوكية CT myelography، أو التصوير بالمرنان MRI، ويُقرَّر على أثرها مدى الحاجة للعمل الجراحي.. ونكرر أنّ معظم الحالات تُشفى قبل أن نصل لهذه المرحلة.

س: ما هو الإنذار (أو التوقعات المحتملة) بعد الإصابة بحالة الانزلاق الغضروفي؟

ج: انّ التوقعات حسنة لمعظم المرضى الذين يصابون بحالة الانزلاق الغضروفي، فحوالي نصف المرضى تتحسن أعراضهم خلال 10 أيّام، و75% منهم خلال 4 أسابيع، لكن حوالي 30% منهم تبقى الأعراض لديهم لمدة سنة أو أكثر إذا لم يلجؤوا لمعالجة تداخلية أو جراحية، والتوقعات أسوأ حتما للمرضى الذين يشكون بالأساس من علل أخرى تمنعهم من الحركة والرياضة، وهي أسوأ عموماً لدى النساء مقارنة مع الرجال.

س: لنأتِ الآن للمعالجة الجراحية، إذ احتاج الأمر للتداخل الجراحي، فما هي أكثر العمليات التي تطبقونها؟

ج: معظم مرضانا اليوم يعالجون جراحياً عن طريق شقوق صغيرة تجرى فوق المنطقة المصابة من عمودهم الفقري، وهو ما ندعوه (minimal access spine technology MAST)، وهذه الطريقة تصلح لأكثر حالات العمود الفقري الجراحية مثل الانزلاق الغضروفي، والتضيّق الفقري، والتهاب المفاصل الفقرية، ونحن نتوقع بعد عملياتنا تحسنا بنسبة 90% في استعادة الوظائف الحركية – الحسية وزوال الألم.. وما يجعل هذه الطريقة مفضَّلة على الطرق القديمة التي تعتمد الجروح الكبيرة المخرِّبة للعضلات، هو قصر فترة التخدير، وانعدام الحاجة لنقل الدم، وضآلة الألم الناتج من العملية، وقصر فترة الاستشفاء.

أمّا أنواع العمليات المجراة (حسب حاجة الحالة المرضية) فتشمل توسيع مجرى الأعصاب الشوكية التي تخرج من القناة الشوكية، أو استئصال الغضروف المنفتق، أو لحم فقرتَين أو أكثر لمعاجة عدم استقرار الناحية.. وفي بعض الحالات نجري تبديل القرص الغضروفي (الديسك) بأخر صنعي. أمّا استخدام الليزر لاستئصال الديسك بالمنظار فما يزال غير معتمد عالمياً لعدم استكمال دراسته.

ولابدّ أن نذكر أنّ هناك حالات مرضية معقدة تحتاج لإجراءات خاصة لا تتم إلّا عن طريق الشقوق الجراحية الواسعة التقليدية، مثل حالات الأورام، وتصليح التواء العمود الفقري الولادي (الجنف).

س: ختاماً، ماذا تنصح قراءنا لتفادي الإصابات في العمود الفقري التي قد تجرّهم إلى طاولة العمليات؟

ج: أهم ما أنصح به هو التمارين الرياضية المدروسة والمنتظمة، والتي يجب أن تجرى إلى جانب تخفيض الوزن إلى الحدود المثالية، ثمّ هناك تجنب الأحمال الثقيلة، واعتماد الحركات اليومية الأمنة، مثل القرفصاء لحمل الأشياء، والجلوس والقيام بالشكل الصحيح، والمشي بالوضعية الصحية السليمة.

المصدر: مجلة طبيبك/ العدد 665 لسنة 2013م للكاتب د. موفق عبدالحق

ارسال التعليق

Top