• ٢٨ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٨ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

مفهوم الاستقامة

مفهوم الاستقامة

◄وهذا المعنى يتوضح من خلال المفاهيم الآتية:

 

"(ربُّنا الله) تحدّدُ لكَ الهدف، والطريق والجوَّ.. فهي كلُّ حياتِك".

 

مفهوم الاستقامة:

من المفاهيم التي أراد الله أن يؤكدها في وجدان النبيّ (ص) في خط الدعوة والحركة وفي وجدان كلّ المسلمين الذين اتبعوه، مفهوم الاستقامة، الذي أراد الله وله ولكلمة التوحيد أن يلخصا كلّ الإسلام وكلّ الدعوة، بحيث تكون الدعوة منطلقة من قاعدة التوحيد ثمّ الامتداد في خط الاستقامة، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) (فصّلت/ 30).

 

كيف نفهم المسألة؟

إنّنا نفهم المسألة على أساس أنّ لكلّ عقيدة قاعدة تنطلق منها، ولابدّ لهذه القاعدة أن تنفذ إلى كلّ جزئية من جزئيات هذه العقيدة، إنّ القاعدة هي الروح لكلّ عقيدة ولكلّ تيار ولكلّ مبدأ. والله سبحانه وتعالى جعل قاعدة الرسالات كلّها (رَبُّنَا اللَّهُ). فلقد جاء الأنبياء بهذه الكلمة وفرّعوا عليها مما أراد الله لهم أن يفرعوا، فإن تنطلق من أنّ الله ربّك وحده لابدّ أن تعيش معنى الربوبية في ذاته، وحركتها في ذاتك، فالربوبية في ذات معناها أنّه هو الذي أعطى كلّ شيء وجوده وحركته وكلّ عناصر الحيوية فيه وكلّ امتدادات الحياة له، وأنّه أعطاه ذلك ورعاه وربّاه وأراد له أن يعيش معه وأن يتحسس هذه المعيشة مع الله، أما في وعي العبد الربوبية لله، فإنّ ذلك يتمثل في إحساس العبد العبودية لله، والعبودية هنا ليست خطاً قانونياً كما تعارف الناس أن يضيفوا عبداً إلى سيده، ولكنها عبودية تنطلق من معنى الخلق في العبد، فنحن عبيد الله لأنّ ذاتنا هي ذات العبودية ولأنّ الله هو الخالق فهو المالك، فملكية الله لنا هي سرّ وجودنا، فنحن لا نملك الوجود المستقل بل نحن نملك الوجود الظل.

 

العبودية لله:

ومن هنا فإنّ معنى أن يكون الله ربّك أن تكون أنت عبده، وأن تكون أنت عبده أن تسير في الخط الذي يجسد هذه العبودية، أن لا تتحسس من عبوديتك أمام الله، أن لا يخطر في بالك أن تعطي فكرك الحرّية التي ينفصل بها فكرك عن الله، وأن تعطي قلبك الحرّية التي تبتعد فيها عاطفتك عن الله، وأن تعطي حركتك الحرّية التي تذهب بعيداً طاعة الله فيما أمر وفيما نهى.

أنت عبد في دائرة الله وعبوديتك هي سرّ حريتك أمام الكون وأمام الناس، فأنت توحّد الله لتوحيد عبوديتك له، ثمّ لتنطلق في كلّ الساحات لتشعر أنّك حرٌّ في فكرك أمام فكر الآخرين. عندما تكون القضية خصوصية فكرك وأنت حرّ أمام الآخرين، بحيث تقول ربّي الله، فلا معنى لأن تكون لك شريعةٌ غير شريعته، وأن تقول ربي الله فلا معنى لأن يكون لك أولياء غير أوليائه، أو يكون لك أعداء غير اعدائه، لأنّك لا تملك استقلالك في العاطفة أمام ما يريده الله لك في حركة العاطفة في وجدانك.

وهكذا فإن تؤيد هنا أو ترفض شخصاً، خطاً، نهجاً، موقعاً هناك.. أن تَسْتَفتي رأيك قبل أن تعطي الموقف تأييداً، وأن يكون الذي تؤيده ممن يرضى الله عنه شخصاً، فكراً، نهجاً، موقفاً واقعاً وأن ترفض مثل ذلك إن كان ممن لا يرضى الله عنه.

 

اختبار الذات:

وإذا أردت أن تعرف نفسك فإنّ أهل البيت يقولون فيما يُروى عنهم (عليهم السلام) "إذا أردت أن تعرف نفسك فانظر قلبك كان قلبك يُوالي أولياء الله ويعادي أعداء الله ففيك خير والله يحبّك" لأنّك فتحت قلبك فجعلته بين يدي الله "وإن كان قلبك يوالي أعداء الله ويعادي أولياءه فليس فيك خير والله يبغضك، والمرء مع مَن أحب" فإذا أحببت الله أحببت مَن يُحب، وإذا أحببت الله أبغضت مَن يُبغض.

تلك هي المعادلة العاطفية والحركية فيما هو الموقف والموقع. "ربّنا الله" ثمّ انطلق أمامك، ولا تلتفت يميناً ولا شمالاً "ربّنا الله" تحدد لك الطريق، و"ربّنا الله" تحدد لك الهدف، و"ربّنا الله" تصنع لك الجو، و"ربّنا الله" تحرك لك الأسلوب، و"ربّنا الله" هي كلّ حياتك (ثُمَّ اسْتَقَامُوا). والله سبحانه وتعالى يقول: (وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) (يس/ 61). هذا القرآن وهذا الإسلام هو الصراط المستقيم الذي تمتثلون فيه إلى الله قبل صلاتكم (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) (الفاتحة/ 6). والله يقول لكم: إنّكم تطلبون هدايتي لكم إلى الصراط المستقيم (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ) (الأنعام/ 153). ولذلك قال الله لرسوله (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ) (الشورى/ 15). لدعوتك ولا يضلك الآخرون، لا يضغطوا عليك باغراءاتهم تارة وبترهيباتهم أخرى، لا يندفعوا إلى نقاط ضعفك ليثيروها حتى يسقطوا موقفك (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلا * وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ) (الإسراء/ 73-74).

 

استشعار معيّة الله:

بالعصمة والنبوّة والقوّة الروحية التي تملكها (لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلا) (الإسراء/ 74). وهذه هي طبيعة الضعف البشري عندما يندفع إليه الآخرون ليضغطوا عليه، ولكن الأنبياء كانوا يملكون قوة الروح وقوة الفكر وقوة الموقف (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ) (التوبة/ 40). فمهما يجادلك الآخرون ومهما اقتربوا منك ليسقطوك ومهما ضغطوا عليك فلا تحزن لسنا وحدنا (إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) وهذه الـ"معنا" ليست للنبيّ وحده، بل هي لكلّ مَن ينفتح على الله ليشعر أنّ الله معه (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ). كلّ الناس (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) (آل عمران/ 173). أنتم وحدكم وأنتم الضعفاء في الساحة... حاولوا أن تعطوا بأيديكم إعطاء الذليل وأن تقروا إقرار العبيد، ألغوا شخصياتكم، ألغوا مواقفكم، لأنّ الناس قد جمعوا لكم (فاخشوهم) فالفرد عندما يندفع المجتمع ضده فإنّه يشعر بالإحباط وباليأس والاهتزاز والزلزال والسقوط، لذلك فاخشوهم، ولكنهم لم يلتفتوا إلى الناس، كانوا يعيشون في عالم آخر، كان الناس يهددونهم بالناس وكان الإصرار ينفتح بهم على الله ويمنحهم القوّة ويجعلهم يخشون الله ولا يخشون الناس، فزادهم هذا الكلام وهذا التهديد، زادهم إيماناً، عرفوا أنّهم في الموقف الصحيح، عرفوا أنّهم استطاعوا أن يُنزلوا بمجتمع الكفر ضعفاً أو يفتحوا فيه ثغرة ولذلك اجتمع عليهم..، وكلّما اجتمع الناس عليك ووقفوا ضدك وسبّوك وشتموك فإنّ معنى ذلك أنّك بدأت تترك تأثيرك في الواقع، أما عندما تنطلق ويمدحك الظالمون ويهلل لك المنحرفون ويصفق لك الضالون إعرف أنّك لست في الطريق الصحيح. أفصح عن نفسك وفكرك وطريقك، لكن عندما تبدأ اللعنات والاتهامات، والشتائم والتحديات أعرف أنّك بدأت تترك شيئاً في الأرض، وبدأت تدخل بعض القلوب وبعض العقول (فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ) (آل عمران/ 173). إنّ الله معنا، وإذا كان الله معنا فالله الكافي من كلّ شيء ولا يكفي منه شيء وهو "نعم الوكيل" وكانت النتيجة (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ – بوساوسه ومخاوفه وتحركه على نقاط الضعف - يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ) (آل عمران/ 174-175).

فلا تكونوا أولياءه لتكونوا المهزومين، ولا تكونوا أولياءه الضعفاء (فلا تخافوهم)، إنّهم لا يملكون أن يضروكم أو ينفعوكم إلّا بإذن الله إذ ليست لهم القوّة في ذلك. مَن هو صاحب القوّة (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) (البقرة/ 165). و(إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) (يونس/ 65). (وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران/ 175). (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ) (الشورى/ 15). وهذا هو خط الاستقامة في الحكم.

 

خط الاستقامة في الحكم:

أعدل بينكم في الحكم وفي القانون وفي كلّ ذلك الواقع (وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ) (الشورى/ 15). (اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ) (الشورى/ 15). وهو ربّ العالمين جميعاً وليس ربّ فئة دون فئة، الله ربّنا وربكم (لَنَا أَعْمَالُنَا) (الشورى/15) التي نتحمل مسؤوليتها، (وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ) (الشورى/ 15). (لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ) (الشورى/ 15). تقطعت الحبال بعد أن رفضتم الحوار، (اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (الشورى/ 15). هذا هو الخط، خط الاستقامة فيما ينفتح به الإنسان على الحياة، وهكذا كانت النتيجة (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا) (فصّلت/ 30). ممّ تخافون والله قد أعطاكم الأمان (وَلا تَحْزَنُوا). لماذا تحزنون والفرحة الإلهية تتفجر في قلوبكم بالنعيم والرضوان، (وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) (فصّلت/ 30). ستجتازون ظلمة القبر ووحشته وأهوال القيامة ومشاكلها (وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ)، فارقتم أولياءكم وتحسون بالوحشة الآن.. (نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) (فصّلت/ 31)، كنّا معكم من حيث لا تشعرون، كنّا معكم عندما كنتم تطيعون الله وتجاهدون في سبيله ونحن أولياؤكم في الحياة الآخرة حيث يصور الله لنا المشهد في آية أخرى. (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ) (الرّعد/ 23-24). كانت قصتكم قصة صبر، صبر على الطاعة، وصبر على المعصية، وصبر على بلاء الله (فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) (الرعد/ 24)، (وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) (فصّلت/ 31-32). وتلك هي النهاية الحلوة، رضوان الله وجنّته، ولكن بشرط أن تكون مخلصاً وأن يكون الله ربّك وأن تستقيم في هذا الخط، أن يستقيم فكرك في خط التوحيد وأن يستقيم قلبك في خط التوحيد وأن تستقيم حركتك في خط التوحيد وإذا امنت في كلّ حياتك بالله، فمن الطبيعي أن لا تنفصل عن الله في الآخرة إذا لم تنفصل عنه في الدنيا. (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) (النحل/ 128).►

ارسال التعليق

Top